نشرتُ في وقت سابق عدة مقالات في «إضاءات» عن وقفيات الخديوي إسماعيل. وقد تراءى لي أن أعود إليه مرة أخرى بعد أن عِشْت معه أثناء كتابة تلك المقالات ليالي وأيامًا وشهورًا، وكنت أقرأ وأعيد قراءة نصوص حجج وقفياته الضخمة: الخيرية والمشتركة والأهلية، حتى أضنتني كثرة قراءتها. وفي أثناء هذه القراءة، ظفرت بفوائد تاريخية ثمينة، وعثرت على مفاتيح جديدة تساعد فهم شخصيته فهمًا أقرب إلى العدالة والإنصاف.

اقتصرت معايشتي للخديوي إسماعيل من خلال حجج وقفياته، على مرحلتين أساسيتين من المراحل الثلاث التي مر بها في حياته هما: المرحلة الأولى هي مرحلة توليه حكم مصر من 28 رجب 1279هــ/ 18 يناير 1863م، حتى 7 رجب 1296هـ/ 26 يونيو 1879م، والمرحلة الثانية هي مرحلة عزله عن الحكم ومعيشته مع زوجاته وأبنائه وبعض حشمه وخدمه في قصر «بيركون» الأنيق المطل على البوسفور في دار الخلافة بإسطنبول، إلى أن توفاه الله هناك في 6 رمضان 1312هـ/ 2 مارس 1895م. أمّا المرحلة الأولى فقد ألممت بها سريعًا، إذ لم تكن ضمن اهتمامي به في دراستي لوقفياته وأعماله الخيرية، وهي مرحلة النشأة والتكوين وتقلبه في المناصب قبل توليه حكم مصر.

بلغ عدد الوقفيات التي أنشأها 15 وقفية، منها: 12 وقفية خيرية، بمساحة إجماليها 4 أسهم، و11 قيراطًا و36793 فدانًا من الأراضي الزراعية، وقد خصّصها للإنفاق على: مساجد، وتكايا، ومدارس، وفقراء، وأعمال خيرية ومساعدات للفئات الضعيفة والعجزة وكبار السن.

وله وقفيتان من الوقفيات المشتركة (يعني جزء منها أهلي للإنفاق على نفسه وزوجاته وأولاده وذريته، وجزء آخر للإنفاق في وجوه الخيرات)، بمساحة إجماليها 20 سهمًا، و9 قراريط، و11765 فدانًا، وله وقفية أهلية خالصة واحدة (للإنفاق على نفسه وأسرته وحشمه وخدمه، وذوي رحمه)، وهي تؤول للخيرات بعد انقراض أبنائه وذريته وذوي رحمه، وتبلغ مساحتها الإجمالية 17 قيراطًا، و1803 فدانًا، إضافة إلى ما على تلك الأراضي من الأشجار، والمراكب البحرية والبرية، والمواشي، والمباني والدكاكين، وأدوات الزراعة.

وعليه فإن إجمالي المساحات التي وقفها كلها هو 14 قيراطًا، و50362 فدانًا وما عليها. وقد زادت هذه المساحة الإجمالية مع مرور السنين حتى بلغت 11 سهمًا و23 قيراطًا و54673 فدانًا بفعل الشراء بفائض الريع والإلحاق لأصل الوقف، إلى أن توقفت الزيادة مع يوليو 1952م، حيث أخذت هذه المساحات الشاسعة في النقصان إلى أن تلاشى معظمها اليوم ولم يعد بالإمكان التعرف عليها بسبب كثرة الإجراءات وأعمال الطمس التي تعرضت لها.

من إجمالي الــ 15 وقفية المشار إليها، تحررت حججُ سبع وقفيات منها من محكمة الباب العالي بمصر، وحجتان من محكمة مصر الشرعية، وحجتان من محكمة بشكطاش الشرعية في إسطنبول، وحجة من محكمة السويس الشرعية، وحجة من محكمة طنطا الشرعية، وحجة من محكمة المنيا الشرعية، وحجة من محكمة أسيوط الشرعية.

