على الصعيد الاجتماعي كان «أمل دنقل» قنبلة موقوتة معدة للانفجار. عصبي، سليط اللسان، لا يعرف العتاب. يتحاشى الأدباء والشعراء الحديث معه عقب انتهاء الأمسيات الشعرية والأدبية التي يصر على حضورها في أتيليه القاهرة أو دار الأدباء، يهرب غالبيتهم من مجرد المرور أمام كافيه «ريش» خوفًا من رؤيته.

على الرغم من صداقة وطيدة بينه وبين القاص «يحيى الطاهر عبد الله»، لم يحتمل أي منهما الإقامة معًا في فندق «الخليج» بشارع طلعت حرب، فرَّ كلاهما بعد شهر واحد فقط، أطلق عليه أمل «شهر العذاب»، لم يكن يجرؤ أحد أن يخوض في سيرة أي منهما أمام الآخر لكن ظلَّت علاقتهما على جمر من نار.

لا يكف أمل عن استفزاز «صافيناز كاظم»، يُفسِد لها كل مشاريع الزواج كما تقول، في فورة غضب تقذفه بكوب شاي ساخن فوق ملابسه، تدوم القطيعة لأعوام، لكن في النهاية تظل واحدة من أقرب أصدقائه.

يتشاجر أمل مع الشاعر «نجيب سرور» بالأيدي، ثم يشربان معًا في مساء نفس اليوم في بار كازابلانكا.

يُنصِت أمل في اهتمام إلى صاحبة البار الذي يسهر داخله هو والدكتور «فهمي عبد السلام» وكاتب السيناريو «سيد مرسي»، يُصادِقها، تستدعي أمامه ذكريات سبعين عامًا هي عمرها، تحكي له عن زمن بادلها فيه «كامل بك الشناوي» القصائد، وبادلته الغرام، قبل أن يتداعى جمالها.

يتسامح أمل مع إشاعات يطلقها سيد مرسي في كل مكان، يكتفى بالسخرية من اتهامه له باستغلال «راسبونيته» للزواج من المرأة العجوز حتى يرث البار والشقة، لكن بمجرد أن يحل موعد آخر لطقس من طقوس السهرة داخل مقهى «الحرس» بميدان «التوفيقية» حيث عالم القاهرة السفلي في سبعينيات القرن الماضي، ينزع أمل بسلاسة عن سيد مرسي أي اعتراف به كشاعر أغنية، ينتزع منه زعامة المقهى الفكرية والثقافية، وسط ترحيب صادق من بائعي البرشام والمدمنين وباقي روَّاد المقهى.[1]

لم يسلم من شظايا أمل سوى اثنين، «جابر عصفور» الذي لم يتخلل طوال سنوات صداقتهما خلاف واحد، لدرجة أن هذا الأخير لم يُدرِك قرار فصله من الجامعة إلا عندما رأى أمل يحنو عليه في شدة. أمَّا الشخص الثاني فكان «عبلة الرويني».

لقد أحببتك

أأنا أحببتك حقًّا… إنما لست أدري… أنا أم أنتِ الضحية.

بحماس الخطوات الأولى داخل بلاط صاحبة الجلالة، وقبل أن يُزيِّن الحبر قرار تعيينها في «أخبار اليوم»، صمَّمت عبلة الرويني أثناء فترة تدريبها هناك على إجراء حوار صحفي مع أمل دنقل.

لم يردعها التحذير بأنه شيوعي، ولم تقتنع بفكرة أن مثله ممنوعون من النشر. ظلت عبلة تبحث عن أمل كل يوم في مقهى «ريش» صباحًا، لم تكن تعلم أنه لا يذهب إلى هناك أو إلى مقهى «الفيشاوي» إلا مع ساعات الفجر الأولى كي ينهمك في حل الكلمات المتقاطعة بمجرد أن يُمسِك الطبعات الأولى من الصحف. في النهاية رفق بها أحد الجرسونات وأخبرها أنه لا يأتي إلا في المساء. [2]

على سماعة الهاتف في دار «أخبار اليوم» لم تصدق عبلة أنه استجاب لرسالة رقيقة تركتها له في «ريش»، تسمَّرت أذنها وأمل يُحدِّد لها موعد اللقاء الأول في الثامنة مساءً بدار «الأدباء» في شارع قصر العيني.

في اللقاء الثاني خرجت عبلة خلف أمل من مقهى «ريش» بعد أن شعر أنها غير مرتاحة للمكان، اصطحبها بحنو وحذر ليفاجئها بأن المكان الأكثر راحة من وجهة نظره هو بار فندق «كوزموبوليتان»، حيث منحها هناك زجاجة بيرة بيده. كان هذا أول موضوع صحفي يُنشر لها على صفحات جريدة الأخبار، وكان الأخير في الوقت نفسه.

مضى اللقاء الثالث والرابع، وأسقطت عبلة كل حسابات أمل عندما حاول تحذيرها قائلًا:

يجب أن تعلمي أنك لن تكوني أكثر من صديقة.

أربكته بإجاباتها في نهاية اللقاء على سؤاله أن يراها غدًا وهو يمد يده مُصافحًا:

بالتأكيد… لقد أحببتك.

وتوالت اللقاءات

يذكر «جمال الغيطاني» أنه لا يتذكر اليوم أو الشهر أو حتى السنة التي رأى فيها لأول مرة أمل بصحبة عبلة، لكنه يتذكر جيدًا التفاصيل، كان قادمًا في اتجاه الميدان داخل شارع «سليمان باشا»، وكان أمل قادمًا منه بصحبة شابة، جميلة، أنيقة، يُوحي مظهرهما أنها حجزت لها مقعدًا بارزًا في حياة أمل. [3]

رآهما الغيطاني بالقرب من مقهى «ريش»، مقر لقائهما الدائم، حيث يمكن للشاعر الذي يملك بنطالًا وحيدًا أسود يُزيِّنه ثقب سيجارة أعلى الركبة، تأجيل دفع ثمن كوب من الشاي.

