بدأ الصدام المباشر في سوريا بين الخصوم الدوليين مبكرًا العام الجاري. انطلقت شرارته من صاروخ أرض – جو موجه، أصاب قلب مقاتلة روسية من طراز «سوخوي 25»، أطلقته إحدى الجماعات المقاتلة في إدلب، تحطمت المقاتلة وانتحر الطيار.

ثار غضب الروس من تخطي الأمريكان لقواعد اللعبة، بتقديم أسلحة متطورة كان عليها «فيتو» يمنع وصولها لأي طرف في الصراع الممتد منذ 7 سنوات. خرج النفي الأمريكي سريعًا، كما كان قبل ذلك بالتبرؤ من السلاح الذي أسقط الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، وأجبره على الرحيل بقواته، حاملًا أكفان أكثر من 50 ألف جندي من قواته، قتلوا في حرب امتدت لعشر سنوات.


طائرة القيصر: كيف سقطت؟

تبنت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)إسقاط المقاتلة الروسية في الثالث من فبراير/ شباط الجاري. كذلك تبناه تنظيم «جيش النصر» التابع لـلجيش السوري الحر، لكن الأقرب جبهة النصرة. فتركيا لن تسمح باستخدام هذا السلاح عن طريق وكلائها، ضد حليفتها التي أعطتها الضوء الأخضر لدخول مدينة عفرين شمالي سوريا، ردًا على التحركات الأمريكية ضدهما من خلال قوات سوريا الديمقراطية.

لم تنفِ روسيا الخبر. صعّدت الموضوع. وأعلنت حقيقة الأمر، قائلةً إن طائرتها أسقطت بصاروخ حراري محمول على الكتف، لتوجه رسالة لمن يقفون وراء الأمر، أنها لن تقف صامتة. علمت الولايات المتحدة أنها المقصودة. خرج «البنتاغون» نافيًا تزويد أي حلفاء له بصواريخ أرض جو، وأنه لن يقوم بذلك مستقبلًا، فهو يدرك أن روسيا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه الخطوة.

حتى الآن لم تقدم روسيا دليلًا على نوع واسم الصاروخ، الذي سيبدأ رحلة إسقاط وجودها في سوريا، وليس طائراتها، كما فعل في أفغانستان. قالت تقارير روسية إن الصاروخ قد يكون من طراز «ستينجر» الأمريكي أو «ستريلا» القديم أو «إجلا» الجديد. تسعى روسيا جاهدة للوصول إلى جزء من حطام الصاروخ أو الطائرة، لمعرفة حقيقة الأمر.

يعتبر «ستينجر» الأمريكي من أفضل صواريخ الدفاع الجوي، يوجه بالأشعة تحت الحمراء، ويمكن حمله على الكتف، اكتسب أهميته الاستراتيجية بعد تزويد الولايات المتحدة لحركة طالبان به في حربها ضد الاتحاد السوفيتي. ورغم أنه بدأ استخدامه فعليًا في الجيش الأمريكي عام 1981، لم تبخل به واشنطن على خصوم السوفيت، عملًا بالمقولة الخالدة؛ «عدو عدوي صديقي».

يصل مدى «ستينجر» إلى 5 كم بارتفاع 4,800 متر، بسرعة تفوق سرعة الصوت. تكشف هذه الإمكانيات كيف أُسقطت طائرة روسيا. قالت التقارير إن الطيار حلق على ارتفاع منخفض، ولا يمكن لرادار «سوخوي 25» التعامل مع أمثال «ستينجر». نجح الصاروخ المعروفة صفاته المجهول مصدره في إسقاطها. من غير الممكن إسقاطها بالمضادات الأرضية، مثل مدفع «23» مم ومدفع «14.5» مم، التي لا يزيد مداها عن 3 كم، ولا تمتلك أي تكنولوجيا موجهة.

قال الطيار الروسي قبل إصابة طائرته إن الجناح الأيسر أصيب، حيث يوجد المحرك، بالتالي تتبع الصاروخ الحراري طريقه إليه، ليضع سطرًا جديدًا في الاصطدام المباشر بين القوى المتصارعة في سوريا.

استطاعت روسيا استعادة جثمان طيارها بمساعدة تركيا. وطلبت مساعدتها على الوصول إلى موقع سقوط الطائرة، لكشف اللغز الأكبر، ومعرفة نوع الصاروخ الذي أسقط طيارها، وإن لم تعثر على دليل فالأمر واضح. فأمريكا إن لم تقدم مباشرة السلاح فلن يجرؤ وكلاؤها على إدخاله ساحة المعركة دون معرفتها، وقد ظل هذا السلاح من المحرمات المتفق عليها بين الجميع، لكن يبدو أن هناك فتاوى سياسية ستبيح الحرام.


اللعبة بدأت في التكشّف

قبل شهر كُتب أول سطر في المواجهة المباشرة. استهدفت 13 طائرة بدون طيار محملة بالمتفجرات يناير/كانون الثاني الماضي قاعدتي طرطوس وحميميم الروسيتين، بالتزامن، في هجوم منظم. وقبلها بأيام استهدفت قاعدة حميميم بقذائف هاون، دُمرت فيها حوالي 7 طائرات روسية خلاف القتلى والجرحى.

أدرك القيصر الروسي أن المواجهة أخذت مراحل متقدمة، ولم يكد يفيق من هذا، حتى فاجأته أمريكا بإعلانها تشكيل جيش شمالي سوريا يقوده الأكراد، ويدربه التحالف الدولي ضد داعش. ترك القيصر حرية الرد لتركيا خصيمة الأكراد. التقط السلطان العثماني الفرصة معلنًا عملية «غصن الزيتون» في 20 يناير/كانون الثاني الماضي لدخول مدينة عفرين، ثم إلى منبج. زادت ثقته في نفسه بعد سقوط طائرة حليفه فلاديمير بوتين، فأعلن استعداده لدخول إدلب.

