أخذ يقطع الغرفة ذهابًا وإيابًا في توترٍ وضيقٍ ظاهريْن، ثم ألقى ببصره إلى ساعة الحائط التي تشيرُ عقاربُها إلى الخامسة مساءً، فتفاقمتْ علامات الضيق على وجهه. لا يزال هناك كثير من الوقت في هذا اليوم البئيس، هكذا حدَّثته نفسه في ذلك الوقت.

لم يكن يتوقَّع أن يمضي أيام العطلة التي انتظرها كثيرًا بهذا الشكل التعيس، رغم أنها ليست المرة الأولى التي يحدث له فيها هذا، فمنذ سنواتٍ لم يعدْ يشعرُ بتلك المتعة الحقيقية التي درجَ عليها في أيام العطلة والإجازات لا سيَّما في سنوات الدراسة الماضية. أمّا الآن، فرغم العمل المُضني طوال أيام الأسبوع، والذي يجعله في كل لحظة يتمنى إحدى الحُسنييْن، الاستقالة أو إجازة طويلة، فإنَّه لم يعُد يجد في نفسه رغبةً حقيقيةً في فعل أي شيء في أوقات الراحة سوى النوم، والمزيد من النوم ما أمكن. أما قائمة هواياته الطويلة مثل القراءة وألعاب الفيديو وكرة القدم والسباحة وتنس الطاولة والتنزه في الأماكن المفتوحة والرحلات… إلخ، فكأنها أمستْ حديثًا من خرافة أو خيال.

بالنسبة إليه، أصبح الاستيقاظ صباحًا بداية ألم جديد، فكل يومٍ جديد يعني صراعًا نفسيًا متجددًا من نفسِه التي جفَّت كل منابع الشغف لديْها، وأضحت بالكاد تستجيب له في فعل ما لا مفر من فعله كالحد الأدنى- أو أقل منه- من واجبات العمل والشعائر الدينية والمهام الأسرية. أمسى يرتعب حتى النخاع من تخيُّل أن تظلَّ حياته على هذا المنوال لسنواتٍ مقبلة، حتى إنه بدأ يدرس بجدية نصائح بعض خُلصائه بأن يطلب استشارة نفسية عاجلة قبل أن تتفاقم الأمور.

حياةُ منزوعة الطعم واللون والرائحة

ما صدَّرْنا به المقال هو نموذج حياتي عمّا تفعله الأنهيدونيا anhedonia في حياة كثيرين. يفقد الإنسان الرغبة في ممارسة الأفعال التي كان قبل ذلك يرغب فيها، وذلك لأنه قد فقد القدرة على الاستمتاع بها، ولم تعد تمنحه ما اعتاد عليه من الشعور بالمكافأة عندما يقوم بها.

ويجب هنا أن نؤكد أن الأمر هنا أخطر كثيرًا من مجرد فقدان الشغف الطبيعي في بعض الأنشطة مع تغير الظروف والأزمنة والأمكنة وتطور الشخصية، مثل أن يفقد الكبار القدرة على الاستمتاع بألعاب الطفولة… إلخ، أو مجرد ضغوط نفسية أو حياتية عابرة تُفقِدُ المرء الاستمتاع مؤقتًا ببعض ما يحب. فالأنهيدونيا تمتد لأشهر ولسنواتٍ، وتُحيلُ الحياة إلى صور باهتة تكاد ملامحها لا تبين، وتجعل أبسط المهام اليومية واجبات عسيرة تحتاج إلى جهدٍ نفسي وبدني مضاعف لآدائها، وتشعل صراعًا يوميًا عنيفًا مع الذات، كما قد تفسد جوانب حيوية في الحياة مثل العلاقة الزوجية والصداقات القديمة.

