السؤال الذي ما زال يتردد –وسيظل كذلك– هو: هل كان دخول العثمانيين الشام ومصر فتحاً أم غزواً؟ وهل انتقال المشرق العربي –إثر ذلك– إلى المظلة العثمانية نكسة أم إنقاذ؟

لا أزعم أني أملك إجابة شافية على تلك التساؤلات، بل لا أريد ذلك أصلاً، إنما لديَّ رغبة ملحة في أن أتجاوز المنهجية الأكاديمية والحوار المغرق في الأيديولوجية، إلى طرح التساؤل من منظور إنساني… ما هي نتيجة ذلك (الحدث) على الشعوب وأحوالها؟

وقبل طرح نماذج للإجابة، أريد طرح سؤال ربما يبدو مستفزاً، لكن الإجابة عليه مقدمة منطقية للإجابة على ما بعده… هل انتصر العثمانيون فعلاً على المماليك في مرج دابق والريدانية؟ أم أن المماليك هم الذين هزموا أنفسهم بأنفسهم؟

وهنا ينتهي دوري في طرح التساؤلات، لأترك المجال لـ «ابن زنبل الرمَّال» ليجيب عنها وفق رؤيته هو.

ابن زنبل الرمَّال: شاهد على العصر

وابن زنبل هذا «تُوفي بعد 980هـ/1572م، عارف بالتاريخ من أهل مصر، كان يتعاطى النظر في الرمل والنجامة، فيقال له (الرمَّال)، ثم كان من موظفي نظارة الجيش»، هكذا ترجم له الزركلي في الأعلام (1)، وللرجل كتب في التاريخ والسحر والنجامة (التنجيم) واقتفاء علم الرمل والأثر وعلم الخط، كما ذكرت كتب التراجم.(2)

ربما لا يطمئن كثير من القراء لكتابات في التاريخ دَوَّنها رجل كانت هذه اهتماماته وأعماله ومؤلفاته، لا سيما وهو يؤرخ لفترة انتقالية بين دولتين وحضارتين لهما أثر عميق في تاريخ الشرق الأوسط والمنطقة العربية على الأخص، لكننا مضطرون للاعتماد عليه -مؤقتاً- إذ كان صاحب الكتاب المصري الثاني –مع ابن إياس– الذي وصف أحداث الصراع المملوكي/العثماني وانتقال مصر والشام ثم الحجاز إلى التبعية العثمانية. ولأنه كان مواطناً مملوكياً، وموظفاً حربياً، ثم مؤرخاً وشاهد عيان، فقد رأى في نفسه أيضاً القدرة على تشريح الجثة المملوكية لمعرفة بعض أسباب وفاتها.

فرغم القوة العسكرية الهائلة للجيش المملوكي الذاهب لملاقاة العثمانيين «… بالجيوش والعساكر، وهم يموجون كالبحر الزاخر والسحاب الماطر، فرسان كالعقبان الكواسر»، إلا أن (القضاء والقدر) كان دائماً هو المبرر الأكبر الذي تندرج تحته كل الأسباب الأخرى لهزيمة المماليك في رأي ابن زنبل «إذا نزل القضاء عمي البصر، فألقى الله تعالى فيهم الفتنة، فكان كل من الأعيان يتمنى هلاك السلطان حتى يكون هو السلطان، فبهذا الموجب هلكوا أجمعين».(3)

الدائرة الملعونة: أهل الثقة أو أهل الخبرة؟

آفة سرطانية من أخطر آفات تدمير الدول والحضارات، حيث تبرز الخلية السرطانية وتكبر على حساب خلايا الجسم القوية النافعة، ويفضل الحاكم أهل الثقة والقربى وأفراد عصابته والمهازيل على أهل الخبرة والكفاءة؛ فتبدو الدولة وأجهزتها قوية متماسكة المظهر، لكنها في الحقيقة مثل زبد البحر وغثاء السيل.

«وكان السلطان الغوري يعلم أن سيباي [نائب الشام] بطل من الأبطال لا يخطر الموت على باله، فإنه كان فارساً مانعاً وبطلاً شجاعاً، ذا عزم شديد وبأس مديد، فكان السلطان لا يحسب إلا حسابه».

