منذ اللحظات الأولى لانقلاب قائد فاجنر على رئيسه الأعلى فلاديمير بوتين، والعيون تترقب المصير المحتوم للرجل. الجميع كان يعلم أن نصف الانقلاب الذي قام به يفجيني بريجوجين لم ينتهِ بمجرد اعتذاره، وأن عقوبة بوتين المفضلة سوف تلحق به. لكن يبدو أن الجميع كان يعلم تلك الحقيقة إلا بريجوجين نفسه. ربما أعطته اللحظات الأخيرة وهو يترقب وصول الصاروخ لطائرئته لمحةً خاطفة عن ذلك المصير.

لكن سريعًا ما يتجاوز الزمان أمثال بريجوجين، فالمصلحة الأهم أن يستمر العمل الذي كانوا يسيِّرونه. فرغم أن الأحاديث تواترت عن أن بوتين قد شعر بالتهديد من قوة فاجنر، وأنه من المحتمل أن يتخذ قرار حلها. لكن كانت تلك الخطوة بعيدة عن المنطق، فمن المهم لروسيا الحفاظ على ما حققته فاجنر في أفريقيا تحديدًا من امتيازات مهولة لاستخراج واستغلال النفط والمعادن الأفريقية.

وفي حالة استبعاد سيناريو التفكيك، يتبقى اختياران أمام بوتين. الأول هو تأميم الجماعة، وضمها لحظيرة الجيش الروسي الرسمية. وهذا اختيار صعب رغم أنه يحافظ على فاجنر ومكاسبها، إلا أنه ينسبها لنفسه رسميًّا، بالتالي سيتحمل بوتين كل جرائمها. لذا لم يتبقَّ إلا الاختيار الثاني، وهو أبسط الحلول تعيين قائد جديد للمجموعة. قائد تدين المجموعة بطاعته، ويدين هو لبوتين ويعرف كيف ينفذ الأوامر.

 لذا نجد بوتين منذ الأيام الأولى للانقلاب يُلمح إلى احتمالية تولي رجل آخر محل بريجوجين. الأمر الذي بات حتميًّا بعد مقتل الأخير. هناك اسم يردده بوتين، وتؤهله معطيات عديدة لتولي ذلك المنصب، أندريه تروشيف.

ذو الشعر الرمادي

بوتين لم يُعلن الاسم صراحة، لكنه قال لمقاتلي فاجنر بعد فشل تمردهم أن بإمكانهم الاستمرار في خدمة روسيا دون أن يصيبهم أي ضرر جراء انقلابهم، لكن بشرط أن تكون تلك الخدمة تحت إمرة سيدوي. سيدوي تعني بالروسية الرجل ذي الشعر الرمادي. هذا الرجل كما وصفه بوتين أمام المقاتلين كان طوال الوقت قائدهم الحقيقي، والمُحرك الفعلي لمجموعة فاجنر. طبقًا لما ظهر من اللقاء فقد أظهر غالبية المقاتلين الرضا بكلام بوتين، والموافقة على أن يقودهم سيدوي.

تلك الكلمة، سيدوي، ظهرت في وثائق بريطانية في أعوام سابقة حين دار الحديث عن العقوبات الغربية على سوريا. تلك الوثائق وصفت الرجل أنه القائد الفعلي لفاجنر في جميع عملياتها، والمدير التنفيذي لها. وصفته وثيقة أخرى بأنه كان مدير الموظفين في العمليات. وأنه أحد المؤسسين الرئيسيين لجماعة فاجنر.

 الاتحاد الأوروبي قال في بياناته إن ذي الشعر الرمادي متورط بالكامل في العمليات العسكرية في سوريا. وأضافت وثائق أخرى أنه كان ضالعًا بشكل خاص في الجرائم التي حدثت في دير الزور. وأنه يقدم جهودًا حيوية وحاسمة للرئيس السوري بشار الأسد، في مقابل منافع يحصل عليها الرجل. لم تذكر الوثائق تلك المنافع تحديدًا، لكن بالتأكيد فإنه يستفيد من المنافع المهولة التي حصلت عليها فاجنر وروسيا من سوريا.

