يعتبر حزب الشعوب الديمقراطي، الذي تراجعت حظوظه بصورة ملموسة في الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة، وثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني، الذي يخوض حرباً دموية ضد الدولة التركية منذ ثمانينات القرن الماضي. ولكن، وبخلاف تبني العمال الكردستاني العمل المسلح، يقدم الشعوب الديمقراطي نفسه باعتباره حزباً ديمقراطياً، يخوض نضالاً سياسياً من أجل تعزيز الحريات، ليس للأكراد وحسب، بل ولعموم المواطنين الأتراك. على أن توجهات الحزب الحقيقية، وصلاته الوثيقة بالعمال الكردستاني، تخونه من وقت إلى آخر. أحد هذه اللحظات الكاشفة كان مطالبة رئيس الحزب المشارك، صلاح الدين تمرتاش، مؤخراً بالحكم الذاتي لمناطق الأغلبية الكردية. وبالرغم من أن رئيسة الحزب الأخرى حاولت تلطيف ما يستبطنه تصريح تمرتاش من دعوة إلى تقسيم البلاد، بقولها إن الحزب يطالب بالحكم الذاتي لكافة المناطق التركية، لم يمر التصريح بدون ردود فعل واسعة النطاق، بما في ذلك من أوساط يسارية وليبرالية أظهرت في الشهور القليلة الماضية دعماً وتأييداً لحزب الشعوب الديمقراطي. رئيس الجمهورية التركية، طيب رجب إردوغان، وصف مطلب الحكم الذاتي بالخيانة العظمى. ولكن، وبالرغم من أن البعض قد يجد في قول إردوغان أقصى ما يمكن أن يقال، فإن دعوة تمرتاش تستدعي اهتماماً خاصاً.

جاء تصريح الحكم الذاتي في ظل تصاعد عمليات التمرد المسلحة لحزب العمال الكردستاني في بلدات وأحياء مدن تركية ذات اغلبية كردية، مما استدعى فرض حالة منع التجول في هذه البلدات والاحياء لعدة أسابيع، وتحولها إلى ساحة اشتباكات مسلحة مع أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية. كان من المفترض أن يعلن تمرتاش وحزبه رفض مثل هذه النشاطات المسلحة في وسط المدنيين، والعمل على وضع نهاية لعودة العمال الكردستاني غير المبررة تماماً للعمل المسلح منذ صيف العام الماضي. وليس ثمة شك أن مراجعة نهج العمل المسلح أصبحت أكثر إلحاحاً بعد التراجع الملموس في التأييد الذي حازه حزب الشعوب الديمقراطي في انتخابات 1 تشرين الأول/نوفمبر عن النتائج التي حققها في انتخابات 7 حزيران/يونيو. ولكن مؤشراً ولو صغيراً على هكذا مراجعة لم يظهر بعد.

ما ظهر كان قيام السيد تمرتاش بزيارة لموسكو، واجتماعه بوزير الخارجية الروسي، ومن ثم إعلانه ما يشبه الإدانة لحادثة إسقاط الطائرة الروسية، التي انتهكت المجال الجوي التركي يوم 23 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. وبالنظر إلى أن موقف الحكومة والجيش التركيين من الحادثة وجد تفهماً ودعماً واسع النطاق من الشعب وأحزاب المعارضة التركية، يبدو أن صلاح الدين تمرتاش اختار التفرد في تأييده لموسكو. تركيا، بالطبع، دولة ديمقراطية، تعددية، ومن حق الشعوب الديمقراطي تبني سياسة متفردة حتى فيما يتعلق بمسألة قومية كبيرة، مثل الأزمة التركية – الروسية. ولكن، وإن وضعت زيارة موسكو إلى جانب مواقف الحزب الأخرى، بما في ذلك التمرد المسلح في جنوب ـ شرقي البلاد والدعوة للحكم الذاتي، يبدو أن المزاج السياسي لقيادة الشعوب الديمقراطي بات مزاجاً انقسامياً.

