طائرة السادات تهبط عائدةً من واشنطن، وسيارات الشرطة تُقلع حاملةً آلاف المعتقلين. مصر كلها متهمة بمحاولة خلق فتنة طائفية. آلاف أسرت الدولة أجسادهم في المعتقلات، وملايين أسرت عقولهم عبر وسائل إعلامها. وحفلة عالمية لـخوليو اجلاسيس في 10 سبتمبر/ أيلول 1981 احتفت بها الصحف المصرية. خوليو المغني العالمي التي كانت تهواه جيهان السادات. كما أُقيمت في نفس الشهر بطولة العالم لكمال الأجسام  تحت سفح الأهرام وأُذيعت في العديد من دول العالم.

منصور حسن، وزير شئون الجمهورية ووزير الإعلام آنذاك، يشعر أن السادات يُدبر لشيء يجهله. ما يُدّبره السادات كان معلومًا لدى وزير الداخلية ورئيس المخابرات العامة. التقى بهما السادات في الساعات الأولى من شهر سبتمبر/أيلول 1981. حاول منصور حسن مقابلة السادات ليعرف ماذا يجري، لكن دون جدوى. بعد أن نفذ الثلاثة حملتهم التي دبروا لها، اعترض منصور، فأخرجه السادات من وزارته وعينه وكيلًا لمجلس الشعب.

لم يحتمل السادات أن يسمع صوت وزيره المُقرب، فلم يكن صوت في هذا الشهر يعلو على صوت السادات، إلا صوت طرق أمن الدولة على الأبواب. أبواب يسكن خلفها معارضون ومؤيدون، لا تفسير لدى المعتقلين عن أسباب اعتقالهم ولا توضيح للإعلام كذلك. حملة بدأت في 3 سبتمبر/ أيلول 1981 واستمرت على أشدها حتى الخامس من نفس الشهر.

وقع أكثر من 3000 فرد ضحيةً لتلك الحملة، 1536 منهم اعتقلوا في الأيام الثلاثة الأولى. سكنوا جميعًا زنازين متشابهة لا فرق بين أستاذ جامعي وطالب ناشئ. الفرق كان في طريقة إحضارهم للمُعتقل. الطلاب والأعضاء الصغار في الجماعات الدينية اعتقلتهم قوات أمن بسيطة، أما كبار الساسة والمثقفين وقيادات الجماعات الدينية والمسيحية فكانت عمليات اعتقالهم أقرب للعمليات العسكرية.

ثم في 6 سبتمبر/أيلول 1981 خرجت الصحف القومية بحل اللغز. السر الخطير الذي دفع السادات للقيام بحملته. ثورة العمل الداخلي، كما سمتها الأهرام. أو قرارات ضرب الفتنة، كما قالت عنها الأخبار. واتفقت جميع الصحف أن حملة الاعتقالات هذه حدث تاريخي يصحح به السادات الأوضاع الجمهورية في البلاد. الصحف الحزبية والمعارضة لم تشارك في حملة كشف السر لأنها كانت قد أُغلقت تمامًا أو عُطلت بحلول وقت خطاب السادات في الجلسة المشتركة لمجلسي الشعب والشورى في الخامس من سبتمبر/ أيلول. الخطاب الذي استلهمت منه الصحف عناوينها، وانطلق من خلاله كبار الكُتّاب الذين ظلوا خارج المعتقل في التبرير لما قام به الرئيس.

بيان السادات

خطاب السادات سبتمبر 1981

بلكنة السادات الهادئة وقف أمام الأمة المصرية يروي لهم قصةً عن فتنة كانت تُحاك للدولة. فئات مخربة كانت تسعى لخلق فتنة طائفية بين المصريين. عبر وسائل نفسية ومادية كانت تلك الجماعات تحاول إعاقة مسيرة التنمية والازدهار والديموقراطية. أضاف السادات أن الحكومة حاولت ثنيهم عن اتجاههم بالنُصح والإرشاد مرة. وأردف أن الدولة اتخذت الإجراءات العادية مرات معهم لكنها لم تُجد.

