ما زالتُ أذكر لقاءنا الأول جيدًا، كأنه حدث مُنذ دقائق.

كان لقاء عمل، وكان كلانا – وما زال – بعيدًا كل البعد عن الآخر. لم يخطر ببال أي منا أن الأمور قد تتطور، ربما هذا ما طمأنني في البداية. كانت علاقة تبادل منفعة، ومشاطرة مصالح مشتركة. فرضت مادية العصر الحالي طبعها القاسي على علاقتنا الإنسانية، تغلغلت، وترسخت، وصارت جزءاً متأصلًا في تعاملاتنا ظاهرًا كان أم خفيًا.

كنت لبقًا، رزينًا، هاديء الطباع، تبدو عليك خبرة عشرات السنين، رغم صغر سنك. تجاذبنا أطراف حديثٍ قصيرٍ حول نظم العمل، تلته أحاديث أخرى متفاوتة، تبادلنا خلالها الخبرات والمعارف. بنهاية كل حديثٍ، كان قلبي ينجذب نحوك أكثر، ويهابُك عقلي أكثر.

لا أستطيع أن أجد الكلمات المناسبة؛ لأصف حالتي تحت سطو وجودك في حياتي آنذاك.

كان لدي جدول يومي أسير عليه، شيء من الروتين ألتصق به، حتى ظهرت أنت! كانت حياتي مرتبة، متوقعة، تسير برتم ممل بطيء، لكنه كان مريحًا بالنسبة لي. كنت مستلقية في تمام الاسترخاء داخل منطقة الراحة، التي يشدد خبراء التنمية البشرية على ضرورة الخروج منها.

أنا بانتظار خطوةٍ منك، لأخطو لك بعدها خمسين خطوة .. مُدَّ يدك أكثر أكاد أمسك بها، قُل شيئاً لعلك تكسر سبعين حاجزًا.
إليف شافاق

إلى أن بزغ ضوء من بعيد، أنار عتمة فؤادي. ضرب حياتي زلزال شديد، هزَّ جُلَّ أركاني. تسلسل دخيل بدهاء، مُقتحمًا حصون الأمن التي نسجتها حولي، وكنت أظنها منيعة. استباح حرمات المكان، وأخذ يتجول فيه حُرًّا طليقًا. يلحظ ثغراته الأمنية، ويدوِّن نقاط ضعفه. يستكشف غرفاته المهجورة، ويستوطن أعلاهم منزلةً.

كنت تتروى في هجماتك تارةً، وتُباغِت تارةً؛ فأصبتني في مقتل من الحيرة، بعد أن أعياني الشتات. لم يقوَ قلبي على مُجابهتك في النزال، ولم يعِ عقلي حينها كينونتك الفريدة تلك. لم أُرِد أن أستسلم دون نِزال، لكنك لم تَدع لي الفرصة. لم أشأ أن أسلِّمك مفاتح قلاعي، بيد أنك كنت تملكها بالفعل.

لم أرغب أن أثبِّت لك حبال التعلق، غير أنك كنت أسرع مني، وأحطت بها قلبي بكامله. لم أنوِ أن أُمهِّد لك جسور التواصل، لكن مهارتك الهندسية شيدت جسورًا متينةً ببراعةٍ، فاقت سرعة قلبي على الهدم. مازال أثرها باقيًا، كندبة غائرة في الفؤاد، لا يندمل جُرحها.

وأعلم أن ولعك بي نابع من أنني فهمتك كأنني نفسك .. بينما أحبك الآخرون أكثر من أن يفهموك

كل شيء حدث بسرعة خاطفة، تلاشت الحواجز بيننا في طرفة عين. تآلفت أرواحنا كأنصاف تائهة، ما لبثت أن عثرت على مُكمِّلها. وجدت أنفسنا السكينة في أحدنا الآخر، امتزجت مشاعرنا، وتآخت أفكارنا. صرنا شخصًا واحدًا يسكن جسدين، يتألمان، ويفرحان معًا.

غمرتنا نشوة الاستكشاف الأولى، وقعنا أسرى في بئر «وهم الوقوع في الحب». تلك الحالة التي ينزلق فيها غالبية العشاق، في بداية تجاربهم. يبرز خلالها كلا الطرفين أفضل ما عنده، يبدو في أزهى صورة، ويتألق في أبهى حِلَّة. تغمرنا المثالية؛ فنظهر تفاهمنا وتسامحنا، تقبلنا للآخر، ومرونتنا مع الاختلاف.

نتحدث عن أحلامنا وطموحاتنا، في مغالاة توحي بأننا سنغزو العالم، ونشكله من جديد. تتلون نظرتنا للواقع باللون الوردي، ونغرق في أحلام تحلق بنا في فقاعات هوائية، ما إن تتصادم بأول عقبة حتى تنفجر. يتملكنا اعتقاد شبه يقيني بأننا الثنائي المثالي، ولن نختلف أو نتنازع على شيءٍ قط.

