يعد أنيس باسويدان من أبرز القادة السياسيين الإندونيسيين، فقد اختارته مجلة فورسايت اليابانية في أبريل/ نيسان 2019 ليكون من ضمن أكثر عشرين شخصية عالمية مؤثرة خلال العشرين عامًا التالية، وقبلها اختارته جريدة فورين بوليسي الأمريكية في عام 2008 من بين أكثر مائة شخصية مؤثرة في تشكيل وعي الشعوب حول العالم.

ولد أنيس بن رشيد بن عبد الرحمن باسويدان في 7 مايو/أيار 1969 في بلدة كونينغان غرب جزيرة جاوة، لأسرة تنحدر من أصول عربية؛ وتعود جذورها إلى محافظة حضرموت شرق اليمن، وتحديدًا من مدينة شبام، حيث هاجرت موجات من الحضارمة قديمًا واستقروا في الجزر الإندونيسية، ونالوا الحظوة لدى سكانها بصفتهم الرواد الذين نشروا الإسلام والثقافة العربية بين السكان.

ويُعد جده عبد الرحمن (1908 – 1986) من أبرز المناضلين الإندونيسيين ومن زعماء الاستقلال، ويعد أيضًا أول رئيس لحزب عربي في البلاد، وصار نائبًا في البرلمان بعد الاستقلال وعضوًا في أول وفد دبلوماسي سعى لكسب الاعتراف بالجمهورية، ووزيرًا للإعلام، أما والده رشيد فقد كان نائبًا لرئيس الجامعة الإسلامية بيوجياكارتا، وكذلك كانت والدته عالية النهدي، أستاذة بإحدى الجامعات الحكومية.

درس أنيس البكالوريوس في إدارة الأعمال في جامعة غادجا مادا بمدينة يوجياكارتا، وكانت له مشاركة نشطة في الأنشطة الطلابية إبان رئاسة سوهارتو (1921 – 2008)، وبعد تخرجه في الجامعة عام 1997 حصل على منحة فولبرايت الدراسية، فنال درجة الماجستير في الإدارة العامة من جامعة ميريلاند بالولايات المتحدة، ثم الدكتوراه في العلوم السياسية والسياسات الاقتصادية والعامة من جامعة نورثرن إيلينوي الأمريكية.

عاد باسويدان إلى بلاده وتولى رئاسة جامعة بارامادينا في العاصمة جاكارتا، وصار من أبرز أساتذة العلوم السياسية في إندونيسيا، واستمر في رئاسة الجامعة بين عامي 2007 و2015، واختير عام 2009 ليدير أول مناظرة انتخابية رئاسية في تاريخ البلاد، واختير عضوًا في «مجموعة الثمانية» التي شكَّلها رئيس الجمهورية السابق، سوسيلو بامبانغ يودويونو، للتحقيق في لجنة مكافحة الفساد أواخر عام 2011، وعينه أيضًا كعضو في فريق اختيار لجنة الانتخابات الوطنية.

مع تولي الرئيس الحالي، جوكو ويدودو، فترته الرئاسية الأولى عام 2014 اختار باسويدان وزيرًا للتعليم والثقافة، بعد الشهرة الكبيرة التي حققها برنامج تعليمي أشرف عليه، وخلال توليه المنصب عُرف عنه حرصه على تحديث التعليم، واستمر في الوزارة حتى يوليو/ تموز 2016 عندما تم استبدال وزير آخر به.

حاكم جاكرتا

عندما ترك باسويدان وزارة التعليم قرر الترشح لمنصب محافظ العاصمة، وحينها كان باسوكي تجاهاجا بورناما الشهير بـ «أهوك» يتولى هذا المنصب، وهو بروتستانتي من أصل صيني، وأول حاكم غير مسلم لجاكرتا، وأول حاكم صيني لها أيضًا، ولم يصل إلى منصبه هذا بالانتخاب، بل تولاه بعد انتخاب المحافظ السابق، جوكو ويدودو، رئيسًا للجمهورية، عام 2014، وكان أهوك نائبه فحل محله.