كلاهما أصبح في مرمى الاستهداف المباشر. الولايات المتحدة ما زالت مستمرة في دعم الجماعات الكردية المسلحة في سوريا. القشة التي قصمت ظهر البعير تكوينها جيشًا شمالي سوريا بقيادة الكرد. أدركت أنقرة أنه لا مجال للصمت، فبعد أن كانت الجماعات الكردية كقوات سوريا الديمقراطية «قسد» ووحدات حماية الشعب الكردية مجرد جماعات مسلحة، ستتحول إلى جيش شبه نظامي تدربه أمريكا.

وضعت روسيا فيتو يمنع أردوغان من دخول عفرين ومنبج، بينما أطلق عملية «درع الفرات» في 2016. حاول مرارًا دحر الأكراد في عفرين، إلى أن جاءته المباركة الروسية، وصمت النظام السوري لأن إنشاء الولايات المتحدة جيشًا بقيادة الأكراد خطر على الجميع، حيث سيهدد ما أنجزته روسيا، وستكون قوته ذراع أمريكا المنظم للمناكفة في سوريا. أما تركيا فتتخوف من نشوء دولة كردية على حدودها.


من الوكالة إلى الحرب المباشرة

اتضح الأمر أكثر بنية الولايات المتحدة الدخول في مواجهة مفتوحة، حينما أعلن وزير الخارجية الأمريكي «ريكس تيلرسون» أن الولايات المتحدة ستبقى في سوريا، حتى بعد طرد تنظيم داعش لأجل إكمال العملية السياسية. وهذا ليس صحيحًا، فواشنطن لن تترك سوريا للروس، لأنها بذلك ستكون وضعت قاعدة ثابتة لإكمال تغولها على منطقة الشرق الأوسط، مستفيدةً من التراجع الأمريكي واتباعها سياسة التوجه شرقًا نحو آسيا.

لهذا لابد من مناكفة موسكو في سوريا. اتضحت معالم التصادم بدعم الجماعات المسلحة بطائرات دون طيار متقدمة، تلاها إعلان جيش كردي شمالي سوريا، والآن وصلنا لإدخال الأسلحة الاستراتيجية لساحة المعركة لتحييد سلاح الجو ونقل المواجهة إلى الأرض، رغبة في الاستنزاف كما كان في أفغانستان.

أما تركيا المتفاهمة مع روسيا فتعاقبها الولايات المتحدة باستمرار دعم الأكراد، ومدهم بأسلحة متقدمة، خاصة في معركة عفرين. ويوم 4 فبراير/ شباط الجاري، ضبطت حركة نور الدين زنكي، أحد فصائل المعارضة الموالية لتركيا أسلحة متقدمةـ كانت ذاهبة إلى الجماعات الكردية في عفرين، وذلك لوقف التقدم البري للقوات التركية والفصائل السورية المتعاونة معها من دخول المدينة.

وبما أن الأمر دخل ساحة المواجهة المباشرة، طالب أردوغان الولايات المتحدة بالخروج من منبج، لأنه لن يقدر على دخولها طالما بها أقدام أمريكية، فالجميع ما زال يدرك هول الاصطدام المباشر، المرحلة الحالية لا تزال تدار باستخدام وكلاء. كما اتهم الرئيس التركي واشنطن بوضعها خططًا ضد تركيا وإيران وروسيا في سوريا.

أدركت روسيا أن الصاروخ، الذي أسقط قوتها الجوية، قد دخل المعركة وهناك المزيد منه. جاء الأمر سريعًا لطياريها بمنع التحليق على مدى أقل من 5 كم، بجانب منع استخدام مقاتلات «سوخوي 25»، والاعتماد على طائرات «سوخوي 30» و «سوخوي 35» التي تطير فوق 5 كم دون مشاكل. هذه مجرد احتياطات مبدئية، والرد القادم سيعلنه بوتين قريبًا، كما رد بعملية «غصن الزيتون» بالسماح لتركيا بالولوج.

وتكشف مناطق السيطرة الحالية استمرار تقدم النظام، على حساب المعارضة، خاصة استعادة مطار الضهور العسكري الاستراتيجي. يوضح هذا أن تركيا تخلت عنهم مقابل التفاهم على دخول عفرين، والتقدم على حساب الأكراد، وهذا التفاهم لن يمر دون رعاية روسيا ووفقًا لمصالحها.

فقد وصلت نسبة سيطرة النظام نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي إلى 53.75% من مساحة سوريا، بعد أن كانت 53.4 % نهاية العام الماضي، فيما يستحوذ تنظيم الدولة على 8.51 %. وتراجعت سيطرة المعارضة إلى 11.96%، بعد أن كانت أكثر من 13% الشهر الذي سبقه، ومثلها قوات سوريا الديمقراطية انخفضت إلى 25.73%، بسبب فقدانها مناطق واسعة من عفرين مع التدخل التركي.

وتوضح هذه النسب تزايد مساحة النظام على حساب المعارضة، وتركيا على حساب الأكراد، حليف واشنطن، وهو ما يكشف سر التصعيد الأمريكي عبر الوكلاء، الذي قد يصل إلى المواجهة المباشرة. ففقدان الأكراد لعفرين ومنبج، سيقطع خطوط اتصالهم بالحسكة ودير الزور والرقة، وهي مناطق صحراوية في جزء كبير منها.

ولن يقف الأمر عند منبج أو عفرين، فروسيا ستدفع تركيا لمطاردة الأكراد في باقي المناطق، لبتر الذراع الأمريكية تمامًا، وهو ما سيصعد من حدة المواجهة خلال الأيام المقبلة بطبيعة الحال.