في حمأة انشغال العالم بقضية هامشية وانصرافية كتفسير سلوك وتصرفات الإدارة الأمريكية الجديدة، أو بردود الأفعال على ما يصدر من هذه الإدارة هنا وهناك، يشهد العالم أكثر الجرائم وحشية، بلغت مرحلة الإبادة والتطهير العرقى، تجري بصمت وتواطؤ في سوريا، وبشكل أفظع في جنوب السودان، وهي الأزمة المنسية.


خطب رنانة

برغم معرفة خطورة تلك الأوضاع وما ستؤدي إليه من عواقب، والحاجة للفعل والتحرك وبسرعة، يلوذ المجتمع الدولي بالصمت أو يكتفي قادته بالخطب الرنانة والبلاغية الفارغة؛ وفي رسالة بمناسبة اليوم الدولي للتفكر في الإبادة الجماعية في رواندا، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: «إن السبيل الوحيد لتكريم ذكرى الضحايا هو العمل على منع تكرار وقوع مثل تلك الأحداث».

بينما قال آدم دينغ، المستشار الخاص للأمم المتحدة المعني بمنع الإبادة الجماعية: «إن الإبادة الجماعية لا تحدث بين عشية وضحاها. الإبادة الجماعية هي عملية منهجية وتستغرق وقتا طويلا، وتتطلب موارد وتخطيطا. نحن جميعا نعلم أن الإبادة الجماعية دائما ما تسبقها انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان».

من المفارقات أنه في الوقت الذي أحيا فيه الروانديون ومعهم العالم الذكرى الـ20 في السابع من نيسان/ أبريل الجاري، ما وُصف بـ«آخر عمليات الإبادة الجماعية في القرن العشرين»، فإن مستويات الاستجابة إزاء الأعمال الوحشية في الوقت الحالي تكذّب هذا الزعم، وبالأحرى يمكن وصف العالم اليوم بأنه «عصر الإبادات».


ذكرى رواندا

كانت حوادث الإبادة التي وقعت في رواندا في العام 1994 أُلقي باللائمة في التسبب بوقوعها على المجتمع الدولي، لاسيما فرنسا وبلجيكا، وكذلك بعثة الأمم المتحدة التي تواجدت هناك.

من المؤسف أنه مع حلول هذه الذكرى تتجدد الفظائع في العالم بدل تجنب تكرارها والتعلم منها ومن الماضي كما أمل كثيرون. وعمليات التطهير العرقي في رواندا جرت في خلال (100) يوم فقط؛ واليوم في سوريا وجنوب السودان لسنوات تجري عمليات الإبادة والتطهير العرقي.

وفي ظل صمت وتجاهل دولي ولامبالاته على ما يجري في هذين البلدين سيصحو العالم على رواندا أخرى في جنوب السودان.

وتجدر الإشارة إلى أن مذابح رواندا وقعت عندما تسبب حادثة إسقاط طائرة الرئيس الرواندي السابق جوفينال هابياريمانا (من الهوتو) -التي لم يعرف من يقف وراءها حتى اليوم- لتفجر تلك الحادثة تراكمات تاريخية ترجع إلى الحقبة الاستعمارية، وما بعدها لتندلع عملية تطهير عرقي بشعة، قادتها أغلبية من الهوتو (يشكلون 85% من السكان) استهدفت أقلية التوتسى(14%) والمعتدلين من الهوتو. وقضى أكثر من 800 ألف شخص. وفرّ مليونان إلى دول الجوار.


«تحت أعيننا»

تكرر الإبادة في رواندا مرة أخرى في أكثر من مكان في العالم أو في مكانين مختلفين منه وفي آن معا، كما يحدث الآن في جنوب السودان وسوريا.

في أعقاب الإبادة في رواندا وتحميل المجتمع الدولي جزءا من المسئولية فيها، تشكلت حملات دولية لمناهضة الإبادة والتطهير العرقي من قبل جماعات المدافعة (advocacy groups)، حيث كُرست جهودها للحول دون تكرار جرائم الإبادة مرة أخرى، وقالت بصوت واحد: «ليس تحت أنظارنا»، أي لن يجب أن نسمح بتكرار مثل تلك الجرائم مرة أخرى.

وفي الحقيقة أن تلك الحملات لم تؤد إلا إلى القليل من السياسات أو المؤسسات والتشريعات على المستوى الدولي.

