يرجع التاريخ المشترك لأوروبا وأمريكا إلي قرنين ماضيين. تكونت الولايات المتحدة في البداية من 13 مستعمرة من المهاجرين (الأنجلو-ساكسون) تخضع للحكم البريطاني وكنتيجة لكثير من التوترات ذات الدوافع الاقتصادية ولرغبة المستعمرين الجدد في استغلال الإمكانيات الاقتصادية للعالم الجديد والتوسع في الاستيطان؛ وهو الأمر الذي رفضته بريطانيا خوفا من تزايد قوة الأمريكيين.

خاضت أمريكا حرب الاستقلال في الفترة بين 1775-1783 وخاضت حربا أخرى في 1812 عندما أقدمت بريطانيا على غزو الولايات المتحدة مرة أخري.
معركة مرتفعات كوينزتون
(معركة مرتفعات كوينزتون أولى معارك حرب 1812)

وفي خطاب للرئيس الأمريكي جورج واشنطن يقول:

“تمتلك أوروبا مجموعة أولويات ومصالح لا تربطنا بها علاقة مشتركة من قريب أو بعيد، وإن من أولويات سياستنا أن نتحرك بعيدا عن أي تحالف دائم”

كان جورج واشنطن يصف للأمة الأمريكية استراتيجيتها لقرن من الزمن: تعامل مع الأطلسي كحائط صد .. ابق خلفه دائما وابتعد عن تلك الصراعات التي تطحن قلب أوروبا.

وكان هذا يعني تقليل العلاقات الدبلوماسية التي تربطك بأوروبا وليست التجارية، ولذا عندما اندلعت الحرب العالمية الأولي 1914 تأخرت الولايات المتحدة عن الانضمام إليها ولم تنضم إلا بعد 3 سنوات في 1914، وكان من نتائج الحرب العالمية الأولي توقيع معاهدة فرساي ونشوء عصبة الأمم في محاولة لتنظيم الفوضي في الفضاء العالمي والحد من الحروب.كان الرئيس ويدرو ويلسون هو المحرك الرئيسي وراء معاهدة فرساي ولكن تم رفضها من قبل الكونجرس لأنه رأى فيها جملة من المكاسب لأوروبا وفقط.عادت الولايات المتحدة إلى حالة العزلة التي كانت فيها وامتنعت عن التدخل في شئون أوروبا. في الثلاثينات من القرن نفسه ازدادت الاضطرابات في أوروبا مع صعود الرايخ الثالث. في سبتمبر 1939 بدأت الحرب العالمية الثانية وهذه المرة أيضا لم تشارك فيها أمريكا إلا في ديسمبر من 1941 وكان هذا نتيجة للهجوم الياباني علي ميناء بيرل هاربور.كانت المجهودات الحربية والديبلوماسية الأمريكية حيوية وبانتهاء الحرب العالمية الثانية انتهت أيضا عزلة الولايات المتحدة الأمريكية وانقلب التحالف القديم مع الاتحاد السوفييتي إلى عداوة مستحكمة وبدأت الحرب الباردة.

ما بعد الحرب العالمية الثانية

طورت الولايات المتحدة استراتيجيتها الجديدة لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية القائمة علي احتواء الاتحاد السوفييتي ومنعه من التمدد خصوصا في شرق أوروبا.

تعتمد استراتيجية الاحتواء علي ثلاثة خطوط عريضة:

(1) مبدأ ترومان:

تحدث الرئيس هنري ترومان في 12 مارس 1947 أمام الكونجرس الأمريكي متعهدا بتقديم الدعم الاقتصادي والسياسي و العسكري لأي أمة ديمقراطية تواجه خطرا سلطويا داخليا أو خارجيا. أعاد مبدأ ترومان توجيه دفة السياسة الخارجية الأمريكية بإخراجها من حالة العزلة التي كانت عليها إلي التدخل المباشر في الشئون العالمية وخصوصا مواجهة الشيوعية.

يرجع هذا الخطاب المؤسس للسياسة الخارجية الأمريكية في مرحلة الحرب الباردة إلي إعلان الحكومة البريطانية توقف الدعم الذي كانت تقدمه إلي الحكومة اليونانية والتركية في حربها ضد الحزب الشيوعي.

تمددت أمريكا سياسيا وعسكريا واقتصاديا لتتولى مجابهة التمدد الشيوعي حول العالم وفقا لتلك الاستراتيجية.

(2) خطة مارشال 1947

خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية كقوة عظمى بأمة ذات كبرياء واقتصاد مزدهر بينما على الناحية الأخرى من الأطلسي كانت أوروبا قد محت منها مدنا كاملة ودمرت الصناعات والمنازل، فكانت خطة مارشال تهدف إلى إعادة بناء الاقتصاد الأوروبي عن طريق تقديم المساعدات. كان الكثير من صناع الرأي الأمريكيين يؤمنون بأنه إذا لم تتعاف أوروبا سريعا من نتائج الحرب فسوف تصبح أرضا خصبة لانتشار الشيوعية ولذا كانت خطة مارشال تهدف إلى أن تكون أوروبا حائط صد أمام المد الشيوعي.

