كان «طارق عبد الرازق حسين» على بعد خطوات من طائرته حينما أُلقي القبض عليه، تم اقتياده خارج المطار، وتحت قبو المخابرات المصرية اعترف:

في بداية عام 2007؛ بالصدفة، ظهر لي إعلان على الإنترنت، يطلب فيه الموساد عُملاء، ضغطتُ على الإعلان، فُتحت نافذة سجلتُ فيها بياناتي ورقم هاتفي الصيني، بعد بضعة أشهر تلقيتُ اتصالًا غير حياتي، خضعتُ لجهاز كشف الكذب مرتين، ثم بدأت رحلتي مع الموساد.
في عام 2008، كشف لي الموساد أنّهم جندوا خبيرًا كيميائيًّا رفيع المستوى في جهاز أمني سوري، في كلّ مُقابلة يرسلون إليه شخصًا مختلفًا، وطلبوا مني السفر إلى دمشق وأمدوني برقم هاتفه. وحينما وصلت دمشق باسم آخر مُستعار «طاهر حسن»، اشتريتُ فياجرا وخمورًا وإيشاربات، وتواصلتُ معه قائلًا: «أنا وصلت»، فهم الكيميائي. التقينا في ميدان عامّ ثم اصطحبني إلى مقهى، وسلّمته الهدايا وأسئلة الموساد، أجاب على الأسئلة بينما كنت أسجل. وفي النهاية سلّمته مبلغًا من المال. وضعتُ التسجيل على حاسب آلي مُشفر وعدتُ إلى تايلاند.
سلمتُ التسجيل إلى ضابط الموساد، وبعد أشهر قليلة طُلب مني العودة إلى دمشق مرةً أخرى، وكانت الأسئلة هذه المرة عن كيفية دفن النفايات النووية والكيميائية والطبية السورية، التقيتُ الكيميائي وطلب مُهلة. بعد أيام حضر ومعه مستندات ووثائق سرية، قمتُ بمسحها بجهاز سكانر، وأرسلتها بالبريد الإلكتروني المشفر إلى الموساد.

هوية الجاسوس السوري

طارت اعترافات طارق إلى دمشق، وتم إعدام الكيميائي السوري في ديسمبر/كانون الأول 2010.

ورغم أنه من المبادئ المعروفة في علم الاستخبارات: فصل شبكات التجسس عن بعضها وتجحيم معلومات كلّ جاسوس، حتى تقل تكلفة استيقاظ ضميره أو سقوطه. لكن الموساد أخطأ بأن وضع سلة بيض في حضن طارق، وحينما وقع جرّ معه إلى الهاوية شبكة تجسس في لبنان، وأهم عميل لإسرائيل في القاهرة والملقب بـ «الأستاذ»، وخبير كيميائي سوري رفيع المستوى عمل مع الموساد لمدة ثلاثة عشر عامًا. على الأرجح خشي الموساد من إرسال أحد ضُباطه إلى دمشق، فتم الاعتماد على طارق الذي تقابل مع الكيميائي السوري سبع مرات.

وبعد ما استخرجت المخابرات المصرية من طارق كل شيء بالمعنى الحرفي، واستجوب منْ استجوب واعتقل منْ اعتقل، ولم يعد هناك ضرورة لإخفاء السرّ، قدّمت السلطات المصرية «طارق عبد الرازق» إلى وسائل الإعلام والمُحاكمة.

جميع وسائل الإعلام تقريبًا غطت قضية الجاسوس، ولكن قصّته خرجت على مراحل لا تفقد البريق واللمعان. وفي رسالة ضمنية أبرز الإعلام المصري «بُخل» الموساد والأموال الهزيلة التي تقاضاها الجاسوس، في الوقت نفسه التزمت سوريا الصمت تجاه الكيميائي الذي أُعدم.

هناك تذبذب واضح في هوية الجاسوس السوري، ففي حيثيات الحكم على «طارق عبد الرازق» قالت المحكمة:

حتى إن الموساد كشف له أهم عملائه في سوريا، وكلّفه بالاتصال به وتسليمه معدات غاية في الخطورة، ليُمكنه التجسس بهم في سوريا، وقام بتدريب أحدهم على الأجهزة المعطاة له، وهو ضابط بالمخابرات الحربية السورية، والذي كشفت المخابرات المصرية أمره، وحُكم في سوريا، وقُضي بإعدامه ونُفِّذ الحكم فيه.

ثم أشارت بعض وسائل إعلام أن اسم الجاسوس هو «صالح النجم»، وهو عقيد في المخابرات العسكرية السورية وكان المسئول الأول عن الملف النووي. وذكرت وسائل أخرى أن «صالح النجم» لم تكن له أي رتبة عسكرية، وهو مُجرد مُشرف في الصالة الرياضية. فيما أكدت مصادر أخرى أن هذا الكيميائي هو الدكتور «أيمن الهبل»، مُدير معهد الأبحاث الكيميائية؛ المُسمى «المعهد 300»، والتابع لمركز الدراسات والبحوث العلمية.