ثم ذكر أحداث الزاوية الحمراء التي حدثت في يونيو/حزيران 1981. الأحداث التي أدت إلى مقتل 17 قتيلًا و112 مصابًا بينهم ضابطان وثلاثة جنود بسبب شجار بين أسرة مسلمة وأخرى مسيحية بسبب سقوط مياه غسيل قذرة من شرفة أحدهما على الآخر، كما قال السادات في بيانه. تلك المشاجرة جاءت بعد رفض حي القاهرة إقامة مصلى للعاملين في مصنع العلف التابع للمؤسسة المصرية العامة. وأكّد أن تلك الأحداث التي تحولت من أحداث فردية إلى فتنة طائفية هي التي استدعت ردًا مختلفًا هذه المرة.

الغطاء الدستوري لحملة الاعتقالات الشرسة كان مكنون المادة 73 وصلاحيات رئيس الجمهورية في المادة 74 من الدستور المصري. تمنح المادتان رئيس الجمهورية الحق في اتخاذ ما يراه مناسبًا من إجراءات سريعة وحاسمة إذا طرأ ما يهدد الوحدة الوطنية وسلامة الوطن ويعيق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري. كذلك تنص المادتان على ضرورة قيام رئيس الجمهورية بتوجيه بيان للشعب عما اتخذه من إجراءات، ثم يجري استفتاءً شعبيًا على ما قام خلال ستين يومًا.

أعلن عن توقيف ما يزيد على 1500 فرد. يمكن تقسيمهم وفق بيان السادات الرسمي إلى 469 ينتمون إلى جماعة التكفير والهجرة. و235 بتهمة الانضمام إلى جماعات إسلامية. و100 بتهمة التطرف الديني من إخوان مسلمين وأعضاء جمعيات دينية إسلامية وأئمة مساجد متطرفين. و259 مسلمين ومسيحيين تحت مسمى مثيري شغب وتعصب واعتداءات متبادلة، أما القيادات المسيحية فاعتقل منهم 107 بتهمة التعصب والتطرف. و240 مثير شغب ومجرمًا من أصحاب السوابق الجنائية.

النصيب الأقل كان للمتهمين فعليًا بحادثة الزاوية الحمراء وعددهم 57، إلى جوارهم اعتُقل 36 من الأحزاب المعارضة، لكن السادات استخدام كلمة المناهضة لا المعارضة، ينقسمون إلى 16 من حزب التجمع، 7 من حزب العمل، 3 من حزب الوفد. وخُتمت القائمة بـ 12 فردًا اعتُقلوا بتهمة التخابر مع السوفييت.

الهلال مع الصليب في المعتقل

حلقة تسلط الضوء على كتاب خريف الغضب الذي يتحدث فيه هيكل عن فترة حكم السادات والأسباب التي أدت لاغتياله.

أصدر السادت في بيانه عددًا من القرارات لا تقل خطورة عن حملة الاعتقالات. أولها، حظر استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية أو حزبية، وأردف بكلمات بطيئة مؤثرة: «لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين». بعدها أشار ببيان يحوي أسماء المعتقلين. لم يعتقل السادات أشخاصًا فحسب، بل اعتقل مؤسسات وهيئات أيضًا، وأعلن تحفظه على أموال جماعات وجمعيات ومنظمات بنفس التهم التي اعتُقل الأفراد بسببها. وحلّ في كلمات بسيطة العديد من الجمعيات المَشهرة والرسمية، كما ألغى التراخيص الممنوحة للعديد من الصحف والمطبوعات، وصادر مقارها وأموالها.

أساتذة الجامعات وأعضاء هيئة التدريس لم يغيبوا عن قرارات السادات. طالهم البيان بقرار نقل كل من وُجدت دلائل تشير إلى أنه ساهم في تكوين الرأي العام، أو تربية الشباب ذوي الفكر المناهض للدولة. وبنفس التهمة أيضًا أصدر قراره بنقل بعض الصحفيين والعاملين في الصحف القومية واتحاد الإذاعة والتلفزيون والمجلس الأعلى للثقافة.