أراد أهوك – المقرب من الرئيس ويدودو – أن يترشح لولاية جديدة عند انتهاء فترة عمله كمحافظ عام 2017، فحظي باسويدان بدعم الجنرال المحافظ المتقاعد، برابوو سوبيانتو، الذي خسر أمام ويدودو في انتخابات الرئاسة، كما حظي بدعم الإسلاميين، إذ أثارت نية أهوك الترشح غضبًا عارمًا لديهم؛ فخلال عهده تم تهجير الكثير من المسلمين من سكان المناطق الشعبية، وتبنى مشروعًا لإسكان الأثرياء ومعظمهم من الأقلية الصينية التي ينتمي إليها، ووُجهت له اتهامات بالسعي لتفريغ العاصمة من سكانها لتعزيز الوجود الصيني بها.

وشن التيار الديني حملة إعلامية ضد أهوك باعتباره يمثل مشروعًا مسيحيًّا للاستيلاء على حكم إندونيسيا من خلال استمالة مسلمي الأبانجان (مصطلح سياسي يُطلق على المسلمين الإندونيسيين غير المتدينين)، وفي المقابل تلقى أهوك دعمًا من البروتستانت، وفيهم تيار المسيحية الصهيونية الذي يتمتع بنفوذ هائل يفوق حجمه العددي بكثير (تعد البروتستانتية إحدى الديانات الست المعتمدة في البلاد)، كما نال دعمًا كبيرًا من معظم الأطياف بسبب الصورة التي نجح في رسمها عن نفسه كشخصية صارمة وجادة في عمله، وحربه العلنية على الفساد.

وفي أيلول/سبتمبر، ارتكب أهوك غلطة سياسية كبيرة مانحًا باسويدان فرصة لا تُعوَّض لإزاحته عن طريقه؛ فوسط مناخ التوتر الديني والطائفي انتقد أهوك تفسير الآية 51 من سورة المائدة التي تبدأ بجملة: «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء»؛ مستنكرًا أن تمنع الآية تولية غير المسلمين الحكم في بلد إسلامي، مما أشعل موجة هائلة من الاحتجاجات الشعبية ضده قادها الشيخ حبيب رزق شهاب، زعيم جبهة المدافعين عن الإسلام، فاعتذر أهوك عن تصريحاته مبينًا أنه كان يقصد انتقاد من يستخدمون الدين لأغراض سياسية، وليس الدين نفسه.

تم اعتبار الانتخابات البلدية مؤشرًا على الانتخابات الرئاسية في 2019، فقد كان ويدودو حاكمًا لجاكرتا قبل أن يفوز بالرئاسة، وكذلك أعلن أهوك عن تطلعه لخلافته، فتلقى باسويدان دعمًا قويًّا من التيار الإسلامي، وتحول إلى رمز ديني في عيون الكثيرين، وساعد زعيم جبهة المدافعين عن الإسلام على تنظيم مظاهرة حاشدة ضمت أكثر من مليون شخص في ديسمبر/كانون الأول 2016، وتم تشبيه انتخابات جاكرتا من قِبل البعض بـ «غزوة بدر الكبرى»، أول وأهم الغزوات النبوية، وبلغت أجواء الشحن الطائفي مداها.

وجهت الشرطة لأهوك تهمة ازدراء الدين الإسلامي، وخلال التحقيق معه تم الاستماع لشهادات الخبراء اللغويين والمتخصصين في العلوم الإسلامية لبيان مدى مصداقية التهمة له، فقرر أهوك الاستعانة بعمرو الورداني، مدير إدارة التدريب بدار الإفتاء المصرية آنذاك، والذي يشغل حاليًّا منصب أمين عام الفتوى بالدار، كشاهد خبير، فسافر الأخير إلى جاكرتا ليدلي برأيه في القضية، وهو معروف بتعاطفه مع أهوك ودفاعه عنه، وتنصل فريق أهوك من مسئولية استقدام الورداني، لكن بحسب رئيس الشرطة الإندونيسية، الجنرال تيتو كارنافيان، فإن الشاهد الخبير من مصر أحضره أهوك.