وعلى الجانب الآخر… «والذي يعلم به مولانا السلطان أن خاير بك [نائب حلب] ملاحي علينا (أي معادٍ لنا) ومكاتيبه لا تنقطع من عند ابن عثمان في كل حين»، ورغم ذلك «لم يكن السلطان يحسب له حساباً لما يعلم من جبانته وعدم شجاعته»؛ ومن مأمنه يُؤتَى الحَذِر، فكانت النتيجة: «فأخذه من لا يكترثه».(4)

أما أهل الثقة والقرابة فكانوا نواباً في نواحي مصر، «المحلة مع أطاس… وكان مشهوراً بالظلم» (5)، و«كان في الشرقية أحمد بن بقر/بقار، وكان قليل الخير، سيرته سيئة» (6)، هؤلاء بعض من تركهم السلطان نواباً عند خروجه للحرب، أما في غزة فقد كان الوضع مختلفاً بعض الشيء، «فشكت الرعايا للسلطان من نائب غزة؛ فعزله السلطان ورسم عليه (أي حدَّد إقامته) وعنَّفَه على فعله وظلمه، وزَجَرَه غاية الزجر».

ثم ماذا؟ «وبعد ذلك رده إليها لكونه ابن عمه».(7)

ولم يكن الحال في حلب أفضل مما هي عليه الآن، فماذا كان حال معسكر السلطان الغوري في ليلة ما قبل معركة مرج دابق؟ يقول ابن زنبل «باتوا تلك الليلة على غير حرب، ولكن لم يهنأ لأحدهم نوم، من مكر بعضهم لبعض».(8)

وليت الأمر توقف عند ذلك من التربص والكراهية، فلربما توحِّدهم مواجهة عدو مشترك وخطر يتهدد وجودهم، لكن حالة الاستقطاب الشديدة بين أمراء المماليك، وحالة الكراهية المتنامية بين أحزاب وفرق الجلبان والقرانصة، وأسلوب الإدارة التآمري للغوري، وحاكم لا يرى إلا نفسه، والمغامرة أو المقامرة سعياً خلف طموح بعيد –إسلامبول- دون التأكد من التملك الحقيقي لما هو قريب، كل ذلك انعكست آثاره على الجيش المملوكي، ولم يشفع له تاريخه المجيد، «وأما ما كان من أمر الجراكسة، فإنه لما وقعت عليهم الكَرَّة نهب بعضهم بعضاً، وصار كل إنسان منهم يأخذ ما قدر عليه، وكل مَن كان له عدو وقَدرَ عليه قَتَلَه».(9)

وها هو ابن زنبل يستخدم أيضاً آيات القرآن الكريم، لكنه هذه المرة لا يتعلل بالقضاء والقدر، إنما يورد أسباباً حقيقية لانهزام المماليك.

«انظر إلى قوله تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (10)، وقوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (11)، ثم يعود أدراجه إلى القضاء والقدر (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ).(12)».

الشيزوفرينيا المملوكية بين الواقع والشرع

تتبادر إلى الذهن صورة شخصية متعددة الأدوار ومتناقضة السلوكيات ومتباينة المشاعر عندما تُذكر كلمة شيزوفرينيا أو انفصام الشخصية، ذلك ما صوَّرته لنا الأعمال الدرامية، لكن المسألة قد تكون مختلفة نوعاً ما عن الواقع لكنها في الحقيقة هي أشد خطراً وأثراً، وأخطر ما في تعريف ذلك المرض النفسي هو أنه «يتسم بسلوك اجتماعي غير طبيعي، وفشل في تمييز الواقع»، بالإضافة إلى قائمة طويلة من الأعراض والمسببات والنتائج والمصائب.

هذا الفصام إذا استعصى على العلاج غالباً ما تكون نتيجته الانتحار، فما بالنا إذا أصابت الشيزوفرينيا الملوك والحُكَّام والجهاز الإداري للدولة؟

هذا ما فعلته دولة المماليك حتى كانت نهايتها، ولنرَ صوراً من ذلك.

نقبل الهزيمة، ولا نقبل ترك السنة النبوية!

وجه آخر من وجوه الفصام المملوكي بين القول والفعل، أو بين العقيدة والسلوك، إنهم قوم يتمسكون بالسنة ولا يتركونها، أو هكذا يزعمون؛ ليجدوا لأنفسهم المبرر البطولي والسبب الرباني في الهزيمة، إن الذي هزمهم هو الله بقضائه، وليس سليم العثماني. «سافر السلطان سليم إلى ملاقاة شاه إسماعيل، ووقع الاتفاق بينهما بأن يبطل النار ويقاتل بالسيف والعود، فلم يثبت السلطان سليم غير ساعة وولى عسكره منهزماً، لأن الروم لا قدرة لهم على ملاقاة الفرس من غير نار، فعند ذلك أمر أغا اليكنجرية أن يرموا بالنار، فما كان إلا ساعة وانهزم شاه إسماعيل، فإن النار لا يطيقها أحد».(13)