الوحدة الوطنية كانت حاضرةً في خطاب السادات بقوة سواء في كلماته أو في قراراته. فبين كل الفئات المعتقلة وُجد مسيحيون ومسلمون. ومن بين القرارات الأخرى صدر قرار بإعفاء الأنبا شنودة، بابا الإسكندرية  وبطريرك الكرازة المرقسية، من منصبه. لم يُعقب السادات كثيرًا حول دوافع هذا القرار، لكنه أعلن تشكيل لجنة للقيام بالمهام الباباوية مكونة من 5 أساقفة.

بعد ذكر أسماء الخمسة، قال الرئيس إن قراره جاء بعد استشارة المخلصين للوطن وللكنيسة. وحث اللجنة على سرعة معالجة الشعور العام في الداخل والخارج لكسر التعصب والكراهية وبث روح التسامح. وكلّفهم بالتقدم للحكومة بكل الاقتراحات التي من شأنها أن تُعيد الكنيسة إلى وضعها، الذي وصفه السادات بالتقليدي، كنسيج حي في جسم الدولة.

لكن في خطابٍ لاحق يوم 9 سبتمبر/ أيلول حاول الرئيس شرح موقفه أكثر. قال إن شنودة سيظل هو البابا حتى يموت، لكن مزاولة البابا لعمله تصدر بقرار جمهوري. ويمكن أن توجد لجنة مكونة من عدد من الأساقفة تزاول العمل بدلًا من البابا، وهو الاختيار الذي لجأ له السادات. لكنّه في بيانه شن هجومًا لاذعًا ومباشرًا على الرجل. فقال إنه لم يضر أحد الأقباط مثلما ضرهم الأنبا شنودة، لم يكن السادات يناديه بالبابا. وأن السادات يفضل أن يبقى الرجل في ديره متفرغًا لعبادته ليحاول السادات إصلاح ما أفسده. كما رماه بسوء النية ومحاولة شحن المسلمين عبر بناء الكنائس.

الأحزاب تركب موجة الاعتقالات

الأنبا بنيامين يحكي ذكريات فترة اعتقاله. وكواليس ما دار مع البابا شنودة في تلك الفترة.

ميلاد حنا، المفكر السياسي، كان من بين المعتقلين. بجانب عددٍ يُقارب 152 معتقلًا قبطيًا من بين 1536 الذين أعلنهم السادات رسميًا. كان السادات يكره استخدام شعار الهلال مع الصليب لأنه يرى في ذلك اعترافًا أن المصريين مختلفون، بل إنهم جميعًا نسيج واحد من البداية يضمهم شعار واحد فقط وليس علمًا يحوي رمزين. لذا لم يكن السادات يجد صعوبةً في الانتقال من رمي رجل مسيحي بالاتهامات إلى رمي مسلم بنفس الاتهامات. فكان يتقافز برشاقة وهو يتحدث عن محمد حسنين هيكل، أحد أبرز معتقلي سبتمبر/ أيلول.

السادت ذكر أكثر من مرة أن علاقة هيكل بالرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران لا تعطيه حصانة. وأن علاقته بالصحف الأجنبية لا تعني أنه لن يُساءل على ما يفعل. بل حرص السادات أن يفرض رقابة صارمة على كل ما يكتب هيكل. معظم أسئلة الصحفيين الأجانب المتابعين للأحداث كانت عن هيكل وما يجري معه في المعتقل. لذا انبرت الصحف القومية في مهاجمة هيكل بكل قوتها. ويروي هيكل ما حدث معه وما عرفه عن اعتقالات سبتمبر/ أيلول في كتاب خريف الغضب.

في عددها الصادر صباح 4 سبتمبر/أيلول أعلنت الأهرام عن اعتقال 553 مُحرضًا على الفتنة الطائفية. أغلبهم من الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية في مقدمتهم مرشد الإخوان آنذاك، عمر التلمساني. وركز السادات في خطابه على الإخوان قائلًا بأنّه تفضل عليهم حين وصل إلى الحكم بإخراجهم من السجون وإعادتهم إلى وظائفهم ومنحهم فرق الرواتب عن فترة اعتقالهم. لكنه أردف بأنّه من الواضح أن الجماعة لم تنس ثأرها مع ثورة 23 يوليو/تموز 1952.

