سلكت الدولة العربية الحديثة مسالك متعددة لإحكام سيطرتها على نظام الوقف -على نحو ما أشرنا في مذاكرة سابقة منشورة في «إضاءات»– وكان الاستيلاء البيروقراطي على قطاع الأوقاف من أهم تلك المسالك، مع توفير غطاء «قانوني» لهذا الاستيلاء. وترافقت عمليات الاستيلاء وإجراءات التقنين مع لحظات التحول السياسي باتجاه تعزيز الحكم الاستبدادي، وإجهاض الجهود الرامية لتعزيز الحريات العامة والخاصة. وعلى هذه الخلفية صدرت أغلب تشريعات وقوانين الأوقاف في بلدان الأمة الإسلامية؛ بما فيها البلدان العربية. وتركزت تلك التشريعات والقوانين في ثلاث موجات كبرى رافقت مسار نمو الدولة الحديثة في المجال العربي الإسلامي، وأسهمت في استفحال استبداديتها، وهذه الموجات هي:

1. الموجة الأولى

شملت خمسة قوانين هي: قانون الوقف المصري رقم 48 لسنة 1946م. وقانون الوقف الأردني 25 لسنة 1946م. وقانون الوقف اللبناني في 10 مارس سنة 1947م، وقانون الوقف السوري رقم 76 لسنة 1949، وقانون الوقف الكويتي الصادر بالأمر السامي لسنة 1951م. وكان القانون السوري هو الأوضح في الإفصاح عن رغبة الدولة في إحكام قبضتها على الأوقاف ومؤسساتها، وقد صدر إبان أول انقلاب عسكري تشهده سوريا في مارس 1949م بقيادة حسني الزعيم، ونص في إحدى مواده على استقطاع حصة من ريع الأوقاف لصالح القوات المسلحة العربية السورية.

2. الموجة الثانية

شملت كلاً من: العراق الذي أصدر القانون رقم 64 لسنة 1966م في غمار الانقلابات العسكرية (عبد الكريم قاسم – عبد الرحمن عارف)، والسودان الذي أصدر قانون الوقف رقم 116 لسنة 1970م في أعقاب الانقلاب العسكري بقيادة جعفر نميري ضد حكومة إسماعيل الأزهري. وليبيا التي أصدرت قانون الوقف رقم124لسنة 1972م، في أعقاب انقلاب معمر القذافي ضد حكومة الملك إدريس السنوسي. والمغرب التي أصدرت الظهير الشريف بقانون رقم 83 – 77 – 1 بتاريخ 24 شوال 1397هــ/8 أكتوبر 1977م في شأن الأحباس العقبة والمشتركة.

3. الموجة الثالثة

وشملت كلاً من:

  • الجزائر، وقد أصدرت قانون الوقف رقم91 ـ 10 لسنة 1411هــ/ 1990م.
  • اليمن، وقد أصدرت قانون الوقف رقم 23 لسنة 1992م، وعدلته بالقانون رقم 32 لسنة 2008م.
  • قطر، وقد أصدرت قانون الأوقاف رقم 8 لسنة 1996م.
  • موريتانيا، وقد أصدرت قانون الوقف رقم 57 لسنة 1997م.
  • الإمارات، وقد أصدرت قانون اتحادي للوقف برقم 29 لسنة 1999م.
  • سلطنة عمان، وقد أصدرت قانون الوقف رقم 65 لسنة 2000م.
  • الأردن، وقد أصدرت قانون الوقف رقم 32 لسنة 2001م.
  • المغرب، وقد أصدرت مدون الأوقاف 23/2/2010م، وفي 11 مارس 2019م صدر ظهير شريف رقم 46/19/1 لسنة 1440هــ/2019م بتتميم مدونة الأوقاف الصادرة في سنة 2010م.

إن السياقات التشريعية التي صدرت فيها تلك القوانين (وتعديلاتها) قد تباينت من بلد إلى آخر. وبملاحظة تلك التباينات، يتضح أن قوانين الأوقاف المشار إليها تندرج في ثلاثة أنماط:

أولها: نمط القوانين الوقفية الجيدة في بيئة تشريعية جيدة، ومثالها القانون المغربي ومدونته 23/2/2010م وتعديلاتها، والقانون السوداني رقم 16 لسنة 2008م.

وثانيها: نمط القوانين الوقفية الجيدة في بيئة تشريعية رديئة، ومنها قوانين الأوقاف في كل من: الجزائر واليمن وموريتانيا، والإمارات.

وثالثها: نمط القوانين الوقفية الرديئة في بيئة تشريعية جيدة، ومنها قانون الوقف في الكويت، وقانون الوقف في الأردن، وقانون الوقف في سلطنة عمان.

ورغم التباينات والاختلافات بين تلك التشريعات الوقفية، فإنها اتفقت جميعها في مسألة جوهرية تكشف عن نزعة استبدادية صارخة عند الدولة الحديثة وهي: توسيع ولاية الجهاز الحكومي على الأوقاف وتقليص الولاية الأهلية صاحبة الاختصاص الأصيل عليها. وبتدقيق النظر في هذه النزعة يتضح أنها أعمق مما قد يبدو للوهلة الأولى؛ فتقنين أحكام الوقف وإصدارها في قانون موحد وملزم قد نقل نظام الوقف برمته من النسق الفقهي المفتوح الذي لا سلطان عليه سوى للاجتهاد الحر للعلماء والاختيارات الحرة للمواطنين، إلى النسق القانوني المغلق الذي تتحكم سلطات الدولة في تفسيره وتأويله وتطبيقه والمعاقبة على مخالفته.

