في ظل عالم لم تعد القوة العسكرية هي الحاكمة فيه، باتت القوة الحقيقية هي الهيمنة على العقول البشرية والموارد الطبيعية. أذكر في البداية مقولة ألدو هوكسليAldous Huxley عام 1931م: «في مرحلة التكنولوجيا المتقدمة، فإن الذي سيشكل الخطر الأكبر على الأفكار والثقافة والعقول، لن يأتي من خصم يثير الفزع والكراهية بقدر ما سيأتي من عدو بشوش».

هنا مثلا، نجد الولايات المتحدة الأمريكية لا تسعى إلى إخضاع الدول باستعمال القوة وإنما بسحر العقول التي بها، وليس عن طريق إصدار الأوامر بل عن طريق إخضاعها الطوعي؛ وليس عن طريق التهديد بالعقوبة ولكن بالمراهنة على التعطش للمتعة التي صنعتها الإدارة الأمريكية للسيطرة على العقول البشرية.


ماهية الهيمنة؟

الهيمنة عبارة عن قدرة مطلقة على الشيء من كافة جوانبه وبشتّى الوسائل بما يكفل تحقيق الغاية المطلوبة، وهي في حالتنا، سيطرة الدُّول الكبرى على الدُّول الصُّغرى، وتوجيه قراراتها السياسيّة والاقتصاديّة في اتّجاه مصالحها الشَّخصيّة. وتكون أداة الضَّغط عليها ارتباط مصالحها أو قياداتها بها، أو تهديدها العسكريّ لها. إن هدا المفهوم يحيلنا لا محالة لنتيجة حتمية كون أن هناك فاعلا يقوم بعملية تأثير حول آخر خاضع.

إن الهيمنة لا تعني فقط التفوق؛ ولكن كذلك استباق كل ما قد يهدد التميز وذلك من خلال هيكلة مجال الفعل والتحكم، فالمهيمن ليس فقط هو ذلك الواعي بوضعه وبقوته، ولكن تحويل كل هذا إلى قدرة سياسية، عسكرية، اقتصادية وثقافية لإنتاج وضع دولي يكون خادما لنزوات هذه الهيمنة اللامتناهية.

وقد وضعت الإدارة الأمريكية مفهوما للهيمنة، والذي تمت صياغته في تقرير للبنتاغون بعنوان دليل الخطة الدفاعيةDPG :Défense Planning Guidance 94-92 الذي أعده كل من بول فولفيتز نائب وزير الدفاع في حكومة بوش الابن، ولويس ليبي مدير ديوان نائب الرئيس الأمريكي، وكان أهم ما خلص إليه هذا التقرير هو: منع كل قوة إقليمية من السيطرة على الموارد التي قد تجعلها قوة عظيمة، والسير نحو بناء القواعد العسكرية التابعة للإدارة الأمريكية في مناطق توافر الموارد الطبيعية، وكذلك التشويش على أي قوة صناعية قادرة على منافسة الريادة الأمريكية.


مراحل تطور مفهوم الهيمنة لدى الإدارة الأمريكية

في الفترة من عام 1989م حتى عام 1991م ربحت الولايات المتحدة الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي بالضربة القاضية، مما أدى إلى سقوط جدار برلين، واعتماد الديموقراطية بشكل فكري وثقافي في دول وسط وشرق أوروبا. وكانت هذه الفترة بمثابة انتهاء لحقبة العنف العسكري وبداية لحقبة الهيمنة الفكرية. وكان للحرب الباردة عدة نتائج منها:

– تجد الولايات المتحدة نفسها على الصعيد الجيوسياسي في مستوى من الهيمنة لم تحلم به أية دولة من قبل. فقوتها العسكرية قاهرة؛ لأنها أول قوة نووية وفضائية وكذلك بحرية، وهي الوحيدة التي تتوفر على أسطول بحري في كل محيطات العالم. كما لها قواعد عسكرية وتموينية وتجسسية في كل القارات. ومن مظاهر قوتها العسكرية:

(1) تنفق وزارة الدفاع الأمريكية على البحث في الميدان العسكري قرابة 31 مليار دولار، وهو ما يعادل ميزانية الدفاع الفرنسية بأكملها. كما تمتلك في مجال الأسلحة أنواعا تتقدم ما لغيرها بعدة أجيال. وبإمكان قواتها المسلحة (1,4 مليون جندي) أن تسمع وتتابع وتتعرف على كل شيء سواء كان في الجو أم في البحر أم تحت الماء. فبإمكانها أن ترى كل شيء من دون أن تُرى، وأن تدمر هدفا بدقة فائقة، سواء بالليل أو بالنهار، دون التعرض لأي تهديد.

(2) كما تمتلك الولايات المتحدة ألوانا من وكالات الاستعلامات [وكالة الاستعلامات المركزية (CIA) ووكالة الأمن القومي (NSA)، والمكتب الوطني للاستطلاع (NRO) ووكالة الاستعلامات للدفاع (DIA)] التي تشغّل أكثر من 100,000 شخص بميزانية تتجاوز 26 مليار دولار. ويتحرك جواسيسها في كل مكان وفي كل وقت، لدى الأصدقاء والأعداء. ولا يقتصر نشاطهم على سرقة الأسرار العسكرية والدبلوماسية، بل يمتد إلى سرقة الأسرار الصناعية والتكنولوجية والعلمية.

