نتساءل نحن المصريين كثيرًا عن أصولنا، عرب أم فراعنة، وغالبًا ما يُسأل هذا السؤال والفتح العربي الإسلامي يتردد في الذهن. يستحق هذا السؤال أن يُجاب عليه، ولكن لأسباب أخرى علمية.

قبل الحديث عن الأبحاث الجينية التي جرت عن مصر مؤخراً، دعونا نروي هذه القصة أولًا.

طبقًا للحفريات وتقنيات تقدير أعمارها، فالإنسان الحديث Homo Sapiens ظهر في قارة أفريقيا، شرقها تحديدًا قبل حوالي 300 ألف سنة. هؤلاء البشر قاموا بهجرات متتالية إلى خارج أفريقيا في الفترة من 125 ألف سنة حتى 50 ألف سنة ماضية. ومن هنا انتشر الإنسان الحديث في جميع أنحاء العالم.

مسارات هذه الهجرات وأماكن وجود الحفريات وأعمار الأنسجة المتبقية منهم تُخبرنا أن هناك مساران ممكنان لهذه الهجرات: إمَّا عن طريق «مصر–سيناء–الشام» أو «إثيوبيا–مضيق باب المندب–اليمن».

القنوات المائية والمضايق كانت تقريبًا غير موجودة، خليج السويس لم يكن قد تكوَّن بعد، ومضيق باب المندب كان ضحل المياه. لم تأتِ أول هذا الهجرات بنتائج ولم يستقر أو ينجو المهاجرون منها، وكان أكبر تلك الهجرات تأثيرًا من حوالي 50 إلى 70 ألف سنة. تلك الهجرة التي كانت سببًا في اختلاف جينات قدماء المصريين وشمال أفريقيا عن باقي القارة السمراء.

الأبحاث على المومياوات المصرية

سابقًا لم تكن الأبحاث الجينية على مومياوات مصر القديمة بالدقة الكافية للحصول على نتائج دقيقة ونافعة. تقنية تسلسل الـ DNA التقليدية لم تكن تستطيع التعامل مع تحلل الـ DNA والتلوث الناتج من العناصر الدخيلة في بيئة المقابر الرطبة والجو الحار في مصر.

لكن ظهرت تقنية جديدة تُسمى High Through DNA Sequencing، استطاعت التغلب على المشاكل التي عطلت التقنيات السابقة. في عام 2017 نشر «فيرينا جيه شوينمان» وآخرون في مجلة Nature Communications أول بحث حول استعمال تلك التقنية على 151 مومياء في موقع مقابر «أبوصير الملق» بالقرب من بنى سويف في مصر.

معظم المومياوات كانت على درجة جيدة من الحفظ، والمكان كان مركزًا لعبادة أوزيريس، لذا كان مكانًا شائعًا لدفن الموتى. ومومياوات هذ الموقع تنتمي لثلاثة عصور مرت على مصر: عصر الدولة الحديثة، والعصر البطلمي، والعصر الروماني.

يقول «هانيس شرودر»، عالم علم الوراثة القديمة بجامعة كوبنهاغن، إن الفريق نجح فيما فشلت فيه الدراسات السابقة على المومياوات المصرية. وتضيف «سونيا زاكريفسكي»، عالمة الآثار الحيوية بجامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة، أنه يمكن –الآن – للباحثين أن يأملوا في الإجابة على أسئلة من قبيل: هل كانت الهجرة هي السبب وراء النمو السكاني في مصر القديمة.

الاستمرارية الجينية

تمت مقارنة نتائج تسلسل الـ DNA للمومياوات بمثيلاتها لعينة من 100 مصري حديث من شمال مصر. كانت النتيجة شبه تطابق بين جينات الثلاثة العصور القديمة، وهو دلالة على ضآلة التأثير الجيني لوجود البطالمة والرومان في مصر، أو على الأقل في مصر الوسطى.

كان هناك اختلاف بسيط مع جينات العصر الحديث، هذا الاختلاف تمثل فى وجود نسبة أعلى من الجينات الوسط أفريقية في المصريين الآن. تم تتبع تلك الجينات إلى 700 سنة مضت تقريبًا، أي في فترة حكم المماليك لمصر، ربما بسبب هجرات من وسط أفريقيا لمصر.

هذه ليست بالنتيجة الصادمة

النتيجة الصادمة أن حوالي 80% من جينات المصريين القدماء كانت جينات شرق أوسطية، بمعنى أن أقرب البشر لقدماء المصريين جينيًّا حاليًّا هم سكان الشام والأردن.

تقول أكثر من دراسة أن أحدث تاريخ لدخول تلك الجينات هو 2000 سنة قبل الميلاد وأكثر من ذلك، وربما تمتد إلى حوالي 40 ألف سنة.

ربما يظن البعض أن وجود الجينات الشرق أوسطية في المصريين هو أمر حديث منذ الفتح العربي الإسلامي. بالطبع هناك عائلات معروفة بأصلها العربي، خصوصًا في صعيد مصر، لكن تأثير الفتح العربي لم يكن واسعًا على المجموع الجيني للمصريين.

لاقت الدراسة اعتراضات من بعض خبراء الآثار التقليديين، حيث ذهبوا إلى أن الدراسة تريد ربط قدماء المصريين بالعبرانيين، وهو أمر غريب، حيث إن الدراسة تُرجِع الجينات الشرق أوسطية إلى ما هو أبعد زمنيًّا من هذا، إلى أواخر العصر الحجري، حيث لم يوجد بعد ما يسمى العبرانيون أو العرب حتى.

تذهب الدراسة بشكل عام إلى أن المصريين القدماء والحديثين كليهما يشتركان مع سكان الشرق الأوسط، فقط القدماء يشتركون بنسبة أكبر.

نحن نتحدث هنا عن الأصل المحتمل لقدماء المصريين، عن التعريف المحتمل لكلمة «مصري»، لا نتحدث عن مجرد جينات دخيلة. فيبدو أن صلتنا بالشرق الأوسط أقدم مما نتخيل.

لا يمكن للبيانات الجديدة أن تُفسِّر سبب تشابه المصريين القدماء بشدة مع أناس من الشرق الأوسط. هل كان ذلك بسبب الهجرة؟ أم أن الصيادين في العصر الحجري في شمال أفريقيا كانوا متشابهين وراثيًّا لأولئك الموجودين في بلاد الشام؟

من السابق لأوانه معرفة ذلك، ولكن هناك فرصة أفضل الآن للحصول على إجابات. فهذه هي أول لمحة عن التاريخ الجيني لمصر، وهي في الحقيقة مجرد بداية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.