وفي رد فعل غير مسبوق وغير متوقع يكشف عن الأهمية البالغة التي نالتها هذه القضية، أرسل مجلس العلماء الإندونيسي، خطابًا رسميًّا باللغة العربية إلى شيخ الأزهر، الإمام الأكبر، أحمد الطيب، اتهمهوا فيه الورداني بإثارة الفتنة في بلادهم، واستنكروا زيارته جاكرتا دون دعوة رسمية لإبداء رأيه الشرعي في قضية «ازدراء الإسلام»، واعتبروا أن الزيارة تمثل عدم الاعتراف بصلاحية مجلس العلماء الإندونيسي كصاحب سلطة شرعية لإصدار الفتاوى والتوجيهات الدينية للأمة الإسلامية الإندونيسية، محذرين من استغلالها لتشويه العلاقات بين البلدين والشعبين المصري والإندونيسي، ونشرت الصحافة الإندونيسية أنه تم التواصل مع مشيخة الأزهر، وأن الإمام الأكبر لم يكن يعلم شيئًا عن زيارة الورداني، وطلب استدعاءه في أسرع وقت ممكن، وعدم التدخل في الشئون الداخلية لإندونيسيا.

ورغم ذلك حل أهوك في المركز الأول في الانتخابات التي جرت في 15 شباط/فبراير 2017، بحصوله على 43 في المائة من الأصوات، وجاء باسويدان في المركز الثاني بنسبة 40 في المائة، وحصل مرشح ثالث على النسبة الباقية، وبما أن المرشحين الأولين لم يحز أحدهما الأغلبية المطلقة تقرر تنظيم جولة إعادة بينهما.

وخلال الحملة الانتخابية بين الدورتين، واجه باسويدان انتقادات لأنه التقى قادة إسلاميين متهمين بالتشدد لتعزيز فرص فوزه، ونجح في كسب الجولة الثانية بنسبة 58 في المائة مقابل 42 في المائة لأهوك، وانتشر الخبر بعنوان «هزيمة حاكم جاكرتا المسيحي أمام خصمه المسلم»، واعترف أهوك بهزيمته وهنأ خصمه، وتم سجنه بتهمة ازدراء الإسلام.

وخلال ولايته لقي باسويدان دعمًا كبيرًا من التيار المحافظ، وكان يحرص على المشاركة في الاحتفالات الدينية، واللقاء بالشخصيات الدينية.

في الطريق إلى الرئاسة

بعد انتهاء ولايته كمحافظ في أكتوبر/تشرين الأول 2022 بدأ باسويدان يتطلع للرئاسة، لكن ما كان نقطة قوة له في السابق صار ورقة تستخدم لتنفير بعض الشرائح منه، فصُوره مع القادة الإسلاميين كالحبيب رزق شهاب الذي حضر باسويدان حفل زفاف ابنته في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، استُخدمت من جانب منتقديه لاتهامه بالتزمت والتشكيك في كونه مسلمًا معتدلًا، وحاول الرجل تصحيح هذه الصورة مرارًا عبر التأكيد على أن علاقته جيدة بالجميع، وأن البعض يتعامل مع مواقفه بشكل انتقائي.

وتواصل مع الأقليات الدينية في مناسبات مغطاة إعلاميًّا بشكل جيد، وفي عهد إدارته للعاصمة تم افتتاح العديد من الكنائس، حتى منحته مؤسسة تابعة لمركز الخدمة المسيحية لقب «أبو المساواة الإندونيسية» وذلك خلال حضوره افتتاح إحدى الكنائس الخمسينية البروتستانتية التي تنتمي لتيار المسيحية الصهيونية في شمال العاصمة، في أواخر فترة ولايته.

ومن المقرر أن يشهد العام المقبل إجراء الانتخابات الرئاسية السادسة منذ نجاح الثورة الإندونيسية عام 1998، والتي لا يمكن للرئيس الحالي المنافسة فيها؛ لأنه لا يحق له أكثر من ولايتين، ودعا باسويدان علنًا إلى ضرورة التزام الرئيس ويدودو الحياد التام في الانتخابات المقبلة، وكذلك كل المسئولين.