وقد أنشأ إسماعيل ثلثي وقفياته (10 وقفيات) في خلال المرحلة الثانية من حياته وهو على قمة السلطة خديويًا لمصر وتوابعها آنذاك، وبلغت مساحتها الإجمالية 20 سهمًا، و14 قيراطًا و32658 فدانًا وما عليها. وأنشأ ثلث وقفياته (5 وقفيات فقط) في المرحلة الثالثة من حياته في سنوات إقامته بمنفاه الاختياري وعيشه في قصر بيركون بإسطنبول، وبلغت مساحتها الإجمالية 4 أسهم، و17704 أفدنة وما عليها. أما المرحلة الأولى من حياته، وقد انتهت عند بلوغه الثالثة والثلاثين من عمره، فلم يوقف شيئًا في خلالها، حيث كان مشغولًا وقتها بتحصيل الأموال والأراضي والمناصب.

الداعي –حقًا- للتفكير مليًا في السلوك الوقفي للخديوي إسماعيل هو: أنه ما كاد يحصل على ما حصل عليه من أموال طائلة وأراضٍ شاسعة، ومناصب رفيعة في المرحلة الأولى من عمره؛ أي قبل اعتلائه عرش مصر؛ حتى شرع غداة جلوسه في سدة الحكم في وقف تلك الأموال والأراضي وإخراجها من ملكه إخراجًا نهائيًا لا رجعة فيه؛ وفي حجة من حجج وقفياته وصف ملكيته لكل ما كان يمتلكه بأنه «ملك على سبيل العارية، وليس ملكًا حقيقيًا؛ لأن المالك الحقيقي هو الله تعالى». وتوافق أن تنازله الطوعي عن أملاكه بوقفها وتسبيلها في المنافع العمومية وأعمال الخيرات، قد أضيف إليه تنازله الإجباري عن السلطة، واضطراره لمغادرة مصر التي عشقها حتى آخر يوم من حياته، ليعيش في منفاه الاختياري بإسطنبول ويموت هناك؛ ليعود بعد موته ويدفن في مدافن العائلة بجامع الرفاعي بمنطقة القلعة بالقاهرة.

ولدينا مؤشرات كثيرة تدل على أن الخديوي إسماعيل، ومن قبلِه جده محمد علي، ومن بعده معظم بقية حكام مصر من الأسرة العلوية، كانوا مدركين تمامًا -وبنسب متفاوتة- أهمية بناء مجال مشترك بين الدولة والمجتمع على قاعدة متينة هي «نظام الوقف» الإسلامي، ولهذا وجدناهم جميعًا يؤسسون الأوقاف الخيرية الضخمة، ويرصدون الإرصادات، ويخصصونها للإنفاق على المرافق والمنافع العمومية مثل: المساجد، والمدارس، والمكاتب، والمشافي، والمكتبات والمؤسسات الثقافية، ودور الأيتام والفقراء والعاجزين عن الكسب. وكانوا يشجعون الأثرياء على الاقتداء بهم في تأسيس مثل هذه الوقفيات التي تدعم كلاً من المجتمع والدولة على قاعدة «المجال التعاوني المشترك».

قد يقول قائل: ما الذي فعله الخديوي إسماعيل أكثر من أنه سلك في وقف أملاكه السلوك السائد الشائع لدى الخاصة والعامة في زمنه، وهو الإقبال على إدخال ثرواتهم أو أقسامٍ منها في دائرة الوقف لتحقيق أغراض كثيرة منها الدنيوي البحت مثل: المحافظة على الملكيات الزراعية من التفتت، ومنها الإيماني الأخروي البحت، وفي الأساس منها الرغبة في القرب من الله وتحصيل الثواب النافع يوم الحساب؟

وقائلُ مثل هذا القول عنده شيء من الحق فيما يقول، ولكن فاتته أشياء مهمة، ومنها: أن السلوك الوقفي سلوك تقليدي موروث، وهو -من حيث مرجعيته المعرفية والدينية- لا يمت بأدنى صلة إلى الحداثة أو العصرنة، أو الرغبة في اللحاق بأوروبا وجعل مصر قطعة منها، وتغيير هويتها، أو ما شابه ذلك من الأوصاف، والاتهامات التي طالما ترددت على ألسنة أنصاره وأعدائه.

