يوم أن علمت بحملها، حملتها ودُرت بها في أرجاء الغرفة مُهللا أثناء ما كانت تبكي من الخوف؛ ستأتي الابنة التي ليست قرارنا لكنها قرار الله، بعد دقائق من مسح الدموع وطمأنتها أن الحضور دون استئذانٍ واستعداد لن يغير أمر الحضور في شيء فالحضور واحدٌ وعلينا الآن أن نستعد كما يحق للطفلة أن نكون، بضع دقائق وخلوت بنفسي.. أرهب الحِمل والحَمل والخبرُ خبرٌ أول وقليلٌ ما تَختبر أمورًا أولى في حياتك، فكيف تكون البداية وماذا عليّ أن أفعل؟ أحب إتمام الأشياء بصورة جيّدة، فكيف يكون هذا الجيّد هنا؟! كل من تواجد سابقا تواجد بقراره الخاص، الآن سيوجد من ليس وجوده خيارَه، بل نتيجة ليّ.

في اليوم اللاحق، أنقذني قريبي من هذه الخواطر بإعارتي كتابًا اسمه:«د.سبوك لرعاية الطفل». كان ثقيلا بصفحاته التسعمائة، لكن من الصفحة الأولى وعرفت أنني أمام ورقة علمية حيادية بسيطة، هكذا شيم الكتابات العظيمة.

وكذا بعد سنتين من القراءات في اتجاهات كثيرة، ما زلت أجد د.سبوك ذا القراءة الأولى، مُنزّهًا عن الانحيازات؛ فكل معُلمٍ يدفعُ المُحيطين لاعتناق منهجه وفلسفته، إلا سبوك كان حياديًا كما يجب أن يكون أشهر كتاب تربية حول العالم.

هذه هي إجابة السؤال الأول الذي لم أُسئَل مثله: «أريد أن أقرأ في التربية، فأي الكتب ترشح؟»


متى أبدأ التربية مع طفلي؟

في نهاية الشهر الرابع تنمو للجنين حاسة السمع ومنذ ذاك الحين تبدأ التربية.

سجلت صوت امرأتي وهي تغني بروحها لابنتنا أغاني أحببتُها قبل أن تفعل الابنة، داومت على إسماعها أمَها وهي تغنيها يوما وراء يوم، حادثناها وناديناها باسمها كثيرًا، سقينا مشاعرها بمقاطع القرآن والموسيقى، تواصلنا بالصوت والضوء، طلبت منها -عبر إسماعها أغاني أمها- الهدوء عدة مرات أثناء ما كانت تزعجها بتحركاتها العنيفة، وللعجب كانت تستجيب. وفي الثلث الأخير من الحمل، تتبعت الصغيرة بيدها من داخل البطن، مصدر الصوت والضوء عندما كنت ألصقه ببطن أمها، حتى يوم الميلاد الذي تأكد فيه كل شيء.

أتت الصغيرة للدنيا بصراخ كالهمس،أخذوها لإعدادها طبيًا في غرفة خاصة، شاهدتها مستمرة في البكاء خلف الزجاج، طلبت من المُمرضة إدخال الهاتف بجوارها وتشغيل هذه الأغنية لها، اضغطي (تشغيل) من فضلك وسيعود للصغيرة كَوّنها وتهدأ عن الخوف، رفضت لأن شبكات الهواتف تؤثر على الأجهزة في الداخل، أكدت لها أن الهاتف بلا شريحة فتفضلي.

هدأت الطفلة رغم تنازعها بين أيادي الأطباء، فور أن اطمأنت بصوت أمها وهي تُغنيها، استكانت ذات العيون المُغمَضة واستسلمت لهم وابتسمت الممرضة خلف الزجاج وهزت رأسها مُتعجبة.

في آواخر الشهر الرابع، وعبر أذن طفلك، يمكن أن تتفاهم معه وتمرر له ما تشاء من المُدخلات، وبعد هذا بقليل، تنبت عينه فيرى الضوء، فمن هنا تبدأ التربية.