بالتقصي يتضح أن سيدوي هى الاسم الحركي لأندريه تروشيف. من مواليد سان بطرسبرغ، حين كانت تُعرف بليينجراد. مكان ولادته أمر ثابت، لكن تاريخ ولادته أمر غير ثابت. فالمصادر الروسية تقول إنه وُلد في 5 أبريل/ نيسان عام 1962، أما المصادر الغربية فتؤكد اليوم لكن تغيِّر العام، فتقول إنه وُلد عام 1953.

لم يُعلق أي من الجانبين، الروسي أو الغربي، حول سبب هذا التضارب في التواريخ. ولا يبدو أحد مهتمًّا بتاريخ ميلاده، قدر اهتمامهم بتاريخه في العمل كمرتزق حتى وصل إلى منصبه الحالي.

بطل روسيا

 بدأ تروشيف حياته مقاتلًا في أفغانستان خلال حرب السوفيت هناك. في تلك الحرب حصل الرجل على وسام النجمة الحمراء مرتين، وهو من أرفع الأوسمة السوفيتية التي تُمنح للمقاتلين. ثم حين انهار الاتحاد السوفيتي، لم تنهر رغبة الرجل في القتال. فانضوى تحت لواء الجيش الروسي في حروبه ضد الشيشان. وحين انتهت تلك الحروب التحق بالعمل في قوات الاستجابة السريعة التابعة لوزارة الداخلية الروسية. ثم ترقى لاحقًا ليصبح قائد إحدى الوحدات فيها.

لم تعنِ تلك الوظائف نهاية دور الرجل القتالي، فقد حصل عام 2016 على ميدالية بطل روسيا، واحد من أرفع الأوسمة الروسية، لبسالته منقطعة النظير، على حد وصف بيان الميدالية، في اقتحام مدينة تدمر السورية. ثم برز اسمه بعد ذلك في الوثائق التي حصل عليها أقارب مقاتلي فاجنر الذين قتلوا في الحرب الأوكرانية. إذ ينص تعاقدهم مع روسيا على أن يُصرف معاش ومصاريف جنازة وإعانة لأقاربهم. ويحصل أقارب القتلى على تلك الأموال برفقة عدة وثائق تفيد بوفاة القريب في غمار الحرب، تلك الوثائق تحمل توقيع أندريه تروشيف.

وتسميته الأوروبية بمدير الموظفين لا تعني ابتعاده عن أرض المعارك. فقد كان له دور بارز في الاستيلاء على مدينة باخموت الأوكرانية. وهى واحدة من أطول وأصعب معارك الحرب الروسية الأوكرانية. كذلك يتواجد اسمه باستمرار في البيانات الشعبية التي توجهها فاجنر لعموم الشعب الروسي لتدفعه للقتال.

والأبرز من ذلك دوره في إفشال الانقلاب الذي قام به سلفه بريجوجين. فقد تسرَّبت أقوال للأخير تزعم أنه تعرض للخيانة من قبل الرجل الثاني في قيادة مجموعته، تروشيف. تروشيف رفض دعم التمرد الذي قام به بريجوجين، ونقل معلومات سريعة وحاسمة إلى جهاز الأمن الروسي ووزارة الدفاع عن خطة ومسار تحرك قوات فاجنر المتمردة.

لا يحتاج تروشيف بعد تلك الخطوة إلى إثبات ولائه لبوتين أكثر. وقد كان ولاؤه مثبتًا بالفعل، ووجوده الدائم بجوار بوتين يعكس ثقة بوتين فيه. وسوف تشهد الأيام المقبلة بالتطور النوعي المحتمل في شراسة مقاتلي فاجنر في تنفيذ ما يُطلب منهم. وسوف تزداد حماستهم لنيل الرضا من موسكو تجنبًا أن يكون مصيرهم مثل مصير قائدهم السابق.