– أما على الصعيد الأيديولوجي تحولت الإدارة الأمريكية من العنف المسلح إلى الاحتلال السلمي لعقول غير الأمريكيين، واستمالة قلوبهم.

وبما أن هيمنة إمبراطورية معينة في عالمنا المعاصر لم تعد تقاس بإمكانياتها العسكرية والدبلوماسية فقط، فقد حرصت الولايات المتحدة على أن تكون الأكثر تفوقا في المجال العلمي. وبالتالي تمتص من العالم أجمع عشرات الآلاف من الأدمغة من طلبة وباحثين وحاملي الشهادات، الذين يحلون كل سنة بجامعاتها ومختبراتها ومقاولاتها. مما سمح لها خلال السنوات الأخيرة بالحصول على 19 جائزة نوبل من أصل 26 في الفيزياء، و17 من أصل 24 في الطب، و13 من أصل 22 في الكيمياء.

وهي التي تحدد اختيارات وسير العالم من خلال هيمنتها على هيئة الأمم المتحدة، ومجموعة الدول السبع الأكثر تصنيعا، وصندوق النقد الدولي، والمنظمة العالمية للتجارة، ومنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، ومنظمة حلف شمال الأطلسي.

– وعلى الصعيد الاقتصادي تمارس الولايات المتحدة هيمنة مطلقة على الشبكات الاقتصادية. فلقد بلغ إنتاجها الداخلي الخام سنة 1999: (8683,4 مليار دولار) يعادل 6 مرات إنتاج فرنسا (1346,6 مليار دولار). ويظل الدولار العملة الأولى، حيث تمر عبرها 83 % من مبادلات العملة الصعبة. وتمثل بورصة نيويورك مقياس التقلبات المالية العالمية، وأي تعثر لها يحدث الفزع في العالم.

أما القوة الضاربة لصناديق المعاش الأمريكية التي تمثل غولا مهيمنا على الأسواق المالية فتخيف كل الفاعلين في الميدان الاقتصادي العالمي.

– وعلى الصعيد المعلوماتي تعتبر أمريكا أول قوة في ميدان المعلومات، حيث أنها تتحكم في الاختراعات التكنولوجية الجديدة، وفي الصناعات الرقمية، والامتدادات والإسقاطات (المادية واللامادية) من كل نوع. إنها بلاد المواقع، والطرق السريعة للمعلومات و«الاقتصاد الجديد» وعمالقة البرمجيات (ميكروسوفت) وعمالقة الإنترنت (جوجل – ياهو – أمازون – أمريكا أونلاين).


سياسات الإدارة الأمريكية بين القبول والرفض

وقبل فرض سياسات الهيمنة الأمريكية والتحول الكبير في الإدارة الأمريكية سواء كان تحولا جيوسياسيا أو أيديولوجيا أو علميا أو اقتصاديا، كانت هناك عدة تجارب من قبل الإدارة الأمريكية لفرض هيمنتها على دول أمريكا اللاتينية في إطار دراستها لجدوى تلك السياسة إذا تمت ممارستها على الصعيد الدولي، فكانت النتائج صادمة: سنجد أن أوروبا الغربية هي الأقل مقاومة لهذا المشروع وذلك لـ:

– أسباب ثقافية حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية هي نتاج أول ثورة ديمقراطية، تلك التي حدثت عام 1776م، والتي سبقت الثورة الفرنسية بـ 13 سنة.

– أسباب تاريخية كذلك، حيث لم تواجه أية دولة أوروبية، باستثناء بريطانيا في القرن 18، وإسبانيا في نهاية القرن 19، الولايات المتحدة الأمريكية عسكريا. بل على العكس استقبلت الولايات المتحدة باعتبارها «بلاد الحرية»، الملايين من اللاجئين والمبعدين الأوروبيين بصدر رحب. كما تصرفت كصديق لأوروبا إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية ( 1914-1918 و 1939-1945)؛ و كان تدخلها حاسما لصالح الحريات وضد القوى العسكرية أو الفاشية.

وهذا القبول الغربي لسياسات الإدارة الأمريكية لم يثنها عن وضع خططها المستقبلية لإيقاف كل من يرفض هيمنتها ووضعت مشهدين لا بديل لهما لكل من يعارض سياستها، إما الخضوع الطوعي التام لأمريكا، أو الإخضـاع بالقوة في حالة المقاومة، وذلك إما بإثارة المعارضين كما فعلوا بـشافيز، أو الاغتيالات كما هي حالة رئيس الإكوادور ورئيس بنما، أو الانقلاب كما في غواتيمالا، أو الغزو كما حدث في العراق.

وفي إطار خطط الإدارة الأمريكية في مواجهة كل من يقف ضد سياستها، هناك شخصيات سياسية وعسكرية حاولت أن تسقط غول الهيمنة الأمريكية، والنظر لمصلحة بلادها وشعوبها رفضا لقوانين الهيمنة التي لا تقدم سوى مزيد من الفساد المنظم الذي لا تصب مصلحته إلا في سلة الهيمنة الأمريكية. ولعل أكبر مثال تحدى الهيمنة الأمريكية والمثل الشيوعية كان عمر توريخوس.