والذي نود قوله هنا هو: أن تصوير إسماعيل في صورة المتغرب الداعي لخلع مصر من جذورها الحضارية وتقاليدها الاجتماعية الموروثة جملةً وتفصيلًا، هو تصوير جائر وغير منصف، بدليل أنه خصص ريع مساحات كبيرة من وقفياته الخيرية لتمويل المساجد، والتكايا، والمدارس، ومكاتب تحفيظ القرآن وتعليم اللغة العربية، ومعنى هذا أنه كان يدعم أصول الهوية الذاتية في مواجهة تغلغل النفوذ الثقافي الأجنبي عبر الإرساليات التبشيرية، وعبر الجاليات الأجنبية ومدارسها.

وإن سلوكه الوقفي على النحو الذي مارسه يبرهن على أنه ظل معتزًا بانتمائه الإسلامي، واثقًا من إمكانية السير في طريق التقدم مع التمسك بالقيم والمبادئ ومكارم الأخلاق المستندة إلى المرجعية المعرفية الإسلامية والمستمدة منها، ومنها «الوقف»؛ الذي سنّه الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وعدَّه فقهاء السياسة الشرعية من «مكارم الأخلاق».

وثمة دليل آخر من وقفياته على أنه لم يكن مُغرمًا بالغرب بلا قيد أو شرط، أو غافلًا عن خطر نفوذه المتزايد اقتصاديًا وعسكريًا؛ وهو أن أراضي تفتيش الوادي، الذي كان يُعرف أيضًا باسم وادي الطميلات بالتل الكبير بمحافظة الشرقية، كانت تلك الأراضي قد وقعت تحت سيطرة شركة قناة السويس في عهد سلفه سعيد باشا، وما إن وصل الخديوي إسماعيل إلى سدة الحكم حتى أسرع لاستخلاص أراضي هذا الوادي ذي الأهمية الإستراتيجية والأمنية الكبرى باعتباره -بعد بوابة سيناء- البوابة الشرقية المؤدية إلى قلب الدلتا والقاهرة أيضًا.

وقد نجح في استخلاص هذا الوادي ذي المساحة الشاسعة (حوالي 22 ألف فدان)، وقام بوقفه فور استلامه من شركة القنال، وخصّص ريعه للإنفاق على المساجد والمكاتب والكتاتيب في مختلف أنحاء مصر، ليُضاف إلى وقفية العشرة آلاف فدان التي سبق أن خصصها للكتاتيب والمساجد أيضًا في الفترة نفسها. ومعنى هذا أنه حوَّل «وادي الطميلات» من مصدر تهديد للأمن القومي المصري، ليكون مصدرًا لتعزيز هذا الأمن، وتقوية الهوية الذاتية ومقاومة النفوذ الأجنبي.

والذي يقول: إن وقفيات الخديوي إسماعيل، عادية، وهي مثل غيرها من وقفيات رصفائه من الحكام الذين سبقوه أو لحقوه، يفوتُه أيضًا: أن إسماعيل قد أنشأ وقفياته الخيرية البحت كلها وهو في قمة مجده في السنوات التي حكم فيها مصر، والمظنون أنه كان وقتها مقبلًا على الحياة، راغبًا في المزيد من متعها وزخارفها، غافلًا عن الآخرة، ولا يعمل لها حسابًا. أمّا في السنوات التي عاشها بعد خلعه من الحكم، فإنه أنشأ وقفياته الأهلية التي استهدف بها تأمين مصادر العيش له ولأسرته (زوجاته وأبنائه وذريتهم) وبعض خدمه وحشمه، الذين أقاموا معه في منفاه الاختياري في إسطنبول.

والأهم مما سبق كله هو: أن الخديوي إسماعيل ظلّ يوقف أملاكه بعد خلعه من الحكم في سنة 1296هـ/1879م، حتى كانت آخر وقفياته في العام الذي توفي فيه وهو عام 1312هـ/1895م، وقد سجّل في حجة ذلك الوقف عبارة حاسمة ومفتاحية لفهم جوانب أساسية من شخصيته وهي تلك العبارة التي نص فيها على أنه بعد هذه الوقفية:

لم يعد يملك شيئًا يُطلق عليه اسم مال سوى الملابس التي على جسده.