 وبدأ فريق الحملة الانتخابية لباسويدان عملهم مبكرًا، ونشطوا بالفعل في حشد التأييد لمرشحهم في جميع أنحاء البلاد، وسوَّق باسويدان لنفسه بسجل إنجازاته في العاصمة؛ وتفاخر بحل أزمة السكن، وتوفير الدعم للفئات الضعيفة كالأطفال والمسنين وذوي الإعاقة، والدعم المالي الكبير للتعليم ورعاية الطلاب المتفوقين.

ويقود باسويدان تحالفًا من ثلاثة أحزاب، ومن المرجح أن يكون نائبه أغوس هاريمورتي يودويونو (نجل الرئيس السابق سوسيلو بامبانغ يودويونو)، وتم اختياره بعد أن وافق على متطلبات المنصب غير المعلن عنها، بعد استبعاد خمسة آخرين كانوا ضمن قائمة المرشحين للمنصب، وأثار هذا الاختيار جدلًا وخلافات كبيرة داخل التحالف.

ويضم التحالف حزب العدالة والازدهار الإسلامي وحزب ناسديم (الحزب الوطني الديمقراطي) المشارك حاليًّا بوزيرين في حكومة ويدودو، وقرر الأخير – المعروف بدبلوماسيته – استبقاءهم في حكومته.

ويعد حاكم جاوه الوسطى، غانجار بورنوو، منافسًا محتملًا قويًّا لباسويدان، وهو مقرب من الرئيس ويدودو ومدعوم منه، ومدعوم كذلك من طبقة كبار رجال الأعمال، وهو متحفظ بشكل مبالغ فيه في تصريحاته وآرائه يكاد لا يفصح عنها ولا يعلق على أي حدث يثير الانقسام والخلافات، فحتى الآن لم يصدر منه سوى موقف واحد أطلقه من خلال بودكاست، عندما حذر ممن سماهم بالجهاديين «الذين يستغلون وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أيديولوجيتهم ومفاهيمهم الخطيرة»، ويبدو في مسلكه المتحفظ هذا خائفًا وحذرًا من تكرار مأساة أهوك الذي أطاح تصريح واحد منه بمستقبله السياسي وألقاه خلف القضبان.

كما يعد الجنرال، برابوو سوبيانتو، زعيم حزب حركة إندونيسيا العظيمة، منافسًا محتملًا أيضًا لباسويدان، فقد كان صهر الديكتاتور سوهارتو الذي أطاحت به الثورة، ورسب مرتين في انتخابات الرئاسة في 2014 و 2019 ضد ويدودو الذي اختاره وزيرًا للدفاع، وهو الآن يتجهز لانتخابات العام المقبل مدعومًا من حزب اليقظة الوطنية الذي يمثل تيار جمعية نهضة العلماء وعدد من الجمعيات الإسلامية التقليدية.

ومن المتوقع أن يتكرر ما حدث في الانتخابات السابقة؛ حيث أيد معظم أبناء الطوائف غير المسلمة المرشح الرئاسي الأقل ارتباطًا بالإسلام السياسي، فصوتوا لصالح ويدودو ورجحوا كفته، ورغم أن نسبة المسلمين تبلغ قرابة التسعين في المائة، لكن لا يمكن الاستهانة بالتأثير الكبير للأقليات، كما أن قطاعًا كبيرًا من المواطنين المسلمين ينفر من أي مرشح يوصم بالتشدد الديني، بدليل الشعبية الكبيرة التي ما زال يتمتع بها الرئيس الحالي المقرب من التيار العلماني.

وقد رد باسويدان على الادعاء بأنه عندما يصبح رئيسًا سيحول إندونيسيا إلى دولة إسلامية، قائلًا إنه حكم جاكرتا خمس سنوات وتركها من بعده موطنًا للجميع رغم المخاوف التي صاحبت الانتخابات البلدية عام 2017، وإنه حينها لم يرد على هذه والادعاءات بالكلمات بل بالأفعال.