اليوم، نشهد ببطء «رواندا أخرى»؛ ففي جنوب السودان حيث حذّرت الأمم المتحدة من هذا السيناريو، كما قرَعت المنظمات الحقوقية الدولية جرس الإنذار من مغبة وقوع مذابح وعمليات تطهير عرقي أخرى بالدولة الوليدة التي خرجت إلى الوجود عقب الانفصال في الاستفتاء الذي اُجري في جنوب السودان في كانون الثانى/ يناير 2011.


الضحايا «القتلة»

اندلعت الحرب الأهلية بين «الثوار» السابقين نتيجة الصراع على السلطة داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان في 13 كانون الأول/ ديسمبر 2013. سرعان ما أخذ منحى عرقيًا بين الدينكا الذين يشكلون غالبية سكان البلاد ويهيمنون على مفاصل السلطة في الدولة الجديدة، وينتمى إليهم الرئيس الحالى سلفاكير ميارديت، وبين النوير الذين يعتبرون ثاني مجموعة إثنية، وينحدر منهم زعيم المعارضة والنائب الأسبق للرئيس رياك مشار.

لاحقًا، بجانب الدينكا والنوير، ضرب صدع الإثنية المكونات الأخرى، حيث تجري تعبئة سياسية وعسكرية على أسس إثنية لمواجهة هيمنة الدينكا. كما انقسم النوير أنفسهم بين أنصار مشار والنائب الحالي للرئيس تعبان دينق.. وهذه تعتبر مقدمات لمزيد من التطهير العرقي والمذابح والوحشية.

ولم تصمد كل الاتفاقيات التي وقعتها الأطراف المتحاربة، آخرها الاتفاقية التي وقّعت في آب/أغسطس 2015 برعاية القوى الإقليمية، ولكن مرة أخرى اُستؤنف العنف أكثر ضراوة في كانون الثانى/ يناير من الماضي.

ووفقًا لوكالات الغوث الدولية، فإنّ أكثر من مليون ونصف المليون فروا من منازلهم بسبب العنف تشردوا داخليًا أو عبروا الحدود ليشكلوا أكبر أزمة لاجئين في العالم في الوقت الراهن، بينما يواجه الملايين خطر المجاعة التي أُعلنت رسميًا هناك في 20 شباط /فبراير الماضي، حيث يحتاح 5.8 مليون إنسان لمساعدات غذائية عاجلة.


الصدع الإثني

الأكثر خطورة والأدعى لحدوث التطهير العرقي والإبادة في جنوب السودان هو انتقال الصدع الإثني إلى داخل المؤسسة العسكرية «الجيش الشعبي لتحرير السودان»، والذي جرى تسليحه من قبل الدول الغربية عقب اتفاقية نيفاشا (2005)، نتيجة تأثيرات لمجموعات الضغط التي تبنت قضية جنوب السودان في الداوئر الغربية مع توقعات – بعد انتهاء الفترة الانتقالية وبروز مؤشرات على الانفصال – بعرقلة الحكومة المركزية في الخرطوم الاستفتاء الذي أجري في يناير 2011. كما انخرطت قيادة الدولة الوليدة في عمليات توريد للسلاح بكثافة آلت مع انهيار الدولة إلى أيدي المواطنين في مجتمع مُعسكر بالكامل بسبب سنوات الحرب هناك.

إن حالة جنوب السودان اليوم تجسّد مقولة عالِم السياسة والأنثربولوجي البروفيسور محمود ممداني: «عندما يتحول الضحايا إلى قتلة»، عندما كتب كتابا بهذا العنوان وهو يحلل حالة رواندا.

في جنوب السودان تتضافر عوامل عدة لتصنع الإبادة هناك، كالمجاعة، والنزوح واللجوء، والأمراض الجائحة، والعنف المتصاعد، والانقسامات العرقية المتفاقمة، والانشقاق المتزايد وسط الفصائل المتقاتلة.


الحالة السورية

أما في سوريا، حيث يقف العالم متفرجا على أكثر جرائم التطهير العرقي بشاعة. ويمكن القول إن ما جرى في سوريا قد أهال التراب على العُرف الدولي الجديد «مسئولية الحماية»، وكذلك التدخل الإنساني لحماية السكان المدنيين المعرّضين لخطر الانتهاكات الجسيمة؛ فعلى مدى أكثر من خمس سنوات من اندلاع ثورة الحرية والكرامة هناك، ضحّت الدول الكبرى بكل القيم والمكتسبات التي تراكمت على مدى عقود في مجالات الحماية والقانون الدولي الإنساني، وغضّ المجتمع الدولي والقوى الفاعلة فيه الطرف عن عمليات التطهير الممنهج.