كان أمل الذي فقد والده العالم الأزهري في سن العاشرة ليذوق بعد العزوة والثراء قسوة اليتم، عكس عبلة المنتمية إلى أسرة ثرية تملك أشجار القطن وتربَّت على أيدي راهبات فرنسيات بمنزل هادئ.

كان خشنًا حادًّا لا يُجيد عبارات الغزل أو الإطراء، يرى في الإفصاح عن مشاعره ضعفًا، بينما عبلة هي التي تطلب لقاءه وتبحث عنه. كانت العلاقة بينهما مزيجًا من غضب وعناد وشجار دائم، وكثير من الحب.

كان يرى أنها ستشقى معه، فهو لا يملك قوت يومه، وهي تصر على أن الشقاء بدونه حتى لو ملكت قوت الغد.

في النهاية، تزوجت عبلة من صعيدي تخلَّى عن شرفه مُمثلًا في بيع قراريط ورثها عن عائلته في الجنوب، حتى يُقدِّم لها خاتم ألماس، أصرت أسرتها عليه. والأهم أنها تزوجت من موظف فاشل كسول، لا يذهب إلى العمل في مواعيده أبدًا.

في بداية الزواج كان راتب أمل من وظيفة رتَّبها له «يوسف السباعي» في «المؤتمر الآسيوي الأفريقي» ثلاثين جنيهًا شهريًّا لا غير، أضافت عليها عبلة خمسين جنيهًا هي كل راتبها. التهم إيجار الشقة وحده الخمسين جنيهًا، بالإضافة إلى عشرة أخرى أجرة الشغَّالة، ليتبقى عشرون جنيهًا من أجل البقاء على قيد الحياة حتى آخر الشهر.[4]

كالعادة لم يهتم أمل بالاستمرار في عمله، كما لم يهتم بآخر وفره له أيضًا يوسف السباعي في دار الهلال، قبل أن تتوارى جانبًا فكرة سفر للعمل في بيروت.[5]

تسعة أشهر من الزواج بلا منزل ثابت أو سكن محدد، ينتقلان من فندق إلى شقة مفروشة، حتى اكتشف أمل إصابته بالسرطان.

في الغرفة رقم 8 بمعهد الأورام بدأ فصل آخر من رحلة الشقاء، حدَّد الطبيب موعد إجراء جراحة ثمنها 500 جنيه على الأقل، استلفها أمل بالكامل قبل أن يُغطي صندوق الفنانين بوزارة الثقافة نفقات العلاج.

بعد خمسة شهور من الجراحة الأولى ظهر ورم سرطاني آخر تبخَّرت مع حدة انتشاره فكرة اللجوء إلى إجراء جراحة أخرى، لتصبح الغرفة 8 بالدور السابع في معهد الأورام أول سكن دائم ومنزل حقيقي أقام فيه الزوجان لأكثر من عام ونصف، توافد خلاله الزائرون، وانهالت الرسائل، وصار الغداء في الغرفة 8 وجبة جماعية.

حديث الغرفة 8

رصدت أحداث اللحظات الأخيرة في حياة «أمل دنقل» المخرجة الكبيرة «عطيات الأبنودي» في 26 دقيقة هي مدة فيلمها «حديث الغرفة 8»، الذي أخرجته داخل الغرفة الصغيرة بمعهد السرطان.

يبدأ الفيلم قبل نزول التترات بمشهد طويل لأم الشاعر أمل دنقل أمام قبره المتواضع، تحكي فيه عن طفولته الصعبة التي جعلت منه رجلًا في وقت مبكر، ثم تنزل التترات ليظهر بعدها أمل على سريره بمعهد الأورام داخل الغرفة 8، مُتحدثًا عن نفسه في حضور أصدقائه «طه بدر» والشاعرة «ملك عبد العزيز» و«منى أنيس»، وعلى رأسهم زوجته عبلة الروينى.

في أكثر لحظات عبلة إيلامًا، لم يستجب أمل لصراخ «يوسف إدريس» وهو يتلوى على فراش المرض من شدة الألم:

يا الله لا ترحل يا أمل فكلنا فداؤك.

مات أمل دنقل بعد حياة حافلة من الشعر والمعاناة والاضطهاد والصعلكة، لم يتذكره أحد قبل مرور خمسة عشر عامًا على وفاته، حين أقاموا له عدة احتفالات، كان أولها ورشة إبداعية بالزيتون. وقد عُرض فيلم «حديث الغرفة 8» خلال هذه الورشة.

كان أبرز نتائج ورشة الزيتون واحتفالية أخرى أقامها المجلس الأعلى للثقافة، هو تراجع كل منْ هاجموا أمل من قبل، متهمين قصائده بالمباشرة والخطابية، وتحوَّل معارضوه نحو الاعتراف بموهبته والاعتذار عن التجاهل التام له في الماضي.[6]

المراجع
  1. مقال الدكتور فهمي عبد السلام بجريدة الجيل العدد الخامس عشر بتاريخ الأحد 7 فبراير عام 1997.
  2. مقال جمال الغيطاني في أخبار الأدب بتاريخ 18 مايو 2003.
  3. المرجع السابق.
  4. مقال لمعي المطيعي بجريدة الوفد بتاريخ 1 نوفمبر 2000.
  5. المرجع السابق.
  6. مقال بصفحة رقم 9 بأخبار الأدب بتاريخ 7 يونيو عام 1998.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.