ثمة نزعة مركزية واضحة في بنية وعقل الدولة التركية، تعود إلى لحظة ولادة الدولة الجمهورية. لم تعترف الدولة الجمهورية بالتعددية الثقافية والإثنية في البلاد، وأسست لاجتماع سياسي يقوم على تصور قومي، تركي، علماني مصمت. ولم تتردد الدولة الجمهورية في فرض هذا التصور لتركيا وشعبها بالقوة، كلما تطلب الأمر ذلك. بعض من جوانب أيديولوجية الدولة الجمهورية يمكن فهمه، لارتباطه الوثيق بالسياق الذي أطلق حرب الاستقلال؛ وبعض آخر يتعلق بتوجهات القادة الأوائل للجمهورية، سيما رئيسها الأول مصطفى كمال. ولدت تركيا الجمهورية، كما هو معروف، من انفجار الحرب العالمية الأولى الهائل، والهزيمة المؤلمة للسلطنة العثمانية. بمعنى أن تركيا الحديثة لم تكن سوى اقتطاع من إمبراطورية أوسع بكثير، فقد معظمها بفعل آلة الحرب، وليس بالتراضي والتفاوض. أكثر من ذلك، فإن ما تبقى من السلطنة العثمانية، بعد توقيع هدنة مدروس في نهاية 1918، سرعان ما تحول هو الآخر إلى غنيمة للدول المتحالفة، التي قسمته إلى مناطق نفوذ واحتلال. وكان الغزو اليوناني لمنطقة إزمير في غرب الأناضول، الذي شجعت عليه بريطانيا وحلفاؤها الآخرون، التطور الأقسى في سياسة الغنيمة.

حققت حرب الاستقلال، التي استمرت من 1919 إلى 1923، حرية واستقلال ما تبقى من السلطنة العثمانية؛ وهي البلاد التي أصبحت تعرف باسم الجمهورية التركية. ولكن خوفاً عميقاً، استقر في الوعي الجمعي للأتراك من أن البلاد عرضة للخطر، وأن قوى ما تستهدفها بالتقسيم. ولأن مرور السنوات لم يغير كثيراً في هذا الشعور التركي الجمعي، فلا يجب أن يكون هناك شك في أن الأغلبية التركية ستقاتل ضد أية محاولة لتقسيم البلاد، ومهما بلغت التكاليف.

خلال السنوات العشر الماضية، تبنت حكومة العدالة والتنمية سياسة اعتراف تدريجي بالتعددية الثقافية والأثنية في البلاد؛ وهي السياسة التي بدأت مع تورغوت أوزال في الثمانينات ومطلع التسعينات، بدون أن تحقق تقدماً ملموساً بعد وفاته. وربما يمكن القول أن هذه السياسة كانت الركيزة التي استند إليها مشروع المصالحة والتوافق مع القوميين الأكراد، داخل العمال الكردستاني وامتداداته. القوميون الأكراد ، هم أيضاً دخلوا إلى مشروع المصالحة بتخليهم عن دعوات الانقسام، والقبول بحل للمسألة الكردية في تركيا على أساس من وحدة البلاد والحصول على حقوق مدنية وثقافية واقتصادية للأكراد.

في صيف العام الماضي، نقض حزب العمال الكردستاني الهدنة القائمة منذ عامين مع القوات التركية، وعاد إلى لغة التهديد والخطاب القومي الراديكالي. والواضح أن قيادات حزب الشعوب الديمقراطي تلحق الآن ببارونات العمال الكردستاني في مرتفعات وكهوف جبال قنديل. السبب الرئيسي خلف تراجع العمال الكردستاني عن مشروع المصالحة وتبلور خطاب انقسامي جديد يتصل بالعودة المتسارعة للقوى الدولية إلى الجوار الإقليمي. بتحالف القوميين الأكراد مع الولايات المتحدة في الحرب ضد داعش في سوريا والعراق، ومحاولة روسيا استخدام الورقة الكردية ضد أنقره، ولدت لدى قيادات العمال الكردستاني وامتداداته أوهام حول تبلور ظرف دولي وإقليمي سانح للمطالبة بتقسيم تركيا، عبر جسر أولي من الحكم الذاتي.

مشكلة قيادات العمال الكردستاني والشعوب الديمقراطي أنها لا تريد أن ترى أن هذا الوضع الدولي – الإقليمي مؤقت جداً، وأن واشنطن ليست بصدد عقد صفقة إقليمية مع القوميين الأكراد حتى وإن وجدت فيهم حليفاً مناسباً ضد داعش. وما لا تريد هذه القيادات أن تراه أيضاً أنها لا تستطيع الحديث باسم الأغلبية الكردية في تركيا، وأن حجم المعارضين لها في صفوف الأكراد لا يقل عن حجم معارضيها الأتراك. ولدت دول المشرق في أعقاب الحرب الأولى من عملية انقسام وتشظ لم يكن لها من مبرر إلا مصالح الإمبرياليات الأوروبية. والواضح أن مزيداً من الانقسام والتشظي لن ينتج إلا الحروب الأهلية والآلام. ما يحتاجه المشرق اليوم، للخروج من أزماته المستحكمة، هو كسر حدود نظام ما بعد الحرب الأولى، وإقامة كيانات تعددية، كبرى، وحاضنة، لا المزيد من الانقسام والتشظي.