شهدت سوريا أشكالا متطورة من التهجير القسري والتغيير والإحلال الديموغرافي، والتطهير المكاني والوحشية وغيرها، من خلال تدمير المساكن والممتلكات والبنية التحتية لبعض المجتمعات، وطالت هذه السياسات «التطهيرية» المؤسسات الخدمية التي كان يحميها القانون الدولي؛ كما استخدمت بشكل ممنهج ومتعمد الأسلحة المحرمة دوليًا ضد المدنيين في هذه الحرب.


مسئولية الحماية

بدا غاري أيفانز (وزير خارجية أستراليا الأسبق والرئيس المشارك للجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدول، مبدأ مسئولية الحماية، وهو أيضا الرئيس الفخري لمجموعة الأزمات الدولية) منتشيًا عندما كتب في أيار/مايو 2011 مقالًا بعنوان (المسئولية عن حماية الشعب الليبي)، وكيف أن التحرك الدولي تجاه نظام العقيد القذافي قد أعطى بارقة أمل مقارنة بالحالات السابقة من خلال التدابير التي اتخذها المجتمع (حظر توريد الأسلحة، وتجميد الأصول، وحظر السفر… إلخ)، بما في ذلك خيار التدخل العسكري كملاذ أخير. وقال إن تلك التدابير «كانت سريعة، وحازمة، وبالإجماع.. ولا شك أن التحول في الإجماع المعياري [تجاه مسئولية الحماية] قد اكتمل على نحو أو آخر»، وفي تلك اللحظة «لم تعد مصداقية مبدأ المسئولية عن الحماية فقط على المحك، بل مصداقية مجلس الأمن أيضا». ا.ه.

وتعود بدايات هذه الفكرة إلى حقبة الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان، وخلال فعالية الجمعية العامة للأمم المتتحدة 1999-2000، لتقود بعدها كندا جهود تشكيل «اللجنة الدولية للتدخل وسيادة الدول العام 2001»، ثم تبنتها القمة العالمية لرؤساء الدول والحكومات في العام 2005. حيث كانت الآمال معقودة على هذه الشرعة الدولية الجديدة قبل أن تتبدد اليوم.


عجز الأمم المتحدة

مثلما تلكأت -أو تواطأت بعض الأطراف- في مذابح رواندا، نفس الأطراف تكرر مواقفها تلك، ففي جنوب السودان وبينما تمضي عمليات التطهير العرقي والأعمال الوحشية بوتيرة أسرع، تعجز البعثة الأممية هناك عن توفير الحماية للمدنيين داخل ما تسمى بـ«مناطق حماية المدنيين»، كما تلهث الدول الكبرى لتوفير قوة إقليمية قوامها 4 آلاف جندي منذ أشهر. ويذكّرنا ذلك بما قاله بعض المراقبين من أنه لو كان لبعثة الأمم المتحدة في رواندا -آنذاك- 5 آلاف جندي مسلحين كان يمكنهم وقف الإبادة.

على الدوام أثبتت الوقائع أن التدخل الإنساني لاسيما في الحالات القريبة، ليس لإنهاء الإبادة أو حماية السكان المعرّضين لها، وإنما حماية مصالح جيواستراتيجية لبعض الدول مثلما جرى في البلقان وليبيا.

مؤخرا، قال الرئيس الرواندي بول كاغامي إن لفرنسا «دورا مباشرا في الإعداد للإبادة»، وهو ما رفضته فرنسا، وعلى إثر ذلك رفضت المشاركة في مراسم إحياء الذكرى العشرين لتأبين ضحايا تلك المذبحة.

على غرار أدوار فرنسا وبلجيكا في مذابح رواندا، اليوم تعتبر الدول الكبرى كالولايات المتحدة وروسيا متورطة في دعم بعض أطراف النزاع في سوريا من خلال توظيف الأطراف المحلية –خاصة الأقليات- في الحروب بالوكالة والتدريب والتمويل والإسناد العملياتي. وهذا الدعم يعتبر إشعالًا لروح الانتقام والثأر لدى الضحايا، وهو ما يعد مشاركة وتهميدًا للتطهير العرقى والإبادة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.