شعار فتح صفحة جديدة يغلف الأجواء الكويتية، وتحت هذا الشعار بدأت الكويت تشهد انفراجة سياسية بين الحكومة والمعارضة، وبالأدق بين السلطة التنفيذية والتشريعية. فقد رفض مجلس الأمة الكويتي السماح للحكومة بمباشرة عملها قبل تنفيذ ما يراه المجلس إصلاحات ضرورية. وعلى رأس تلك الإصلاحات يأتي العفو عن المحكومين السياسيين بسبب أحداث عام 2011 وما تلاها، وأخيرًا تبنى القصر تلك الإصلاحات وأصدر الأمير عفوه.

بعد صدور العفو قدمت الحكومة استقالتها كخطوة استباقية لسلسلة الاستجوابات الطويلة التي كان مجلس الأمة ينوي البدء فيها، 11 استجوابًا لمختلف وزراء الحكومة. كان الاتفاق أن تتأجل تلك الاستجوابات كإعلان ودي من مجلس الأمة على تقدير تنازل الحكومة بالقبول بصيغة وأسماء القائمة التي قدمها المجلس لنيل العفو، لكن الحكومة آثرت السلامة، واختارت الاستقالة.

لتسقط بذلك طلبات الاستجواب آليًا، ويُنتظر أن يقوم الأمير بتكليف صباح الخالد لتكوين حكومة جديدة. ومن المتوقع ألا يقوم مجلس الأمة بعرقلة سيرها بعد تجاوز السلطتين الخلافات الأساسية حاليًا. الدور البارز لمجلس الأمة، أو السلطة التشريعية، أمر تمتاز به الكويت، وفي غالبية السنوات يكون مجلس الأمة معبرًا عن الكيانات السياسية الموجودة بالفعل في الشارع، ولها مناصرون. وللمجلس حق التصويت على تعيين أمير البلاد، وتقويم مسار السلطة التنفيذية.

إلا أن المرسوم الصادر عام 2012، مرسوم الصوت الواحد، جعل مجلس الأمة كيانًا مشوهًا، لا يعبر بشكل كاف عن نبض الشارع. بل تفتت الأصوات، واستطاعت السلطة التنفيذية عبر تقسيم الدوائر الانتخابية التحكم في نوعية الفئات والشرائح التي تدخل إلى مجلس الأمة.

الدستور موجود، التناغم مفقود

ورغم أن أمير الكويت هو رأس الدولة ورئيس كافة السلطات فإنه لا يمارس صلاحياته مباشرة بل من خلال وزرائه. والأمور المهمة التي يصدر فيها الأمير قرارًا أميريًا قد حصرها الدستور الكويتي في تسمية رئيس مجلس الوزراء، أو ترشيح ولي العهد. لكن لا يستطيع الأمير دستوريًا تعيين ولي العهد إلا بموافقة أغلبية مجلس الأمة.

ويجب تشكيل الحكومة من جديد بعد انتخاب مجلس الأمة. وأضافت التفسيرات الدستورية الملحقة بالدستور أنه على الأمير عند تسمية رئيس الوزراء أن يراعي المخرجات الانتخابية الجديدة ليكون ثمة تناغم بين السلطتين، السلطة التي اختارها الشعب والسلطة التنفيذية.

يبدو الأمر مثاليًا، لكن المشاكل دائمًا ما تقع بسبب الفجوة في تلك النقطة، غياب التناغم بين مجلس الأمة والسلطة التنفيذية. حتى أنه بين الوزراء أنفسهم قد يغيب التناغم فيتأثر مبدأ التضامن الوزاري. بخاصة إذا لم يتواكب تشكيل رئيس مجلس الوزاء للوزارة مع تحولات الشعب الكويتي التي تتجلى في نوعية ممثليه في مجلس الأمة، وهو ما حدث في انتخابات عام 2020، إذ اعترض العديد من نواب المعارضة على التشكيل الوزراي لما رأوا فيه بعدًا عن رغبات الشعب.

هذا التآلف السياسي القائم على أسس دستورية هو ما يفسر كيف يمكن لمجلس الأمة الكويتي أن يجبر أمير البلاد على إصدار قرار أميري معين. كذلك هو ما يوضح كيف يتمكن مجلس الأمة من تغيير تشكيل الحكومة لتتوافق مع رؤياه عبر عرقلة الموافقة عليها مرةً تلو الأخرى، وعبر محاصرة الوزراء بالاستجوابات المتتابعة.

موت الأمير

في  سبتمبر/ أيلول 2020 شهدت الكويت وفاة الأمير صباح الأحمد، فتولى شقيقه الشيخ نواف الأحمد، 84 عامًا، السلطة. الأمير الجديد عين شقيقه الشيخ مشعل الأحمد، 81 عامًا، وليًا للعهد. كانت وفاة صباح الأحمد خبرًا حزينًا للعديد من الدول الخليجية التي راهنت على شعبية الأمير الراحل في الحفاظ على كويت مستقرة بعيدة عن الربيع العربي.