هناك أعراض مختلفة من الأنهيدونيا، منها ما يتمثَّل في فقدان الاجتماعية، حيث يفقد الإنسان الرغبة في التفاعل مع الآخرين، كالزهد في مقابلة الأصدقاء واصطحابهم في بعض الأنشطة الممتعة كالسفر أو الرياض… إلخ. ومنها ما يتمظهر في فقدان بعض الأحاسيس الجسمانية الممتعة كليًا أو جزئيًا مثل المتعة الجنسية أو لذَّة الأطعمة الشهية. وكثيرًا ما يجتمع كل هذا في نفس الشخص بدرجاتٍ متفاوتة. وغالبًا ما تؤدي الأنهيدونيا إلى نتيجتيْن رئيسيتين، أن يفقد الإنسان الدافعية إلى القيام بالأنشطة، لأنها لم تعد تحقق له ما كان ينتظر من أثرٍ إيجابي، أو أن يرغم نفسه على القيام بها.

أنا شاب لكن من جوه عجوز… عندي جناحات، بس محبوس.
مقطع من أغنية (أنا نجم) لفرقة كايروكي المصرية 2022.

والأنهيدونيا، لا سيَّما الدرجات الشديدة منها هي عرضٌ رئيسي من أعراض مرض الاكتئاب، وغالبًا ما تصاحبها أعراضه الأخرى مثل اضطرابات النوم والشهية، والشعور بفقدان الطاقة والفاعلية، والإحساس بالدونية… إلخ، كما قد تظهر في اختلالات نفسية أخرى مثل السكيزوفرينيا أو الاضطراب ثنائي القطبية، أو اضطراب ما بعد الصدمة، أو إدمان تعاطي المخدرات، كذلك قد يعاني منها المصابون بأمراضٍ جسمانية مزمنة خطيرة كالأورام الخبيثة أو الآلام المزمنة. لكن في بعض الحالات يكون الإنسان مصابًا بالأنهيدونيا حصريًا، ولذا أصبح كثيرُ من المختصَّين يتعاملون معها كأنَّها مرض نفسي مستقل وليس مجرد عَرَض.

تسبب الأنهيدونيا تغيرات وظيفية وبنيويَّة في مخ الإنسان، لا سيَّما في مناطق الجهاز الحوفي limbic system الذي يضم المراكز المخية التي يُعتقد أنها مسئولة عن المشاعر والمتعة والرغبات. أظهرت بعض الدراسات انخفاض نسبة ونشاط الدوبامين (وهو من أهم النواقل العصبية الكيميائية في المخ) في منطقةٍ تُعرف باسم النواة المتكئة nucleus accumbens والتي تُعتبر مركز المتعة في المخ. كما لوحظ أيضًا وجود اختلالات كيميائية وبنيوية في منطقة اللوزة amygdala التي تلعب دورًا كبيرًا في معالجة المشاعر والأحاسيس واتخاذ القرارات. وبالطبع هناك عديد من السمات الشخصية (الانطوائية، والميل للعزلة) والعوامل البيئية (مثل التعرض للصدمات الحياتية والظروف الضاغطة) والتي تسهل الإصابة بالأنهيدونيا وتفاقمها.

هل يمكن التغلب على الأنهيدونيا؟

الإجابة على هذا السؤال هي نعم ولا. فالتغلب على الأنهيدونيا وإن لم يكن مستحيلًا، فليس بالمهمة السهلة، ويكمن التحدي في أنه لا يوجد علاج قاطع للأنهيدونيا يمكن استخدامه لمعظم المرضى، مما يجعل خطة التعافي من الأنهيدونيا أكثر تعقيدًا، وأشد احتياجًا للوقت وللجهد، فهي تتطلب استعدادًا من المريض للشروع في تغييرات تدريجية لكنها جوهرية في نمط حياته فيما يتعلق بالنشاط والطعام وأوقات النوم والعلاقة بين مساحات العمل ومساحات الاسترخاء، مع تضافر العديد من الوسائل العلاجية مثل العلاج النفسي المعرفي السلوكي بمختلف تطبيقاته، والعلاج الدوائي بالأدوية النفسية كمضادات الاكتئاب. وقد تستدعي بعض الحالات المستعصية اللجوء إلى جلسات العلاج النفسي بالصدمات الكهربية.