هذا الانتقال القسري من النسق الفقهي المفتوح إلى النسق القانوني المغلق قد أثر سلبياً على القوة التحررية الكامنة في فكرة الوقف ونظامه. فقد أدى من ناحية أُولى إلى الانصراف عن إنشاء أوقاف جديدة لأنها ستكون بحكم القانون خاضعة للإدارة الحكومية التي يسمح لها القانون أيضاً بتغيير شروط الواقف، وهذا السماح قد قوض الثقة المجتمعية في نظام الوقف، وأخرجه من معادلة بناء الحريات ومقاومة الاستبداد بالمعنى السالف شرحه.

وأدى ذلك الانتقال من ناحية ثانية إلى تقويض إسهام الأوقاف في تقديم خدمات المرافق العامة بتعبيراتنا المعاصرة، أو «رعاية المصالح» بتعبيرات قدماء العلماء. وحذفُ إسهام نظام الوقف في تحقيق المصالح وتوفير خدمات المرافق العامة يصبُّ في اتجاه واحد فقط هو: ترسيخ النزعة الاستبدادية للدولة التي يبدو استبدادها صارخاً في النظام الاشتراكي المختلط؛ فهذا النظام يعرف المصلحة العامة بما تراه السلطة محققاً لمنفعة الجمهور. وتبدو تلك النزعة الاستبدادية أيضاً في النظام الرأسمالي، الذي يعرف المصلحة العامة بأنها المشروعات يعجز الأفراد أصحاب المشروعات الخاصة عن تحقيقها نظراً لأنها غير مربحة لهم؛ وهنا تتدخل الدولة لتحقيقها لمراعاة العدالة الاجتماعية. أما في النظام الديكتاتوري الاستبدادي الفردي، فالمصلحة العامة هي ما يراه الحاكم أنه مصلحة عامة. وتختلف تلك التعريفات والتحديدات عن مفهوم المصلحة العامة في النظام ذي المرجعية الإسلامية؛ الذي يعرفها- من وجهة نظري- بأنها «إشباع ما يحقق الراحة والطمأنينة العامة للجمهور، ويدفع عنه الضرر، وبذلك تتحقق له الحياة الطيبة».

لم تكن الدولة السلطانية القديمة دولة مفترسةً مثل الدولة الحديثة؛ بل كانت تسهم في تقديم المصالح العامة دون أن تتمكن من ممارسة الاستبداد على الجمهور العام بفضل وجود شركاء آخرين في تقديم تلك المصالح العامة وبمقدمتهم نظام الوقف ومؤسساته.

ومن الناحية الفقهية، قرر الفقهاء أن من واجبات الدولة المشاركة في تقديم المصالح العامة؛ فالسادة الحنفية ذهبوا إلى أن «بيت المال حق العامة، والإمام أو نائبه كالنائب عنهم، فيجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، وله اصطناع المعروف في غيره حيث كان على وجه النظر والمصلحة، لأن تصرفه منوط بهما»، قاله العلامة الإتقافي في شرحه على الهداية. ونقل الحنفية أيضاً من شرح الكنز للزيلعي أن: «للإمام ولاية عامة، وله أن يتصرف في مصالح المسلمين، والاعتياض عن المشترك العام جائز من الإمام».

أمّا السادة المالكية فقد قرروا كما جاء فتوى الشيخ أحمد النفراوي: «أن ما وقع من السلاطين السابقة ونوابهم من الإرصادات والأوقاف من بيت المال على جهات البر والصدقة على نحو العلماء والفقراء وعلى ما فيه مصلحة لعموم المسلمين، فإنه صحيح يثابون عليه، وليس لأحد ممن يأتي بعدهم من السلاطين والوزراء معارضته». ووافقهم السادة الشافعية والسادة الحنابلة على ذلك.

بقيت إشارة إلى الجهود النظرية والتطبيقية التي تسعى لإحياء نظام الوقف ورفع كفاءته في الواقع المعاصر؛ وهل سيكتبُ لها النجاح في تحقيق غاياتها وبلوغ مقاصدها؟

ليست عندي إجابة قطعية بلا أو نعم على هذا السؤال. ولكن لديّ شكٌ منهجي في نجاعة كثير من تلك الجهود، رغم معرفتي بحسن نوايا القائمين عليها وإخلاصهم فيما يقومون به. فهذه الجهود إن كانت تركز على إحياء القوة التحررية في نظام الوقف؛ فإنها إما أن تصطدم بسلطة الدولة القائمة الاستبدادية التي تحرص كل الحرص على بقاء نظام الوقف تحت سيطرتها للأسباب السابق بيانها، وإما أن تعدل من طروحاتها وتبتعد عن إحياء مفهوم الحرية وتفعيل مفرداته، وفي هذه الحالة تكون قد أخفقت إخفاقاً ذريعاً، وعملت من حيث تدري أو لا تدري في زيادة استبدادية الدولة.

وبعض تلك الجهود يغامر بالتخفف من أركان فعالية نظام الوقف (احترام إرادة الواقف – ولاية القضاء على الأوقاف – الشخصية الاعتبارية للوقف)، بدعوى فتح المجال أبواب مزيد من المبادرات وكسب أكبر عدد ممكن من المتبرعين، حتى ولو بشكل مؤقت، على نحو يذكرنا بمنطق الدعاية في السوق الرأسمالي؛ وأخشى ما أخشاه هو أن تسهم هذه النزعة في «حوسلة» نظام الوقف؛ أي تحويله إلى مجرد وسيلة لجمع التبرعات وإفقاده نواته الصلبة المتمثلة في فكرة «الحرية» تأسيساً وتفعيلاً.