من هو عمر توريخوس؟

عمر توريخوس كان قائدا للحرس الجمهوري في بنما ثم حاكمها الفعلي منذ عام 1968م حتى عام 1981م. لم يصل للحكم بطريقة ديمقراطية بل وصل بانقلاب عسكري إلا أنه تمتع بنفوذ كبير وشعبية ضخمة في بنما، وكان يتمتع باستقلالية تامة في اتخاذ القرار. لم يتم تسمية توريخوس برئيس الجمهورية لكنه بدلا من ذلك أطلق على نفسه ألقابا منها «القائد الأعلى لثورة بنما» و«الرئيس الأعلى للحكومة».

كان عمر توريخوس بمثابة القائد الثوري في نفوس شعب بنما، ورغم وصفه بالديكتاتور اليساري إلا أنه ألغى هذه الفكرة فلم يسع لتنصيب نفسه زعيما كامتداد لخطوات جيفارا أو كاسترو أو سلفادور أليندي، وهم نماذج يسارية في أمريكا اللاتينية؛ إلا أنه سعى جاهدا للحصول على الاستقلال التام من الهيمنة الأمريكية وفرض السيطرة التامة على قناة بنما دون إثارة أي شعارات معادية للولايات المتحدة الأمريكية فكان طرحه الدائم عدم معاداة الولايات المتحدة الأمريكية ومحاولة الاستفادة منها فيما لا يعيق مصالح شعبه.

وفي ظل سعي توريخوس للحصول على استقلال قناة بنما التي رأى فيها مخرجا لبلاده من الفقر إلى الرفاهية، تم توقيع ما يعرف بـمعاهدات توريخوس وكارتر التي أعطت بنما السيادة الكاملة على قناتها ووقعت عام 1979م. وكانت هذه المعاهدة بمثابة مجاراة الولايات المتحدة الأمريكية لأهداف توريخوس وكانت محاولة من الجانب الأمريكي لإحكام السيطرة على قناة بنما مرة أخرى.

وفي إطار ذلك أرسلت الحكومة الأمريكية بيركنز لمقابلة توريخوس، ووقتها قال توريخوس لبيركنز:«أنا أعرف الدور الذي تقوم أنت و أمثالك به ولن أسمح لك بأن تلعبه هنا. إما أن تأتي بمشروعات تعود على الشعب بالفائدة وإما فلا اتفاق بيني وبينك».

ولم يكتفِ توريخوس بتلك المعاهدة بل شرع في تنفيذ مشروع جديد بحفر قناة موازية لقناة بنما بإشراف ياباني بعد أن رفض منح امتيازها لشركة بكتل الأمريكية، كما اتخذ عدة قرارات تقلص من نفوذ الشركات المتعددة الجنسيات في بنما، وأبرزها شركة يونايتد فروتس المملوكة للرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش و كان ذلك تحديا صريحا من توريخوس للإدارة الأمريكية.


الانقلاب على توريخوس

قال بيركنز إن عمر توريخوس لم يكن فاسدا ولم يكن قابلا للإفساد، وبالتالي هو ليس نموذجا للنظام الأمريكي المفترض والذي يقوم على أن من يحتلون المناصب العليا في الدول التي تسلك سبل الهيمنة فاسدون بشكل أو بآخر، وعندما يأتي شخص ما ويهدم هذه القاعدة فإنه يمثل تهديدا للنظام في باقي الدول الأخرى، ونموذجا لكيفية رفض الهيمنة الأمريكية يمكن أن يحتذيه آخرون. وبالتالي تم تفجير طائرة عمر توريخوس عام 1981م بأيدي (أبناء آوى – جاكالز)، وهو تعبير أمريكي عن رجال الاغتيالات التابعين لـCIA الأمريكية.

وفي وصف ما حدث في بنما سنجد أن الإدارة الأمريكية لم تستطع إدخال بنما إلى الإمبراطورية الأمريكية إلا بعد اغتيال زعيمها المناضل والثائر عمر توريخوس الذي كافح من أجل الفقراء، والذي كان عائقا في وجه الهيمنة الأمريكية الشاملة.

ففي عهد توريخوس لم تعد بنما دمية في يد واشنطن أو أي يد أخرى، فلم يستسلم توريخوس أبدا للإغراءات التي عرضتها موسكو أو بكين، فكان يؤمن بالإصلاح الاجتماعي ومساعدة الذين ولدوا فقراء؛ لكنه في نفس الوقت لم يؤيد الشيوعية للخروج من مأزق الهيمنة الأمريكية، حيث كان مصمما على كسب الحرية لشعبه وبلده، وبعد اغتياله على يد المخابرات الأمريكية. سقطت بنما في أيدي القوات الأمريكية التي قامت بقصفها في 20 ديسمبر 1989 ووصف هذا الهجوم على بنما بأعنف قصف جوي حدث على مدينة منذ الحرب العالمية الثانية.