رأى الإنسان منذ القدم في الموت حدثًا قدسيًا ذا طبيعة متعالية، وتؤيد شواهد وصلتنا من العصر الحجري الأوسط أن الإنسان البدائي اهتم بشدة بطرق وعادات الدفن، والتي تتشابه بشكل كبير باختلاف المناطق، ويستنتج من بعض الملاحظات اعتقادهم بثنائية الروح والجسد، وأن الروح بعد الموت تعيش في عالم موازٍ لعالم الأحياء حيث تكتسب قوة غير عادية.(1)

وتعد عبادة الأسلاف من أقدم العبادات التي عرفها الإنسان، حيث كانت منتشرة في عدد من المجتمعات البدائية. تُبنى على اعتقاد تأثير أرواح الأسلاف الموتى في مجرى الجماعة البشرية، وتسعى هذه العبادة إلى استرضاء الأجداد وطلب معونتهم ومشورتهم. واختلف الأنثروبولوجيون فيما بينهم حول من هم الأسلاف، وما هي وظائفهم وطبيعة الصراع بينهم.(2)

تساعد عبادة الأسلاف على توطيد علاقات الجماعة، وتعزز احترام الأقرباء الأحياء وكذلك نقل التقاليد فيما بينهم؛ لأن شعائر عبادة الأسلاف التقليدية تتطلب التعاون بين أفراد السلالة المشتركة في أدائها، وبالتالي فإنها تشجع التعاون في المستقبل ما بين الأجيال المتعاقبة. وعندما يتم التشكيك فيما يُزعم أن الأسلاف الموتى قد قالوه، فإن تكلفة ذلك تكون كبيرة، بسبب ما سيتضمنه هذا التشكيك من رفض للتقاليد والأهل معًا، حيث يستطيع المرء أن يجادل أحد المسنين حتى نقطة ما، لكن لا أحد يُشكّك في حكمة وسلطة أحد الأسلاف.(3)

لا يمكننا أن نقول بأن العصر الحديث تُمارس فيه عبادات الأسلاف بشكل حرفي، لكن ما يحدث من بعض القداسة لشخصيات بعينها من الأموات هو في حد ذاته ينطوي على جزء كبير من روح هذه العبادة وإن اختلفت تجلياتها، وكما قال «ستيدمان غراهام» إن عبادة الأسلاف ليست موجودة فقط عند القبائل القديمة التي شاعت بينهم، بل هي موجودة في كل مجتمع تنقصه عبادة الأسلاف، لأن هذا يساهم بشكل كبير في تطور المجتمع البشري، لأهمية السلف والتقاليد ولتوطيد صلات القرابة.(4)

يمكن أن نتتبع هذا في المجتمع العربي الحديث على مستويين:

المجتمعات الريفية

يزخر التاريخ الشعبي بمثل هذه الحكايات عن الأولياء الصالحين وهم كثر ويُروى عنهم الكثير من الأساطير، سنذكر الخضر بالأخص الذي نجد عنه العديد من الأساطير في كتب التاريخ وفي الوعي الجمعي الشعبي، وتحديدًا ما ورد عنه في كتاب «البداية والنهاية»:

حيث قال (أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني): «سمعت مشيختنا منهم أبو عبيدة وغيره قالوا إن أطول بني آدم عمرًا الخضر، واسمه خضرون بن قابيل بن آدم.»

وذكر ابن إسحاق: أن آدم عليه السلام لما حضرته الوفاة، أخبر بنيه أن الطوفان سيقع بالناس، وأوصاهم إذا كان ذلك أن يحملوا جسده معهم في السفينة، وأن يدفنوه معهم في مكان عينه لهم. فلما كان الطوفان حملوه معهم، فلما هبطوا إلى الأرض أمر نوح بنيه أن يذهبوا ببدنه فيدفنوه حيث أوصى، فقالوا إن الأرض ليس بها أنيس وعليها وحشة فحرّضهم وحثّهم على ذلك، وقال إن آدم دعا لمن يلي دفنه بطول العمر، فهابوا المسير إلى ذلك الموضع في ذلك الوقت، فلم يزل جسده عندهم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه، وأنجز الله ما وعده فهو يحيى إلى ما شاء الله له أن يحيى.

