عندما أسمع صوت غنائه، أنفجر في البكاء.
أوبرا وينفري

تجلس «إيدي» منتفخة البطن حملًا تحت تكعيبات العنب في شمس الربيع التوسكاني الحانية. تقول لها الجارة «روسا»، وهي تفرد حاشية السرير المبقعة بعشرات بقع بول الأطفال في الشمس، إن ضيق العيش لن يتحمل طفلًا آخر. تقول لها الخالة «رفايللا»، وذراعاها تغوصان في عجين خبر الفوكاتشيا، إن بنية إيدي الضعيفة لن تتحمل جنينًا ينهب غذاءها.

تشيح «ميرا» بوجهها وهي تنثر الريحان على سطح فطيرة وتلقيها في فرن الحطب وتخبر بأنها رأت رؤيا لا تبشر بخير عن جنين إيدي. ثم تنخرط في وصلة ابتهال للعذراء مريم بصوتها المرتعش الخشن.

تقرر إيدي أن أمر الطفل لا يعني أحدًا سواها و«أليساندرو» زوجها. يقرر الاثنان أن طفلًا آخر لن يثقل موازين الحياة، ولن يفتح عليهما أبواب الجحيم رغم كل شيء.

بعد عدة سنوات يعدو آندريا الصغير بين الكروم ويضحك، تفوته وهدة واضحة فيسقط على وجهه وينخرط في البكاء. تحتضنه إيدي وتبكي لبكائه. تنظر في عينيه المريضتين وتمسحهما بكفها. لن تندم قط على قرار الاحتفاظ بقطعة من روحها، لكنها صارت تخشى المستقبل المظلم على طفل يكاد يبصر ما أمامه.

في بداية السبعينيات كان آندريا فارع الطول، نحيل البنية، ينحني واقفًا في مرمى مرتجل للعب كرة القدم. يفكر في الكرة المتواثبة هنا وهناك بين أقدام رفاقه. يبصرها بالكاد، لكن لحظات كالتي يقضيها بين أقرانه تهون عليه عبء العمل الشاق في مزرعة أبيه الصغيرة، وتنسيه للحظات أنه لن يكون أبدًا كبالباقين.

كان ملائكيًّا محبوبًا يصيح فيه ماركو أن يتخذ الحذر من الكرة الصاروخية المقتربة منه، يندم «ميجيل» على قوة ركلته التي لم يفكر لحظة في إيذائها صديقه «آندريا» إن لم يبصرها في وقت مناسب ليصدها أو يبتعد عنها.

في عقل «آندريا» كان صوت تنبيهات أصدقائه يختلط بدندنات عقله لأغنية الموسم الأمريكية «أمي أخبرتني ألا آتي».. يدندن:

«هل تفضل الويسكي مع الماء..

هل تحب الشاي بالسكر..

أسئلة مجنونة يسألونها…».

تندفع الكرة قاصدة جبهة «آندريا»، يجري الأطفال نحوه فاغري الأفواه صائحين: «احترس»..

«هذه هي أكثر الحفلات جنونًا على الإطلاق..».

تصطدم الكرة بجبهة «آندريا»، يطير في الهواء للخلف ويطير شعره الفاحم للأمام.. صوت الرفاق إذ يتجمعون حوله، همساتهم، صخبهم..

يهمس أنه بخير، يفتح عينيه…

«أوه، لا توقدي الأنوار، لا أريد أن أرى».

لا شيء سوى الظلام الدامس.. وتخفت الأصوات من جديد.


أندرياس أليساندرو بوتشيلي، الإيطالي الذي انساب صوته في مسامعي منذ طفولتي فعشقت الموسيقى وآمنت بما ينير منها ظلمات الروح.

علاقتي بالموسيقى متشعبة مختلطة، أحببت موسيقى فيفالدي وعشقت أغنيات شادية وتذوقت تلك الشقاوة والخفة في أغاني عدوية.

خلف كل صوت صادق حكاية، ولا يأتي الصدق إلا من صدق التجربة وتميز الأرواح. تلك المشاهد من حياة بوتشيلي لم يُذكر منها سوى سطر واحد «ولد بوتشيلي بضعف في النظر وفقد بصره تمامًا في حادث أثناء لعبه كرة القدم»، باقي ما كتبته هو ما وصلني من صوته، من حركته على المسرح، من صدقه الشديد. هذا بالضبط هو معياري لاختيار التميز الفني.. الصدق.

من بين أقوى الأصوات العربية صدقت «عبد الحليم حافظ»، وإن لم يكن أقواهم. صدقت علي الحجار ومدحت صالح وأنغام وكارول سماحة. لكن انغلقت روحي تمامًا أمام طوفان «أغاني المهرجانات» بكل أشكالها، هؤلاء قوم لم يمروا بتجربة ولم ترتقِ قلوبهم ليدركوا كينونتهم من الأساس. أغانٍ تلخص شعورًا زائفًا بالتميز مع الكثير من «كم نحن رائعون ولا تقابل روعتنا إلا بكل خسة». ثم صارت أغاني عن المخدرات، ثم فوجئت بأغنية إباحية رائجة عن زنا المحارم ووصف خادش لعلاقة بين فتاة وأبيها!

يروق للبعض أن يرجع الذنب فيما وصلوا إليه إلى من همشوهم من البداية. لكن دعونا نتفق أن الأفارقة الذين اسْتُعْبِدوا وأُرْسِلوا إلى أمريكا خرج منهم أفضل أنواع الموسيقى، الذي صار فيما بعد مما يميز الولايا ت المتحدة الأمريكية.

الأغاني التي يغنيها الفلسطينيون تحت القصف، وموسيقى الأمريكيين الأصليين وهم يُنهبون وتوضع لهم بكتريا الكوليرا في أغطيتهم. ما أعرفه أن الاضطهاد والجهل لا يؤديان إلى هذا التعفن وحدهما أبدًا. منذ متى كانت أحوال المصريين أفضل؟ ومنذ متى ينز منهم هذا الصديد؟ هذا أمر حديث لا بد من خضوعه للبحث. ليس بحثًا اجتماعيًّا فحسب، بل بحثًا روحانيًّا. هناك سرطان أرواح يستشري في الناس، مستنقع يأبى الاكتفاء بمن انزلقوا فيه ويبحث عن المزيد.

كان بوتشيلي، وكل بوتشيلي آخر مثله، يملكون البصيرة رغم المعاناة. يسحبون الضوء من أعينهم ليبثوه في أرواحنا. موسيقيون، رسامون، مهندسون، سعاة بريد، مدرسون.. كل ما في الحياة يمكن أن يكون فنًّا فقط لو صدقنا ما نفعله.

فقد بوتشيلي نظره لكن المحبة هي ما جعله يولد في هذه الحياة قبل أن يُرى، ضربة في الرأس أفقدته بصره، لكنها ردت فيه بصيرته. فهل نحتاج إلى ضربة مماثلة ترد فينا الروح من جديد؟ هل نبرر السرطان ونتقبله أم نستأصله؟

ما يؤرقني حقًّا هو تقبل الكثير الانحدار، بل الانغماس فيه. معاقبة للذات هي أم انتحار جماعي؟ لم يكن الأمر أبدًا مجرد ذوق موسيقي أو فني، هو مجرد مؤشر يتغاضى الجميع عما يطلقه من إنذارات.

الخير والحق والجمال ثالوث مقدس نفقد ترابطه يوميًّا. لا بد من وقفه لاستعادة البصيرة، فلو عاد الجمال عاد الحق والخير. حين يعود الجمال سنبصره ونسمعه.. ونبكي.

فإلى هذا اليوم أرسل اشتياقي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.