اجتمع، يوم السبت الماضي، 25 آذار/ مارس، بمدينة روما، قادة سبع وعشرين من الدول التي تشكل الاتحاد الأوروبي. كانت مناسبة الاجتماع الاحتفال بمرور ستين عامًا على توقيع معاهدة روما، التي وضعت أساس الاتحاد الأوروبي.

من جهة، يحق للأوروبيين الاحتفاء بمدى التقدم الذي حققه المشروع الأوروبي منذ 1957، بعد أن نمت الفكرة واتسعت من مجموعة الست التي وقعت اتفاقية روما لتضم عشرات الدول الأوروبية، وبعد أن تقدمت أوروبا خطوات حثيثة على الطريق من السوق المشتركة إلى ما يشبه الكيان الكونفيدرالي.

ومن جهة أخرى، ليس من الصعب تبين خيبة الأمل في غياب بريطانيا عن اللقاء، بعد أن تأكد أن رئيسة الحكومة البريطانية، تيريزا ماي، سوف تستدعي البند الخمسين من اتفاقية لشبونة في 29 آذار/ مارس، وتطلق بالتالي مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي.

تمثل الخطوة البريطانية أول خروج من الاتحاد، وانتكاسة لا يمكن تجاهلها للمشروع الأوروبي. احتفال في روما؟، نعم، وهناك بالفعل ما يستحق الاحتفال.

ولكن خلف مظاهر الاحتفال، وكلمات القادة المفعمة بالتاريخ والتفاؤل بالمستقبل، ثمة شعور بالتعب والارتباك وفقدان اليقين، شعور بأن المشروع الأوروبي لم يعد يملك القوة الدافعة للتقدم، وأن قادته لا يعرفون تمامًا إلى أين يمكن أن يذهب.

اقرأ أيضًا:قمة روما: إعادة إطلاق الاتحاد الأوروبي

تمثل الخطوة البريطانية أول خروج من الاتحاد، وانتكاسة لا يمكن تجاهلها للمشروع الأوروبي، وهناك شعور أنه لم يعد يملك القوة الدافعة للتقدم.

ما يقوله الأنصار الخلصاء لأوروبا، إن خروج بريطانيا ليس مؤشرًا على فشل الوحدة الأوروبية؛ فمنذ التحاقها بالسوق المشتركة في بدايات السبعينيات، لم تحسم الجزيرة البريطانية موقفها كلية من العلاقة مع القارة، وحافظت على قدم داخل المشروع الأوروبي وقدم خارجه.

قرار بريطانيا بوضع نهاية لعلاقة هي أصلًا هشة ومضطربة، يقول هؤلاء، لا يجب أن يعني الكثير لمستقبل أوروبا. وهذا صحيح، ربما، ولكنه ليس صحيحًا كلية.

ليس فقط لأن بريطانيا إحدى أبرز قوى القارة وأحد الصناع الكبار لتاريخها الحديث، ولكن أيضًا لأن مشاكل المشروع الأوروبي لا تتعلق بالخروج البريطاني وحسب.

تنتشر القوى السياسية القومية في كافة أنحاء الاتحاد الأوروبي، من بولندا وهولندا وألمانيا، إلى النمسا والمجر وفرنسا، ويطرح أغلب هذه القوى برامج مناهضة للمشروع الأوروبي، بهذه الدرجة أو تلك.

المشكلة بالتأكيد لم تعد تتعلق باحتمال وصول أمثال خيرت فيلدز أو ماري لوبان للحكم؛ لأن اليمين القومي العنصري لا يملك قاعدة أصوات كافية لإيصاله للحكم.

وهذا ما اتضح في الانتخابات الهولندية مؤخرًا، وما سوف يتكرر، على الأرجح، في الانتخابات الفرنسية الرئاسية.

اقرأ أيضًا:هولندا الاختبار القادم لأوروبا قبل سباق الإليزيه المرير

ببعض التباين بين هذه الدولة أو تلك، يتمتع اليمين العنصري بما يعادل 20 إلى 30 بالمائة من الأصوات؛ وهذه ليست كافية لامتلاك مقاليد الحكم، لا في الدول ذات النظام البرلماني ولا الدول الرئاسية.

المشكلة هي في الأثر الذي يتركه صعود اليمين العنصري على مجمل الساحة السياسية الأوروبية، سيما على أحزاب يمين الوسط.

بتبني اليمين العنصري خطابًا قوميًا إحيائيًا، من جهة، وخطابًا مناهضًا للهجرة والعولمة الاقتصادية، ولسياسات الاتحاد الأوروبي، من جهة أخرى، وقد نجح في وضع القوى السياسية الرئيسة في موضع الدفاع، وفرض على السياسة الأوروبية بمجملها اتخاذ خطوات أبعد نحو اليمين.

اتجه الحزب الاشتراكي الحاكم في فرنسا أكثر إلى اليمين خلال العامين الماضيين؛ أما مرشح الجمهوريين الفرنسيين للرئاسة، فرنسوا فوين، فقد تبنى لغة أقرب إلى الجبهة القومية وماري لوبان، حتى فيما يتعلق بعلاقة فرنسا مع الاتحاد الأوروبي.

أفلتت النمسا بصعوبة في العام الماضي من فوز يميني عنصري بالرئاسة، بينما يتبنى ائتلاف الاشتراكيين والمحافظين الحاكم سياسات أقرب إلى اليمين العنصري منها إلى التيار العام للسياسة الأوروبية. ولا تبدو سياسات الحكومتين الهنغارية والبولندية أكثر اعتدالًا.