وقال ابن كثير: «وأما الخلاف في وجوده إلى زماننا هذا، فالجمهور على أنه باقٍ إلى اليوم. قيل: لأنه دفن آدم بعد خروجهم من الطوفان، فنالته دعوة أبيه آدم بطول الحياة. وقيل: لأنه شرب من عين الحياة فحيا».(5)

يتجلى الخضر في عدد من الديانات، فهو مار جرجس في التراث الشعبي المسيحي، والخضر أبو العباس في مصر، ويحتفل الريفيون في أوروبا بيوم هذا القديس ويدعونه بجورج الأخضر في 23 نيسان/أبريل، كما بُني له عدد من المقامات في الوطن العربي.

تكتسب أساطير الخضر وغيره من الأولياء بعدًا اجتماعيًا مهمًا في ترابط المجتمع، فالعقل الجمعي الشعبي يخلق أساطيره التي تكفي حاجته بشكل لا إرادي ومترتب على العقل الديني الشعبي في الأزمنة القديمة.

تقديس الفقهاء والمحدثين

للمفكر والكاتب السوداني «البسطامي» عبارة شهيرة: «أخذتم علمكم ميت عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت». ونجد هنا أن الأمر لا يتعلق بانتقال الدين نفسه بين الأجيال، بل انتقال الدين بشكله الكهنوتي الذي تبلور مع عدد من الفقهاء.

ويتجلى هذا كشكل آخر من أنواع عبادة الأسلاف، لكن الأسوأ أنك إن قلت لأحدهم هذا لاستعاذ بالله من أن يفعل هذا، لكن ما يحدث بشكل لا واعٍ هو تقديس غير معلن لهذا الشكل الذي وصلنا من الدين، وهي حالة فكرية عامة تعيشها كافة الأديان.

هكذا نجد أن بعض العادات القديمة أصعب من انتشالها من أنفسنا مهما تغير المسمى الديني، لأنها بنى اجتماعية لها جذر تاريخي أبعد من تاريخ الدين نفسه، بل أبعد من نشأة الحضارة، وقد أثبتت هذه النزعات التدينية نجاحها في التطور البيولوجي وساعدت في توطيد صلات القرابة وقدسية التقاليد والعرف في المجتمعات على مدى الأزمنة، وبالرغم من أن فكرة القرابة تختفي ظاهريًا في الأديان العالمية لأن العائلات ليست كلها من سلف مشترك بل من أجناس وأماكن متعددة، لكنها مع هذا تخلق تقاليدها الخاصة بها التي تشكل علاقات اجتماعية بين غير الأقرباء تشبه صلة القرابة الموجودة في الديانات القائمة على القرابة الفعلية، مثل: أخي في الإسلام أو أبونا في الكنيسة، وهذا لأن العلاقات فيها مبنية على الثقة والالتزام والتضحية والإيثارية والتقبل بغير تشكك لإرشاد نبيها أو إرشاد من يدعوهم السلف الصالح.

المراجع
  1. فراس السواح، “دين الإنسان”، سوريا، دار التكوين، 2016.
  2. شارلوت سيمور سميث، “موسوعة علم الإنسان: المفاهيم والاصطلاحات الأنثروبولوجية، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2009، ص ص 333: 343.
  3. إيكارت فولاند وولف شيفينهوفل، “التطور البيولوجي للعقل والسلوك الدينيين”، القاهرة، دار المحروسة والمركز القومي للترجمة، 2016.
  4. المرجع السابق.
  5. ابن كثير، “البداية والنهاية: الجزء الأول، بيروت، مكتبة المعارف، 1990.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.