ورغم الفاصل الزمني بين هزيمة الشاه بالبنادق العثمانية رغم قواته الكبيرة، إلا أن المماليك لم يستوعبوا الدرس، بل رفضوا تحديث أسلحتهم ليقاوموا عدوهم بنفس سلاحه الفاتك والحاسم، فتكررت الهزيمة النكراء. وها هو كرتباي الوالي يُحقِّر من شأن الجيش العثماني وسلاحه الناري، «فإن الملك لا يصلح إلا لمن يكون من الأبطال كما كان عليه السلف الصالح… أما أنت [موجهاً كلامه للسلطان سليم] فقد لفقت لك العساكر من نصارى ومن أروام وغيرهم… وجئت بهذه الحيلة التي تحيَّلت بها الإفرنج لما أن عجزوا عن ملاقاة العساكر الإسلامية، وهذه هي البندق التي لو رمت بها امرأة لمنعت بها».

فالبندقية والأسلحة النارية في نظر المماليك هي سلاح العاجز الجبان، وسلاح الإفرنج الكفار، وسلاح مخالف للسنة النبوية، وقد تركه المماليك ليس عن انعدام كفاءة، بل كان قولهم «نحن لو اخترنا الرمي بها ما سبقتنا إليه، ولكن نحن قوم لا نترك سنة نبينا».(14)

ربما يعتقد البعض أن المماليك ربما يتعللون بالسنة والدين درءاً للحرج من عدم تمكنهم من الحصول على هذا السلاح، لكن المدهش أنه «قد جاء بهذه البندقية رجل مغربي للسلطان الملك الأشرف قانصوه الغوري… وأخبره أن هذه البندقية ظهرت من بلاد البندق، وقد استعملها جميع عساكر الروم والعرب»، وبعد أن تمت تجربة استخدام البندقية بحضرة السلطان، كان من المتوقع أن تدهشه قوتها وشدة فتكها، لكن الغريب في الأمر أنه «ساءه ذلك وقال للمغربي: نحن لا نترك سنة نبينا ونتبع سنة النصارى، وقد قال مولانا سبحانه وتعالى: (إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ)، فرجع ذلك المغربي وهو يقول: من عاش ينظر إلى هذا الملك وهو يؤخَذ بهذه البندقية».(15)

ولم يكن غريباً أن تتحقق نبوءة الرجل المغربي لأنها مبنية على مقدمات منطقية وتجارب التاريخ، لكن موقف الغوري لم يكن نابعاً من الدين على الإطلاق ولا متسقاً مع الواقع أبداً، فلو كان الغوري يدرك آيات الجهاد في القرآن، لوجد متسعاً في قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ).(16)

ودعونا ننسى المدافع المملوكية –وهي سلاح ناري– التي لم يستخدمها المماليك لخطأ عسكري فادح.

الغوري والرهان الخاسر

كانت المعركة في مخيلة الغوري فرصة للتخلص من الأمراء الأقوياء (القرانصة) والذين هم منافسون محتملون على العرش، وكان لديه البديل في جيش من قواته الخاصة (الجلبان) والذين بلغ عددهم 13 ألفاً اشتراهم بماله وأشرف بنفسه على تدريبهم (17)، بل أخذه طموحه إلى أبعد من ذلك ليواصل المسيرة، «ولا يزال ذاهباً حتى يصل إسلامبول، ويأخذها من السلطان سليم».(18)

لكن الغوري لم يكن وحده صاحب الدهاء والمكر، بل كانت نيته مكشوفة للجميع، «فلما علم الغوري بما جرى لعسكره من التشتت، صار ينادي عليهم بأعلى صوته: يا أغوات الشجاعة صبر ساعة، فلم يلتفت إليه أحد منهم… وكان ذلك بغضاً منهم لسلطانهم، فإنه كان يريد أن يقطع القرانصة شيئاً فشيئاً، ثم يستقل هو بجلبانه، ويصفو له الوقت والسلطنة».(19)

لم يكن هذا رأي وتحليل ابن زنبل وحده، بل هو ينقل لنا حديث الأمير سودون العجمي وعتابه للغوري: «يا مولانا السلطان أين جلبانك؟ أين خاصيتك؟ هكذا عملت بنا، ولا زلت قائماً في حظ نفسك حتى أهلكت نفسك وأهلكتنا معك».(20)