اقرأ: أشهر 8 خرافات حول الأدوية النفسية.

الخطوة الأولى في العلاج بالطبع هي طلب المشورة الطبية النفسية، وذلك لتأكيد التشخيص، عبر النقاش الاحترافي مع المريض، واستخدام بعض الأدوات التشخيصية مثل اختبار سنيث-هاملتون لقياس السعادة الذي يتكون من 14 سؤالًا، فتأكيد المشكلة وتحديد نوعها وشدتها حتميٌّ لحلِّها، ولاقتلاع جذورها لمنع عودتها للتفاقم.

ويجب بالطبع تأكيد أو نفي الإصابة بمرض نفسي مؤثر كالاكتئاب أو السكيزوفرينيا، لأن علاج الأنهيدونيا سيكون جزءًا من علاج المرض الأصلي. وقد يطلب الطبيب النفسي أولًا استبعاد بعض الأمراض الجسمانية التي قد تسبب أعراضًا شبيهة بالاكتئاب والأنهيدونيا مثل خمول الغدة الدرقية hypothyroidism.

العمود الفقري في خطة التعافي من الأنهيدونيا هو جلسات العلاج النفسي المعرفي السلوكي CBT، التي تتضمن الحديث بشكلٍ مطول مع المريض، والاستماع إليه بشكلٍ جيد، مما يُتيح للمعالج النفسي أن يتعرف على الجذور النفسية والفكرية للمشكلة، واكتشاف الأفكار السلبية والاعتقادات الخاطئة والمشاعر غير الإيجابية، التي تفاقم الأنهيدونيا، وبالتالي تدريب المريض على التخلص منها أو على الأقل تحجيمها، ومساعدته في استبدالها بما هو أكثر إيجابية وفاعلية، وتشجيعه على القيام بالأنشطة التي تحفز إفراز الدوبامين في المخ مثل الرياضات المعتدلة كالجري أو كرة القدم، وكذلك السفر وتغيير الأماكن… إلخ، وعدم الاستسلام للميل إلى العزلة الشعورية والاجتماعية.

بالنسبة للعلاج الدوائي، فمن أبرز التحديات أن استجابة الاكتئاب المصحوب بالأنهيدونيا للعلاج الدوائي بمضادات الاكتئاب أقل بوضوح من الاكتئاب غير المصحوب بها، بل لوحظ في بعض المرضى أن مضادات الاكتئاب الذائعة مثل مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية SSRIs قد تفاقم الأنهيدونيا لأنها قد تقلل الانفعالات والمشاعر والإحساس بالمكافأة، كما قد تؤثر سلبًا على العلاقة الجنسية. ولذا يجب المتابعة الدقيقة مع الطبيب النفسي أثناء تعاطي مضادات الاكتئاب، حيث يمكن للطبيب التبادل بين هذه المضادات للوصول إلى العقَّار الأنسب للمريض أو استبدالها بمجموعات دوائية أخرى أقل في تأثيرها السلبي على الأنهيدونيا مثل مضادات الذهان غير النمطية.

وفي بعض الحالات المستعصية غير المستجيبة لشهورٍ طويلة من العلاج النفسي والدوائي، يمكن كما ذكرنا اللجوء إلى جلسات العلاج النفسي بالصدمات الكهربية، أو عقَّار الكيتامين الوريدي الذي يستخدم بالأساس في التخدير الطبي.

اقرأ: الصدمات الكهربية: علاج نفسي أم تعذيب كما في الدراما؟

وإذا لم يمكن القضاء بشكلٍ مبرم على الأنهيدونيا، فلا أقل من تخفيف شدتها وتقليل تكرار ومدة نوباتها، وكذلك تقليل آثارها السلبية على فاعلية الإنسان في محيط العمل والأسرة والمجتمع. ويحتاج المريض لإتمام المهمة إلى بيئة أسرية واجتماعية مساعِدة، وتنظيم جيد للوقت على مدار اليوم والأسبوع والشهر.