إذن، نحنُ أمام رجلين، الأول خبير كيميائي يُدعى «أيمن الهبل» تأكد إعدامه، وضابط استخبارات مسئول عن الملف النووي السوري يُدعى «صالح النجم»، يُقال إنّه ما زال حيًّا.

ربّما أطلقت إسرائيل على «أيمن الهبل» اسم رجل آخر وهو «صالح النجم» وذلك للتضليل والتخبّط، وربما عمل الرجلان لصالح الاستخبارات الإسرائيلية.

رواية جديدة إلى النور

بعد عشرة أعوام كاملة، أعادت صحيفة «واشنطن بوست» قصة الجاسوس الكيميائي إلى الضوء مرة أخرى، حيثُ نشرت منذ أيام مُقتطفات من كتاب بعنوان «الخط الأحمر: تفكك سوريا وسباق أمريكا لتدمير أخطر ترسانة في العالم»، للصحافي الأمريكي «جوبي واريك»، والذي يتناول قصة الأسلحة الكيماوية في سوريا.

تبدأ الرواية المنشورة على صفحات «واشنطن بوست» عام 1988؛ في مؤتمر علمي في أوروبا، عندما مرّر أستاذ جامعي سوري مذكرة إلى أقرب سفارة أمريكية عن طريق صديق أمريكي، وكانت هذه المذكرة تحوي عرضًا.

مرّت أشهر، وبعد ما أنهى الأستاذ السوري إحدى محاضراته المسائية في جامعة دمشق، اقترب منه رجل غريب؛ يبلغ من العمر 20 عامًا. لم يفزع الأستاذ السوري وقال للغريب: «كنت أنتظرك، نادني أيمن». وكان هذا الغريب ضابطًا في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA.

دارت محادثات طويلة بين الرجلين، حاولا من خلالها فهم بعضهما البعض. وفي أحد الأيام، دعا أيمن الضابط الشاب إلى منزله، شقة صغيرة وسط دمشق يتقاسمها مع زوجتيه المُختلفتين.

قدمت الزوجتان القهوة بأدب، بينما كان أيمن يتحدث عن سنوات دراسته في الولايات المتحدة، وعن العائلة اللطيفة التي اعتنت به هناك عندما وصل مراهقًا بعيون واسعة وحقيبة ومنحة أكاديمية. ثم عرض على الضابط الأمريكي مجموعته الموسيقية، وأسمعه مقطوعة لفنانه المُفضل؛ الملحن الفرنسي «جان ميشيل جار».

بعد ما غادرت الزوجتان الغرفة، تحوّل أيمن إلى الموضوع المُنتظر، حيث روى قصة مذهلة، بينما كان ضابط الحالة جالسًا مذهولاً، وفنجان القهوة يبرد.

السر المذهل

فوق تلة تُراقِب العاصمة دمشق، يقبع مجمع معامل، شديد الحراسة، أجرت فيه المؤسسة العسكرية السورية تجارب على أسلحة جديدة، وكانت أجهزة الاستخبارات الأجنبية على دراية جيدة بمركز الدراسات والبحوث العلمية، باعتباره المعمل الذي يُنتج دراسات عن صواريخ متوسطة المدى قادرة على إيصال رؤوس حربية إلى تل أبيب والقدس.

داخل المُجمع هناك وحدة سرية تُسمى «المعهد 3000»، وكان أيمن أحد قادتها وكبار الباحثين فيها. عملها الأساسي هو صنع أسلحة كيميائية تُوضع داخل رؤوس الصواريخ، وأُطلق على المشروع «الشاكوش».

بسبب مساهماته، تقدم المشروع خطوات عدة. بدأ برنامج الأسلحة الكيماوية في سوريا بغاز الخردل، الذي اشتهر في الخنادق خلال معارك الحرب العالمية الأولى، ثم انتقل إلى فئة أكثر فتكًا من السموم تُسمى «غاز الأعصاب»، والتي بدأ المعهد بإنتاجها في مصنع تحت الأرض خارج العاصمة.

ومن بين الأسلحة قيد التطوير داخل المعهد 3000، كان الكيميائي فخورًا بعمله في القاتل المثالي «غاز السارين»، وهو الغاز الذي يعمل عن طريق مهاجمة الجهاز العصبي، مما يؤدي إلى شلل سريع للعضلات الخاصة بالتنفس، بحيث يموت الضحية موتًا مؤلمًا بالاختناق.

إنتاج السارين النقي -الذي صنعه السوفييت والأمريكان خلال الحرب الباردة- صعب على بلد صغير بقاعدة صناعية متواضعة. ويفقد فاعليته بمرور الوقت. لذا ابتكر الكيميائي طريقة ذكية. صنع في المُختبر سارين ثنائي، سائلين مستقرين يمكن تخزينهما بشكل منفصل، ويتم خلطهما فقط في اللحظة الأخيرة، ربما صنعت دول السارين كسلاح، لكن لم يطور أحد صيغة مثل هذه.

بعد الاجتماعات، سافرت نتائج اللقاءات داخل برقية سرية إلى مقر وكالة المخابرات المركزية في فيرجينيا، نظر المحللون إلى المعلومات بمزيج من الدهشة والقلق. كانت مُفصَّلة وجيدة للغاية، وبدأت الوكالة في تحويل الثمن إلى حساب مصرفي أجنبي.