ويعود ابن زنبل مؤكداً فكرة الكراهية التي تفشت في المؤسسة العسكرية المملوكية جراء مؤامرات القائد الأعلى، «لأنه أفحم قلوب عسكره، وأهلك غالب الأمراء من القرانصة، فكرهته العساكر كلها، وما خرجوا معه إلا وكل منهم يتمنى ألا يرجع إلى مصر، وكان هذا من سوء تدبيره».(21)

سلطان جديد مفلس… ومعركة جديدة بلا جيش

نترك الآن مشهد معركة مرج دابق بسلطانها القتيل ومماليكها المنكسرين، ونعود إلى القاهرة هازمة التتار وعرين الأُسود، لكن أسودها هذه المرة استبدوا بالغابة فلم يجدوا فيها ناصراً، فاستداروا يأكلون بعضهم البعض. «ولما بايعوا طومانباي على السلطنة أراد أن يقبض على سيدي محمد بن الغوري ويأخذ ما معه من المال»، فانقسم أمراء المماليك فريقين متعارضين… لكن السبب الذي أسكت الجميع هو «أن طومانباي رجل صوفي فقير من الدنيا، وليس معه ما يقوم بنظام السلطنة، وقصدنا نأخذ من ابن سلطانكم [السابق] قدر ستين ألفاً يدفعها لطومانباي؛ يستعين بها على لقاء العدو والقادمين علينا».(22)

كان هذا هو حال السلطان الجديد الذي كان عليه أن يصنع المعجزة بخزينة مفلسة، فأين ذهبت الأموال؟

لقد أخذها الغوري -الذي ينتظر نصر الله باتباعه السنة النبوية- ثم تركها غنيمة للعثمانيين، حيث «تمكن عسكر السلطان سليم من أوطاق الغوري، وأخذوا كل ما فيه، وكان شيئاً يفوق الوصف من الذهب والفضة والقناطير المقنطرة، ومن البرق والملبوس والتحف التي جمعتها الملوك السالفة».(23)

لقد أخذ الغوري ميزانية الدولة كلها، بل ما تبقى من ميزانيات الحكام السابقين، والاحتياطي النقدي للخزينة. ولكن دع العجب من هذه الكنوز حتى تعرف بقيتها، فإنها «بالنسبة لما أبقاه السلطان في قلعة حلب، وما أودعته الأمراء والأجناد عند أهل حلب –وهو شيء لا ينحصر– قليل جداً».

وبعد هزيمة المماليك «ذهب غالب العسكر قاصدين حلب، فمنعهم أهل حلب؛ لشدة ما قاسوا منهم حين مجيئهم مع الغوري».(24)

هكذا صاروا بلا قائد وبلا أموال وبلا ظهير شعبي ولا نصير.

ولم يكن الحال في القاهرة أفضل، فقد «هرب غالب العسكر ولم يتبعوا طومانباي»، وبناءً عليه جاء اقتراح خاير بك للسلطان سليم «تنادي لهم بالأمان، وبعد ثلاثة أيام كل من وُجد عنده جركسي مخبى شنق على باب داره، وكل من كان عنده واحد منهم وأخبر السلطان به وقبض عليه، فعليه الأمان هو ومن يلوذ به».(25)

وهنا يتكرر موقف مشابه لموقف أهل حلب، إذ يتخلى الشعب عن مناصرة المماليك، «فبقيت أولاد مصر كل من كان عنده جركسي يأتي إلى خاير بك ويخبره بما عنده، فيرسل له جماعة يقبضون عليه، ويأتي به إلى أوطاق السلطان سليم، فيضربون عنقه».(26)

انكسار العسكر قبل انكسار المقاومة

رغم إصرار ابن زنبل على إبراز عباءة الدين في إلباس تنظيراته لأسباب انكسار المماليك، وتكراره لعبارات (وإذا أراد الله بأمر بلغه)، (وكل ذلك ليجري القضاء والقدر)، (قدَّر الله عليهم ذلك).

لكن ثمة عبارات أخرى يكررها لينحى باللائمة على قادة العسكر وسلطانهم؛ فتراه يكرر مقولة (ولكل شيء آفة من جنسه)، (ولا تُعانِد تُغلَب ولو أنك السلطان). وهو أيضاً في حواراته التي ينقلها أو يجريها على ألسنة القادة، يصر –أو هم الذين يصرون– على أن «الله تعالى أراد زوال ملك آل جركس من هذه الديار»، كما قال السلطان طومانباي في حواره مع الأمير علان.(27)