كيف أعاقب طفلي؟

ليس في علم التربية ما يسمى عقابًا، العقاب أمر يطبقه المجتمع على الراشدين بوسائله المختلفة، الله أيضًا يحاسب الراشدين فقط، لذا كائنك الصغير لا يزال غير مدرك للأشياء بصورة تُجيز عقابه، واعرف أنك سبيله الوحيد لاستكمال هذا الإدراك، لذا نُقوّم سلوكه ولا نعاقبه، ونصيحة في المُجمل، إن سمعت أحدهم يذكر كلمة عقاب في أي ركن في التربية، فانصرف عنه فلا عقاب في علم نفس الطفل، هو التقويم فقط وسبيلنا له خمسة:

النقاش والحزم والمنع والحرمان والتجاهل.

أما النقاش ففي كل الأمور مرة واثنان وثلاث، الأولى نَفهم فيها دوافع الطفل الحقيقية وراء تصرفه ونُـفهمه أسباب الرفض، فالأمر لا يرفض في المطلق بل لسبب عليك أن تيسره وتقنعه به، في الثانية نفهم سبب تكراره الخطأ ونؤكد على اتفاقنا، في الثالثة اللوم والحزم.

الحزم بالصوت كل ما نملك، به نحسم الأخطاء ونوضح جدّية القواعد، قد نرفع الصوت درجة أو اثنتين أو ثلاث، بقدر المشكلة وتكرار الخطأ يكون الحزم، أنت حر في هذا لكن اعرف أن سقف صوتك اليوم، هو حدكم الأدنى غدًا.

الوضوح والحزم مهمان؛ طفلك كقائد سيارة في طريق للمرة الأولى، إن لم يهيأ ويمهد الطريق بالإرشادات والقواعد؛ باتت القيادة صعبة والأخطاء أكثر وقوعًا، رصفك للطريق ووضعك للقواعد الواضحة على جانبيه ثم محاوطة كل ذلك بأسوار من الجانبين، تيسير لقائد السيارة للانطلاق دون خوف، فهو لن يفاجأ بما لم نخبره به فنحن نخبره بكل شيء في طريقه، كذا هي التربية وكذا هو طفلك، إطلاق عنان هذه الأيدي المستكشفة يتطلب إزالة الخوف والطمأنة، وهذا لن يكون دون تهيئة للطريق بإرشادات وقواعد واضحة، هذا ممنوع وذاك أيضًا، وكل ما دونهما مسموح به، يسير جيدًا من لا يخاف موطئ قدمه، وتذكر أن تكون القواعد قليلة وواضحة، كلما منعت 5 أشياء تأكد أنك أتحت ألفًا في المقابل، الأسر اللائي يمنعن خمسة ويسمحن بخمسين، يظلمون الأيدي الصغيرة بقواعد غير عادلة، التزم بهذا المفهوم ولن يخالفك ابنك إلا لاختبار صلابة القواعد بين حين وآخر، وهي مُخالفات هيّنة نادرة.

والمنع يعني استخدام قوتك البدنية لمنع صغيرك عن شيء ما أو منع شيء عنه، كحمله وإبعاده أو شد شيءٍ منه، ذلك مسموح فيما يهدد الحياة كالنار والكهرباء فقط، غير هذا لمسك لطفلك بغير غرض الحب، ممنوع فلا قبول لسلطة جسد القوي في مقابل جسد الضعيف مهما كان التبرير، لذا هاتفك المحمول الذي يُمسك خلسة منك، اجلس أمام طفلك ساعة وأنت تصر أن يعيد الهاتف لأنه لا يخصه ويخصك وعليه احترام هذا، لح ما تشاء لكن لا تجذب هاتفك من يده عنوّة، لو فعلت ستكسب هذه المرة وتخسر كل المرات القادمة، إن لم تفعل، كسبت المرة وكل المرات الأخرى.

أما الحرمان فدرجة عالية من الفِعل، استخدامها يعني فشلك فيما سبق، لذلك ينحصر استخدامها في الأقصى، وهو في الأعمار المتقدمة فقط، أربع سنوات فأكبر، طفلي لا يريد ترتيب لعبه بعد انتهائه من اللعب رغم كل ما سبق، إذا لن تلعب بهذه الألعاب غدًا، ابني يضرب أخاه الأصغر؛ إذا لن تلعب مع أخيك الأصغر. لاحظ أن الحرمان من جنس العمل، لا يجوز أن يرفض لمّلمة ألعابه بعد الانتهاء، فأمنعه من الذهاب للنادي، لا يجوز أن يضرب أخاه الأصغر فأحرمه من لقاء أصدقائه، الحرمان تقويم بالمنع عن الشيء المُرتكب لدفع الطفل لإدراك قيمته. وليس مقايضة شيء بشيء.