وبمجئ الأمير الجديد برزت إلى السطح العديد من القضايا السياسية التي أجبرت الأمير على السير على خطى المصالحة، ما قد يبشر بكويت جديدة. أهم ما يميز الكويت الجديدة أنها بلد خليجي لكن مع ذلك يبرز إلى السطح فيها العديد من الخلافات الطبيعية التي تشهدها دول العالم لكن يتم قمعها بقسوة في الأوساط الخليجية، كأن يكون للشباب صوت ومطالبة.

لهذا برز اسم مسلّم البراك من بين المعارضين الصادر بحقهم العفو الأميري. فالبراك رائد الدعوة إلى العمل السياسي المنظم في الكويت، وهو في ذلك يبني على إرث كبير. فجده حمد البراك أحد أبرز وجهاء الكويت، وأبوه محمد البراك نائب سابق في مجلس الأمة لأربع دورات متتابعة.

فشل مسلّم في الفوز بأول انتخابات يترشح لها عام 1992، لكنه نجح  عام 1996 بعد أن قام بتغيير دائرته الانتخابية. وفي أعوام 2003 و2006 و2009 فاز أيضًا، وفي عام 2012 حقق الرجل ثاني أكبر معدل تصويت في تاريخ الكويت بالكامل، فحصل على 30 ألف صوت في الانتخابات النيابية. فأضحى منذ تلك اللحظة أسطورةً كويتية اجتمع عليها وحولها غالب الأصوات المعارضة.

أول ظهور للبراك في الحياة السياسية كان عقب حل مجلس الأمة عام 1986 وشارك في احتجاجات عُرفت بديوانيات الإثنين. وبعد دخوله البرلمان ظل البراك معارضًا وناقدًا للحكومة تحت القبة. لكنه قرر أن يأخذ المعارضة لنقطة أبعد، فشكل عام 2010 كتلة العمل الشعبي، حشد، انضوى تحت لوائها عدد من نواب البرلمان، وأيدها عدد كبير من الشارع الكويتي، والبراك هو المتحدث الرسمي لها.

سؤال الهوية

في أكتوبر/ تشرين الأول 2012 قرر الشيخ صباح حل مجلس الأمة، للمرة السابعة، بعد أن قضت المحكمة الدستورية العليا بإلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية. فقرر البراك تحويل الكتلة النيابية إلى حزب سياسي في مايو/ آيار 2013، وتحولت إلى حركة العمل الشعبي، حشد، وهى الحركة التي يظل البراك منتميًا إليها.

حين خاطب البراك الأمير صباح مباشرةً بإعلانه أن الكتلة لن تسمح للأمير أن يمارس الحكم منفردًا. وجهت إليه تهمة الإساءة للأمير فحُكم عليه بالسجن 5 سنوات، ثم خفف الحكم لعامين مع الشغل والنفاذ. قضى البراك عقوبته وخرج من السجن ليعلن أنه لا أحد يسعى للإطاحة بالأسرة الحاكمة لكن لا بد من المصالحة الوطنية.

اعتبر الخطاب بمثابة تراجع عن الخطابات المعتادة من النائب المفوه، واعتبر في الجهة الأخرى خطابًا واقعيًا يدرك أبعاد المشهد السياسي والتشكيلة الاجتماعية للمجتمع الكويتي. لكن الثابت أن مسلّم علم أن وجوده في الكويت في ظل وجود الأمير صباح أمر غير مقبول، فاختار النفي إلى تركيا.

الرمزية الثورية التي يمثلها البراك تعني أن عودته إلى الكويت دليل مرحلة جديدة تدخلها البلاد. سواء كانت دليلًا أن البلاد تتجه إلى مصالحة وطنية شاملة وحقيقية، أو كانت دليلًا أن مجلس الأمة قد أصبح قويًا بما يكفي ليملي ما يريد على القيادة التنفيذية والسياسية. وهى الرغبة القديمة الدائمة لمسلّم وغيره من المعارضين، أن يكون مجلس الأمة هو أصل كل شيء، فمن الأغلبية البرلمانية يتم اختيار رئيس الوزراء، وبموافقة الأغلبية البرلمانية يُصرف رئيس الوزراء شئون البلاد، ويصبح الوجود الأميري وجودًا شرفيًا بنسبة كبيرة.

لكن لا شيء مضمونًا، فالخطوة تُظهر بوادر مصالحة، لكن الوضع الأرض لا يلبث أن يراوح مكانه. خصوصًا أن أزمات الكويت أعمق من الصراع المزمن بين السلطة التشريعية والتنفيذية. فالكويت يواجهها سؤال الهوية  حتى الآن، من هو كويتي ومن ليس كويتيًا، ذلك الوصف ضروري لأن الحكومة في أفضل حالاتها سوف تستمع لتطلعات الكويتيين، في حين أن هناك آلاف البدون سقط عنهم الوصف فباتت تطلعاتهم غير محل نظر من السلطة.