وهو ما أكده أيضاً الأمير كرتباي في حواره مع السلطان سليم، إذ أقسم قائلاً: «والله ما أخذتم أرضنا بقوتكم ولا بفروسيتكم، وإنما ذلك أمر قضاه الله تعالى وقدَّره في الأزل، وقد جعل الله لكل شيء بداية ولكل شيء نهاية، ولكل دولة مدة معلومة وقسمة مقسومة، وقد جرت عادة الله سبحانه في خلقه بذلك… أين الملوك والسلاطين؟ وأنت أيضاً لا بد أن تموت، ويُخـتَرَم هذا النظام».(28)

وما أبلغها من موعظة لو أن صاحبها اعتبر بها وآمن، وما أنفعها لو أنه –هو ومعسكره– طبَّقها وسار على هديها، وما أعظمه من يقين لو أنه كان حقيقياً وليس سوى كلمات تناقضها أفعال وكبائر بالأمس القريب عندما كانوا في حلب ومعهم السلطان (29)، ومعهم أيضاً «خلفاء المشايخ… يزيدون على ألف رجل» (30)؛ فلا هؤلاء وعظوا، ولا أولئك ارتدعوا، ولا السلطان ألقى لذلك بالاً.

ثم يواصل ابن زنبل كلماته في فلسفة التاريخ وقراءته الدينية للحدث وتفسيراته، من قبيل (فإن العسكر ماتت قلوبهم، وألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب) (31)، (كُسِروا قهرا باختلافهم في بعضهم، وملاحاتهم على سلطانهم، فإنهم تسببوا في هلاك سلطانهم وهلاك أنفسهم).(32)

وهنا نطرح سؤالاً يتبادر إلى الذهن في سياق القضاء والقدر، والتفسير الديني للحدث، وقد سبقنا إلى طرحه السلطان سليم في حواره مع الأمير كرتباي: «حيث كانت فيكم الشجاعة والشجعان والفرسان، وأنتم على الكتاب والسنة كما زعمت؛ فبأي سبب غلبناكم؟!»”، فكان رد الأمير –كما أسلفنا– هو قضاء الله وقدره.

لكن ابن زنبل كان له رد آخر يرد به على الأمير كرتباي وكافة من تمسحوا بالدين من المماليك واتهاماتهم للعثمانيين، وذلك في سياق المقارنة بين المعسكرين: «لأنهم [العثمانيين] كانوا يقاتلون على قلب رجل واحد، ونيات متفقة، ليس لأحد منهم في قلبه غلٌّ ولا مكر ولا حسد لأحد، وهذا أحسن ما يكون لمن يريد النصر».(33)

وما تزال في الكتاب إجابات كثيرة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. خير الدين الزركلي: الأعلام، 1/180.
  2. انظر ترجمته أيضا في: هدية العارفين 1/168؛ معجم المطبوعات 1/112؛ إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون 1/135.
  3. ابن زنبل الرمال: آخرة المماليك أو واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني، تحقيق: عبد المنعم عامر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط2، 2006م، ص 82.
  4. المصدر نفسه، ص 83.
  5. المصدر نفسه، ص 80.
  6. المصدر نفسه، ص 81.
  7. المصدر نفسه، ص 81.
  8. المصدر نفسه، ص 98.
  9. المصدر نفسه، ص 106.
  10. الأنفال:47.
  11. الإسراء:16.
  12. الرعد:11.
  13. المصدر نفسه، ص 89.
  14. المصدر نفسه، ص 139.
  15. المصدر نفسه، ص 140.
  16. الأنفال:60.
  17. المصدر نفسه، ص 97.
  18. المصدر نفسه، ص 105.
  19. المصدر نفسه، ص 102.
  20. المصدر نفسه، ص 102.
  21. المصدر نفسه، ص 105.
  22. المصدر نفسه، ص 116.
  23. المصدر نفسه، ص 104-105.
  24. المصدر نفسه، ص 106.
  25. المصدر نفسه، ص 137.
  26. المصدر نفسه، ص 137.
  27. المصدر نفسه، ص 120.
  28. المصدر نفسه، ص 141.
  29. يقول ابن زنبل: “فرأى أوطاق الغوري خاليا من العسكر، ما فيه إلا نحو ألف أو ألفين، لأنهم كانوا كلهم دخلوا إلى مدينة حلب وأخرجوا الناس من بيوتهم، وسبوا حريمهم وأولادهم، وآذوهم الأذى البليغ، وكان ذلك سببا لقيام أهل حلب مع السلطان سليم على الجراكسة، لشدة ما حل بهم من الضرر منهم “. انظر، ص 91.
  30. المصدر نفسه، ص 116-117.
  31. المصدر نفسه، ص 108.
  32. المصدر نفسه، ص 115.
  33. المصدر نفسه، ص 100.