التجاهل فعل مُهم يستخدم في تصرفين متناقضين..

أتجاهل حينما يصر طفلي على شيء ممنوع يعرف أنه ممنوع وسبق وفسرنا له، لكنه يصر على المحاولة ربما لكسب خطوة زائدة في صالحه. افعل ما تشاء، ممنوع يعني ممنوع، أنا أحترم شخصيتك ورغباتك وأشياءك وعليك أن تعاملني بالمثل، لا محل للتنازل وسأتجاهل وسائل ضغطك لأنها ليست مقبولة، كما لا أريد الصدام معك كي لا أشتت تركيزك عن الفعل الممنوع لصالح التعليق على أسلوب تعبيرك السيئ.

كذلك في النقيض، (التغيرات الزائلة)، تلك التي ستمر مر الكرام بتجاهلها، كأن تفاجأ بطفلك -حتى عامين- يضربك أثناء الغضب، هو لا يعرف الضرب بعد وأنت لم تعلمه له، هذه حركة ستزول بعد يوم أو اثنين إن لم تتكئ عليها وتحاول تقويمها، كذا وضع إصبعه في فمه للمرة الأولى، إن حاولت نهيه بشكل مباشر، أبرزت له الفعل، وكذا يحاول الكثيرون ويجنون تحويل هذه التغيرات الزائلة لعادات تستمر، لكن التجاهل، ربما إزاحة يد الصغير كأن حركتك صدفة وكأنك غير منتبه له، وسيلة جيدة في تجاهل التغيرات الزائلة.


عندما يبكي طفلي، هل أتجاهل بكاءه أم أحتضنه؟

يتشوش الآباء في هذ االأمر، المنتسوري مثلا يقول باحتواء الطفل، بينما علم نفس الطفل يقول إن تجاهل بكاء الطفل يوصل له رسالة مفادها فشل وسيلته في الضغط عليك، فالبكاء ليس وسيلة مطروحة هنا ولا يجب اللجوء لها لأن لا نتيجة لها، فهل الرأيان متضادان؟

لا بالطبع هناك سوء فهم يتضح في الفارق بين بكاء الطفل كوسيلة ضغط على الأهل لتنفيذ رغباته، وبكاء الطفل لأنه في حاجة للمشاعر، التفرقة ليست صعبة، الأم تستطيع هذا بسهولة، متى يبكي طفلك لأنكِ قسوتِ عليه أو جرحتِ مشاعره أو انتقصتِ من حاجاته فيكِ، ومتى يبكي (باستعباط)؟!

الاحتياج النفسي للطمأنة والاحتواء هو ما يقصد المنتسوري فبالفعل 90%من حالات البكاء، تُحل بمجرد احتضان الطفل كما يقول، كذا لو كنتِ في يوم غير قادر على توليته الاهتمام الملائم لانشغال لديك فبدأ في نهج سلوك سيئ فحاولت منعه فبدأ في البكاء، التجاهل هنا ليس حلا سليما، عليك احتضانه وتطيب خاطره، وعلى العكس لو كان في (حالة طبيعية) وبدأ البكاء لأنك منعتيه عن شيء معروف ومتفق عليه، فالتجاهل هو الحل المثالي.


السؤال السادس: هل ابني متأخر في النمو أو الحديث؟

إجابه هذا السؤال في هذا المقال:3 مسارات تحدد تأخر طفلك: لا تصدر حكمك قبل معرفتها

واقرأ أيضا:أخطاء يومية تؤخر طفلك لغويًا: المشكلة والحل ووسائل التطوير


السؤال الأخير: طفلي يلتصق بي ويبكي كلما تركته ولو لدقائق، هل هناك حل؟

هذا السؤال كذلك إجابته في مقال كامل:تمارين الثقة أو كيف ينفصل طفلك عنك بهدوء

في النهاية.. هذه مفاتيح التربية وإجابات أشهر أسئلتها، عليك الآن فتح الأبواب بنفسك ورسم طريقك أنت وطفلك معًا، واعلم أن تربية الطفل تبدأ بتربية وتثقيف أنفسنا ربما قبل ميلاده بشهور أو سنين.