شيء إليك يشدني لا أدري ما مُنتهاه .. يومًا أراه نهايتي، يومًا أراه حياة
فاروق جويدة

ما أسهل الوقوع في الحب، وما أصعب الحفاظ عليه! الغريب في الأمر أنني كنت على درايةٍ بهذا سلفًا، مع ذلك لم أقاوم كفايةً. كضالٍ في الصحراء رأى سراب واحةٍ قريبةٍ، يتجه صوبها مهرولًا، فإذا برمالٍ متحركةٍ تسحبه لأسفل، كجندي مُشاةٍ وطأت قدمه لغمًا مدسوسًا، فتصلب فوقه، كان حبك كذلك!

كان عسلًا لذيذًا، وعلقمًا مريرًا في ذات الوقت. بقدر أوجاعنا في النهاية العاجلة، بقدر متعتنا في البداية الآخِذة. ورغم معرفتي المسبقة للنهاية التي سنؤول إليها، أغراني فضول التجربة الأولى. لست نادمةً حقًا، بل ربما لو عاد بي الزمن الآن لذلك الحين، لكررت فعلتي مجددًا.

قصتنا، القصيرة طولًا والمليئة عِبرًا، يدهشني أحيانًا: كيف انتهت هكذا؟! كنت أتعجب من رواية السيدة أحلام «الأسود يليق بك»، كون تسلسلها من بدايتها حتى قبل النهاية عظيم الشأن. يصف حبًا استثنائيًا فريدًا من نوعه، انتظرت أن تُنهي الأمر بين الحبيبين، نهايةً ملحميةً كما في دراما الشاشات.

إلا أنها خذلتني بنهاية باردة واهية؛ لا تليق أبدًا بحجم الصولات والجولات بينهما.

كيف يؤول حب عظيم كذلك، إلى مصيرٍ بائسٍ هكذا؟! لم أستسغ النهاية قط، ولم أفهم لماذا لم تخط لهما نهايةً أخرى! ليس بالضرورة أن تكون سعيدة، لكن أقوى من تلك. نهاية كارثية هائلة، ظروف قهرية ربما، شيء ما خارج استطاعتهما حال بينهما، أي شيء من هذا القبيل.

لكن في الحقيقة السيدة أحلام، اختارت النهاية الأصدق والأوقع، لا الأمثل.

لأن الحب في أوله جميل وأبدي.. فكر معي في نهاية مختلفة تكسر قانون النهايات المعلبة .. كلهم يرحلون ما الجديد؟ لا جديد في رحيلك .. الجديد في بقائك.. لأن جميعهم بادئ الأمر ملائكة تمشي على الأرض .. افعل شيئًا مختلفًا .. شيئًا يصلح حتى الشيخوخة !
ندى ناصر

هذا ما أدركته مع الوقت، وما علمته لي الأيام في أحد دروسها القاسية. إلا أني لا أستطيع أن أحكم، أتراها صيحةً مُحدثةً ضربت قصص الحب، أم تراها طبيعته الغالبة؟! بات يبدأ بتصورات كبيرة، وأحلام الأبدية والخلود. نظن أننا مختلفون، وألا أحد يشبهنا. سيصمد حبنا الاستثنائي، ويُخلّد أسطورةً ملحميةً لم يسبق لها مثيل، تتناقلها الأجيال من بعدنا.

ثم ماذا ؟

ثم نترطم بالواقع الرمادي، نلامس الصدمات، والخيبات، والأوجاع. نهيم في كل وادٍ متمتمين: «لأقعدن على الطريق وأشتكي، وأقول مظلوم وأنت ظلمتني».

يخيل إلينا أننا فوجئنا، وما حدث لم يكن في الحسبان. بينما في الواقع حدث ذلك مع سابق مقدمات إذ لا شيء يحدث مرة واحدة من تلقاء نفسه. دومًا تقبع هناك مؤشرات دقيقة، تحوم حولنا تُنذر باحتمالية حدوث كارثةٍ أو صدمةٍ مستقبلية، لكننا لا ننتبه لها أو نتغافل عنها عمدًا. علاوةً على أن وقوعنا في حالة الحب، يخدرنا ويطمس حواسنا. وأحيانًا نخدع أنفسنا بأنفسنا، ونغض الطرف عما يقلقنا؛ كي نحيا اليوم بيومه، نسعد بما هو في أيدينا الآن، وليحدث ما يحدث في الغد.

ولأننا نتعجل الأمور، ونتجاهل الإنذارات الداخلية والخارجية، نُسرع في تشييد بنيانٍ على أساسٍ هشٍ، ليس عجيبًا أن يتهاوى للسقوط ضد أول تيار. فتنتهي قصص ملحمية تحمل في طياتها آمالًا، ترنو نحو السماء، عند أول مطب تصطدم به. قصص أخرى يتم وأدها في مهدها، كانت لتغدو شيئًا عظيمًا، يخلف بصمةً بارزةً في سجل التاريخ، فتلقى حتفها حتى قبل أن تبدأ.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.