(3) حلف شمال الأطلسي (الناتو)

تكون في 1949 ويتكون من الولايات المتحدة الأمريكية مع كندا ومجموعة كبيرة من الدول الأوروبية. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي انضمت بعض الدول التي كانت أعضاء في الاتحاد السوفييتي أو كانت جزءا من الكتلة الشيوعية مثل بولندا – أستونيا – التشيك – رومانيا. وما يزال الناتو يلعب دوره الاستراتيجي في المنطقة منذ بداية تأسيسيه في محاولة احتواء التمدد السوفييتي وضم المزيد من الأعضاء إلي الكتلة الغربية وخصوصا دول أوروبا الشرقية والتي عاش بعضها داخل الستار الحديدي السوفييتي.

(الدول الأعضاء في الناتو)
(الدول الأعضاء في الناتو)

تاريخ الاتحاد الأوروبي الحديث

عانت أوروبا من قرون من الحروب الأهلية والدينية والعرقية. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية تشكل وعيُُ داخل الأسرة الأوروبية عن المكاسب التي يمكن تحقيقها عن طريق السلام بدلا من الحرب ومر الاتحاد الأوروبي قبل شكله الحالي بالعديد من الأطوار:

(1) المجتمع الأوروبي للفحم و الصلب 1952

كانتمنظمة مكونة من ستة دول هدفت إلى توحيد أوروبا الغربية خلال الحرب الباردة وتكوين سوق مشتركة لتطوير تجارة الفحم والصلب. كان وزير الخارجية الفرنسي روبرت شومان أول من اقترح تأسيس الجماعة في 9 مايو 1950 باعتبارها وسيلة لمنع اندلاع حرب جديدة بين فرنسا وألمانيا، حيث أعلن أن هدفها: ليس جعل الحرب لا يمكن تصورها فحسب، بل جعلها مستحيلة ماديًا.

(2) المجتمع الأوروبي الاقتصادي (السوق المشتركة) 1957

تطور التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء في نفس المجتمع خارج مجال الاقتصاد ليشتمل على تعاون سياسي ومجتمعي مما أدى إلى تكوين السوق المشتركة الأوروبية.

ومع مرور الوقت اختفي الحديث عن السوق المشتركة ليحل محله الحديث عن مجتمع أوروبي موحد.

(3) الاتحاد الأوروبي 1993

يتحرك الاتحاد الأوروبي في اتجاهين متوازيين:

الأول يسعي إلى توسيع العضوية فيه لتشمل الأسرة الأوروبية ككل بما لا يخل بالمبادئ الرئيسية التي وضعها الاتحاد مثل الديمقراطية وحقوق الانسان وغيرها. كما يسعى إلى تعميق العلاقة بين الدول الأعضاء وزيادة التشارك سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي.الثاني هو تكوين كيان يلعب دورا مستقلا وقويا في السياسة الدولية لكن وإلي الآن ما يزال ثقل السياسة الدولية متمركزا في بعض العواصم الأوروبية الأهم مثل لندن وباريس وبرلين ويتحركون بصورة منفصلة في بعض الملفات.كانت تركيا دولة مشاركة في الاتحاد الأروربي منذ 1963 وتقدمت بطلب للحصول علي عضوية كاملة في 1999. أما ألمانيا وهي القوة الأكبر في القارة وصاحبة التاريخ الطويل من الأحلام التوسعية يلعب الاتحاد الأوروبي دورا كبيرا في احتواء نزعتها النازية أو الامبراطورية بدلا من أن تسعي كما سعت سابقا إلى احتواء القارة الأوروبية. لذلك يأتي الاتحاد بهدف تعظيم المكاسب للأسرة الأوروبية.

(4) اليورو كعملة أوروبية مشتركة 1999

هو العملة المشتركة للاتحاد الأروربي والتي يستخدمها معظم أعضاء الاتحاد (17من 28) مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ولكن دولا مثل إنجلترا لا تلتزم باليورو وما تزال محتفظة بعملتها الرسمية (الجنيه الاسترليني).

(الدول الأعضاء في اليورو)
(الدول الأعضاء في اليورو)

العلاقات الأوروربية الأمريكية الحديثة

إن التحالفات نادرا ما ترجع لوجود روابط مشتركة ولكنها في الأساس تحالفات موجهة ضد عدو مشترك وقد استمر التحالف بين أمريكا و أوروبا لما بعد الحرب العالمية الثانية رغم انتهاء الخطر النازي وتشكل حلف الناتو بهدف احتواء العدو الجديد ألا وهو الاتحاد السوفييتي.