اقرأ أيضًا:ثلاثة أسباب تجعل فرانسوا فيون الأقرب لحكم باريس

تتعلق إحدى مشاكل المشروع الأوروبي المستعصية بالأسس التي استند إليها المشروع من بداياته في خمسينيات القرن الماضي.

ثمة عناصر ثلاثة ضرورية لأي مشروع وحدوي: وجود مشترك مقنع من القيم والميراث الثقافي؛ تبلور مصالح مشتركة، أمنية واقتصادية، ملموسة؛ وتوافق سياسي ملموس على تجاوز سيادة الدولة القومية.

على نحو ما، استطاع الأوروبيون خلال العقود القليلة الماضية إنشاء ما يمكن وصفه بالمشترك الثقافي والقيمي، مستدعين الميراث الروماني، أحيانًا، وميراث شارلمان والإمبراطورية الرومانية المقدسة، في أحيان ثانية، وحتى تاريخ القارة المسيحي، في أحيان ثالثة.

وبالرغم من التفاوت الهائل في المقدرات الاقتصادية لدوله، حمل الاتحاد الأوروبي وعدًا بالرفاه والنمو والتضامن الاقتصادي.

إضافة إلى ذلك، وفي تجاهل متعمد للدور الذي لعبه حلف الناتو في منع تحول أوروبا مرة أخرى إلى ساحة للموت والدمار، نجح الأوروبيون في صناعة دور للمشروع الأوروبي في الحفاظ على الأمن والسلم في القارة.

ولكن أوروبا لم تستطع، في أي مرحلة من مراحل بناء المشروع، التوافق على آلية دائمة ومقنعة وغير قابلة للتراجع عنها لكيفية تجاوز الدولة القومية وسقفها السيادي.

عندما كانت أساطير المشترك الثقافي والقيمي ووعود الرفاه والأمن والسلم هي الغالبة على المناخ الأوروبي، لم يكن هناك من قلق كبير يمكن أن تمثله فكرة الدولة والسيادة القومية.

هناك مشكلة أوروبية مهمة ووثيقة الصلة بمناخ الإحياء القومي، فمنذ الوحدة الألمانية، برزت ألمانيا باعتبارها معضلة التوازن الأوروبي الكبرى.

ولكن، وما إن تكشّف الواقع عن إحباط اقتصادي في أغلب دول الاتحاد الأوروبي، سيما بعد أزمة 2008 الهائلة، حتى جرى نسيان المشترك الثقافي والقيمي، وعادت الفكرة القومية لتفرض نفسها من جديد.

بيد أن هناك مشكلة أوروبية أخرى لا تقل أهمية، مشكلة هي في جذورها وثيقة الصلة بمناخ الإحياء القومي. فمنذ الوحدة الألمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، برزت ألمانيا باعتبارها معضلة التوازن الأوروبي الكبرى.

مع تسارع الآلة الصناعية وتصاعد وتيرة التسليح في ألمانيا، في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، عملت فرنسا وبريطانيا وروسيا على بناء توافق، استهدف تحقيق توازن إستراتيجي في القارة.

ولكن التوافق الثلاثي لم يحقق أهدافه، وسرعان ما أدت حادثة اغتيال معزولة لولي عهد النمسا إلى اندلاع حرب مدمرة وباهظة التكاليف، طالت معظم القارة الأوروبية.

هزيمة ألمانيا واستسلامها في نهاية الحرب الأولى لم توفر حلًا نهائيًا للمسألة الألمانية. وما إن صعد النازيون للحكم في منتصف الثلاثينيات، حتى عادت ألمانيا للتسلح، وإلى فرض إرادتها التوسعية على جوارها، وهذا ما أدى إلى اندلاع حرب عالمية ثانية، انتهت هي الأخرى بهزيمة ألمانيا، واستسلامها، وتقسيمها.

أتاحت نهاية الحرب الباردة لألمانيا فرصة الوحدة من جديد، وسرعان ما أصبحت ألمانيا الموحدة القاطرة الاقتصادية الكبرى، ليس للاتحاد الأوروبي وحسب، بل وللقارة برمتها. تعلمت ألمانيا درس الحروب المدمرة والمؤلمة، بلا شك، ولكن الصعود الاقتصادي الهائل هو في طبيعته مولد لإعادة توكيد الإرادة السياسية.

خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يعبر في أحد وجوهه عن أزمة تحول الاتحاد إلى ما يشبه المنتدى الألماني.

ويبدو أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ وأوهام بوتين المتعاظمة في العودة للعب دور أوروبي كبير؛ وتوجه أمريكا المتزايد للتحلل من أعباء القيادة الغربية، في طريقها لأن تعيد أوروبا إلى مناخات القرن التاسع عشر.

وسيكون على فرنسا، ودول مثل بولندا وإيطاليا، أن تختار بين البقاء في منتدى أوروبي تقوده ألمانيا، أو تخلق لنفسها موقعًا خارجه. ليس هذا بالمستقبل الذي تريده شعوب القارة بالتأكيد، ولكن هذه هي النتيجة الطبيعية لتداعيات الإحياء القومي الذي تعيشه القارة اليوم.

لاحتواء هذه التداعيات، تحتاج أوروبا، ربما، استدعاء كل ميراثها العقلاني.