تحفة كيميائية قاتلة

في أواخر ديسمبر/كانون الأول 1988، أرسل الكيميائي إشارة خفية إلى ضابط الحالة يطلب الاجتماع. كان لديه سر ليعطيه للشاب الأمريكي، لكن ليس في منزله، أو مقهى أو أي مكان عام آخر.

في المساء المتفق عليه، جلس الجاسوس وضابط الحالة معًا في المقعد الأمامي لسيارة بيجو متوقفة في أحد شوارع دمشق الهادئة، على بعد بنايات من السفارة الأمريكية. بعد تبادل قصير من المجاملات، قال الكيميائي: «هذه هدية عيد الميلاد»، وسلّمه طردًا.

اصطحب الضابط الطرد إلى منزله، وكانت وكالة المخابرات المركزية قد أرسلت زوجًا من المتخصصين التقنيين للمساعدة في التقييم الأولي لمحتوى الطرد. وعند ارتداء الكمامات والبدلات الواقية، قام المُتخصصون بإزالة العبوة الخارجية بعناية للكشف عن صندوق صغير يحوي قارورة بلاستيكية مختومة، بداخلها سائل صافٍ، يُرى من الغلاف البلاستيكي. كانت القنينة عينة، أُعيد تغليف القارورة ووضعها في حاوية مقاومة للكسر، ثم حُملت داخل حقيبة دبلوماسية وسافرت جوًا. بمجرد وصولها الولايات المتحدة، نُقلت إلى مختبر عسكري، فتح علماء يرتدون بدلات واقية القارورة بحذر لإلقاء نظرة. أثارت نتائج الاختبارات ضجة. في مختبر عادي، في دولة صغيرة استبدادية يتم نبذها، أنتج كيميائي سلاحًا ذا جودة مذهلة، فكان تحفة كيميائية قاتلة.

طوال أربعة عشر عامًا، استمرت اللقاءات السرية في الأزقة والمقاهي وتبعتها التحويلات النقدية. وبينما المُجمع ينمو فوق التلة كان الكيميائي يكبر، ويُسرِّب أسرار الأسلحة الكيميائية السورية ومخابئها إلى المخابرات الأمريكية، وينمو احترام زملائه وقادته له.

النهاية الساذجة والتناقضات

اعتقلت المخابرات السورية الكيميائي، وذلك للتحقيق معه في قضية فساد، لكنه ظن أن سرّه قد انكشف، فاعترف بعلاقته بالاستخبارات المركزية الأمريكية، الأمر الذي أثار ذهول «آصف شوكت»، نائب مدير المخابرات العسكرية وصهر الرئيس.

وفي أحد صباحات إبريل/نيسان 2002، تم اقتياد أيمن -معصوب العينين- إلى ساحة السجن، وتم إعدامه رميًا بالرصاص.

تتشابه بداية رواية «واشنطن بوست» مع قصّة «أوليغ بنكوفسكي»، وهو عقيد في الاستخبارات العسكرية الروسية، قام- في أحد الحمامات- بإقناع رجل أعمال بريطاني بتمرير رسالة ورقية إلى الاستخبارات البريطانية، تحوي عرضًا بالتجسس، وتواصلت معه الاستخبارات المركزية الأمريكية لتبدأ رحلته في التجسس. أمّا قصة الأسلحة الكيميائية السورية فهي معروفة وتداولتها الصحافة بالفعل قبل ذلك.

تزعم «واشنطن بوست» أن «أيمن الهبل» تجسّس لصالح المخابرات المركزية الأمريكية CIA، بينما المعلومات التي لدينا تقول إن الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) هي منْ كانت تُشغله، لكن بالنظر إلى كون الموساد أهم شُركاء الـ CIA، فإنه ربما أوكله إلى الموساد، أو أن «أيمن الهبل» تجسّس لصالح الموساد والـ CIA معًا.

أمّا التواريخ ففيها أخطاء واضحة وتناقض، فطبقًا للحقيقة تم تجنيد «طارق عبد الرازق» في عام 2007 وتقابل مع الكيميائي السوري عام 2008 وتم القبض عليه عام 2010، وهو العام نفسه الذي أعدم فيه الكيميائي السوري «أيمن الهبل»، بينما تدعي الصحيفة أنه أُعدم في أبريل/نيسان 2002.

أمّا النهاية الساذجة التي ترويها الصحيفة عن «أيمن الهبل»، بأنه اعترف على نفسه عن طريق الخطأ، فإنها لا تليق بشخص تجسس لمدة 14 عامًا، ووصل من الثقة أنه كان يُقابل عُملاء الموساد في شوارع ومقاهي دمشق.

تم تبديل النهاية، ومن الحماقة الإيمان بأن كل ما تقوله أجهزة الاستخبارات مُقدس. وفي كل مرة أقرأ التاريخ، أتيقن أن طائراتهم وصواريخهم وأقمارهم الصناعية لا تستطيع الوصول إلى أرواحنا، إلا بمساعدة من الخونة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.