نعود في تحليلنا لـ العلاقات الأمريكية الأوروبية الحديثة إلي الإطار العام لتحليل السياسة الخارجية الأمريكية والذي يعتمد علي أربع محاور استراتيجية في مسعي الحكومة الأمريكية: السلام – التنمية – المبادئ – القوة.

(1) السلام:

كما تشاركت أمريكا مع الاتحاد الأوروبي في وجود خطر محتمل فقد تشاركت أيضا في الكثير من الروابط التاريخية و الثقافية وفي العديد من المصالح المشتركة مثل (الديبلوماسية المشتركة) في مالي وايران ومفاوضات السلام الاسرائيلية الفلسطينية.

لم تكن المواقف الأوروبية والأمريكية علي وفاق دائما فقد عارضت دول أوروبية (فرنسا وألمانيا) الغزو الأمريكي للعراق.وفي سوريا 2013 أغسطس عندما أعلن الرئيس أوباما عن توجيه ضربة عسكرية ضد بشار الأسد كنتيجة لاستخدامه الكيماوي دعم الرئيس الفرنسي هولاند العمليات العسكرية لكن البرلمان البريطاني صوت ضد التدخل كما أعلنت ألمانيا عزمها القيام بتحرك ضد بشار ولكن ليس بصورة عسكرية.

(2) التنمية:

معا يمثل الاتحاد الأوروبي وأمريكا نصف الناتج القومي الإجمالي للعالم وثلث التجارة العالمية ، تستثمر أمريكا في أوروبا 3 أضعاف ما تستثمره في آسيا بينما يستثمر الاتحاد الأوروبي في أمريكا 8 أضعاف ما يستثمره في الهند و الصين معا.

اتفاقية الشراكة والتجارة عبر الأطلسي

بدأت المفاوضات حول هذه الاتفاقية في 2013 وتعني برفع الحواجز المنظمة للتجارة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة خصوصا أمام الشركات الاستثمارية الكبري في أمور مثل الغذاء والبنوك والوظائف وغيرها.

(3) المبادئ

يتشارك المجتمع الأمريكي و الأوروبي في مبادئ فلسفية متقاربة وتراث ثقافي واحد وقيم سياسية مشتركة كما توجد الكثير من الروابط العائلية والشخصية بين الاثنين.

(4) القوة (حلف الناتو)

نجح الناتو في منع اندلاع الحرب أثناء التوترات بينه وبين الاتحاد السوفييتي كما شارك الناتو في مهمات حفظ السلام في الحروب العرقية التي جرت في يوغوسلافيا 1990 كما لعب الناتو دورا محوريا في أفغانستان من خلال قوات حفظ السلام علي عكس الحرب العراقية التي لم يشارك فيها الناتو كحلف.

يواجه الناتو تحديات متتالية من أهمها توسيع العضوية في الحلف وخصوصا في دول الطوق الروسي مثل أوكرانيا وجورجيا.كما تثار التساؤلات حول قدرة الناتو في احتواء الخطر الروسي خصوصا بعد الحرب الروسية –الجورجية والتواجد الروسي في سوريا وشبه جزيرة القرم.

أزمة التجسس الأمريكية

شهدت العلاقات الأمريكية الأوروبية حالة من التوتر في نهاية عام 2013 بعد الكشف عن فضيحة تجسس المخابرات الأمريكية علي هواتف قادة دول أوروبا ومنها هاتف أنجيلا ميركل الذي كان هدفا لعمليات التجسس من 2002 إلي 2010 وأثار هذا الأمر ردود فعل غاضبة من جميع الدول التي كانت هدفا لهذه العمليات فلقد دعت ألمانيا والبرازيل، بمساندة مجموعة من الدول الأوروبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى ضرورة تبني المنظمة لقرار يحمي خصوصية الدول ويقف حائلا أمام عمليات التجسس المماثلة.

كما تقدمت بعض الدول الأوروبية بمشروع قانون إلي البرلمان الأوروبي لتعليق المفاوضات الجارية حول اتفاقية التجارة الحرة بين أوروبا وأمريكا.

ما زالت العلاقات الأمريكية الأوروبية تواجه الكثير من التحديات في سبيل تطوريها ، خصوصا علي مستوي التعاون السياسي حول العالم وخصوصا في الشرق الأوسط والملف السوري ، وفيما يخص أزمة اليورو وتداعياتها علي الدول الأوروبية الأفقر مثل اليونان وأسبانيا والبرتغال وتكمن حقيقة التحدي في ضبط ايقاع الاندماج الاقتصادي بين الدول الأعضاء في اليورو وتطوير التعاون الديبلوماسي والسياسي بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.