لم تأتِ تلك العبارة عفو الخاطر، ولا من قبيل المبالغة، ولا على سبيل الصور البلاغية والمحسنات البديعية التي يُقصد مبناها لا معناها، وإنما جاءت بقصد وبوعي كامل لمعناها ومبناها معًا، والدليل على ذلك هو شرحها الوارد في نص الحجة التي حررها أمام محكمة بشكطاش بإسطنبول وهو قوله إن:

ما أراد أن يوصي به من النقود والأموال والأشياء والعروض والعقارات صارت غير مملوكة له، ومهما كانت جارية في ملكه فإنه أوقفها وحبسها وأخرجها من ملكه، على الوجه المشروح، وأنه ليس له مدخلية أو علاقة أصلًا وقطعًا، فما هو خلاف الأوقاف المذكورة، سواء كان بالآستانة أو بمصر مما ينسب إليه من جميع الأطيان والأراضي والقصور والأبنية والكتب والعروض والحيوانات والمراكب البحرية والبرية وأثاث البيوت والنقود والمجوهرات والأواني الذهبية والفضية، بل نسبتها إليه من قبيل العارية فقط… وأنه لا يملك شيئًا فيُطلق عليه اسم مال خلاف ما على بدنه من الملابس. (أ.هـ)

ولا يقل أهمية عمّا سبق في إثبات دلالة وقفياته الخيرية على الجانب الإيماني في شخصيته، أن نصوص حجج وقفياته مليئة بالاقتباسات من آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم)، التي تؤصِّل لمشروعية الوقف باعتباره صدقة جارية، يدوم ثوابها لفاعلها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

ويُضاَف إلى ذلك ما تضمنته بعض حججه من اجتهادات بعض الفقهاء في الوقف من حيث جوازه ولزومه، وبخاصة اجتهادات الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، واجتهادات صاحبه أبي يوسف. وتحتوي نصوص حجج وقفيات الخديوي إسماعيل على فقرات صريحة تؤكد أنه قد اطلع على مضمون نص الحجة، وأنه أقرها ووافق عليها، ولولا وجود هذه الفقرات -وهي غير معتادة في حجج الأوقاف- لقلنا إن دلالة الاقتباسات المشار إليها من القرآن والسنّة واجتهادات الفقهاء على اعتقاد الواقف فيها باعتبارها مرجعية عليا لتصرفه الوقفي، هي دلالة غير مؤكدة، وبخاصة أن أمثال الخديوي كانوا يوكلون عنهم وكلاء قانونيين وبعض العلماء الكبار لتحرير حجج وقفياتهم وإبرام عقود تصرفاتهم.

قرأت نصوص حجج وقفياته والوثائق التي سجلت التصرفات التي طرأت عليها منذ نشأتها حتى نهايات القرن العشرين الماضي، وهي بضعة آلاف صفحة مكتوبة بخطوط يدوية ليست ميسورة القراءة. وانتهيت منها وصورة الخديوي إسماعيل في ذهني أوضح وأكثر اكتمالًا وتوازنًا، عن صورته السلبية أحادية الجانب في أغلب الأحوال، وهي الصورة التي رسّختها الدراسات التاريخية -في معظمها- عنه وعن فترة حكمه.

ثم لما شاهدت الصور المتوافرة عن «قصر بيركون» في إسطنبول، الذي قضى فيه بقية عمره بعد عزله عن حكم مصر؛ قلت: في مثل هذا القصر الخيالي المطل على البوسفور البديع، عاش الخديوي إسماعيل بقية حياته، وقلبه عامر بالإيمان بالله، وكان وهو في هذا النعيم الدنيوي كأنه يسابق الزمن بوقفياته الخيرية والأهلية، حتى تجرَّد تمامًا عن أي شيء يسمى مالًا، إدراكًا منه بأن العمر وإن طال فما تحته طائل، وأن المال وإن زاد فهو والسلطة والهيلمان كالزوال الزائل.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.