كأن السادات كان يتوقع من الجماعة الاعتراف بالجميل ومناصرة السادات بصورة شخصية مهما كانت أفعاله. لكن يبدو أن العكس هو الصحيح، فالسادات كان له ثأر مع التلمساني. إذ ردّ عليه التلمساني بقوله إنّا نشكوك إلى أحكم الحاكمين حين غمره السادات بسيل من الانتقادات والاتهامات في لقاء جمعهما في الإسماعيلية عام 1979.

عبدالمنعم أبو الفتوح، عصام العريان، أبوالعلا ماضي كانوا من أوائل من فُتحت لهم الزنازين في سبتمبر/أيلول. يقول أبو الفتوح في شهادته على الأحداث إنّ سجنهم كان سجنًا حديثًا بناه السادات متأثرًا بالذوق الأمريكي. كما يقول إنّه كان قبلها بأيام في إيطاليا وأبلغه أحد الدبلوماسيين المصريين في سفارة روما أن السادات سيتخذ إجراءات ضد المعارضة في خطابٍ سيلقيه 5 سبتمبر/أيلول. لكن رغم ذلك قرر أبو الفتوح أن يعود إلى مصر. الدكتور حلمي مراد، نائب رئيس حزب العمل والسياسي المُخضرم، كان رفيق أبو الفتوح في زنزانته.

ولأن عددًا مؤثرًا من المعتقلين لم يكونوا إسلامي التوجه، فوضعت الجريدة سطرًا يقول: «إن قلة حزبية ركبت موجة الفتنة الطائفية». من بين المعتقلين كان الدكتور: عبدالعظيم أبو العطا، وزير الزراعة في حكومة السادات. اُعتقل أبوالعطا لخلافات سياسيّة بينه وبين السادات وبقي في المعتقل حتى مات فيه. إضافةً إلى الدكتورة أمينة رشيد، أستاذة الأدب الفرنسي في جامعة القاهرة وصاحبة التوجه الماركسي. ومصطفى بكري رئيس تحرير جريدة الأسبوع، وحمدين صباحي رئيس تحرير جريدة الكرامة، لاعتراضهما على معاهدة كامب ديفيد.

الانفجار الكبير

السبب المُعلن في الاعتقالات كان دينيًا لذا لا بد أن نسعى لمعرفة كيف تفاعلت الجهات الدينية في مصر. الخميس 10 سبتمبر/أيلول 1981 نُشرت كلمة لمفتي الجمهورية جاد الحق علي جاد الحق يتمنى أن يكون ما قام به السادات عبرة وحماية ووقاية من الفتن. أما زكريا البري، وزير الأوقاف، فصرّح لجريدة المصور بأن معظم الأئمة الذين تم التحفظ عليهم هم من أئمة المساجد الأهلية غير التابعة للأوقاف. وأكدّ أن الشيوعية لم تخرج من مصر، بل حاولت التنكر في زي الإسلام وإثارة فتن مُتعمدة. أما الأزهر فقد نشرت الصحف عن أسماء مُتعددة من رجالاته قولهم إن قرارات السادات كان لا بد منها لحماية الوحدة الوطنية.

الجميع يجب أن يدعم السادات، من يتساءل فقط تزوره قوات أمن الدولة فورًا. حصار فرضه السادات على الدولة بكاملها لا المعارضة فحسب. معادلة صفرية وضع السادات مصر فيها، وانسدادٌ متكامل للأفق السياسي، كأنما دخلت الدولة بكامل قواها نفقًا مظلمًا لا ترى فيه شيئًا. لم تكن المعادلة لتُحل، ولم يكن ليظهر ضوء في آخر النفق، إلا بحل شديد التطرف. إذ أن الحصار الذي فُرض في سبتمبر/أيلول كانت لا عودة منه، ولا يمكن أن يخرج طرفاه بحل وسط. إما تُسحق المعارضة للأبد أو يختفي السادات للأبد. لا يمكن الجزم أن اغتيال السادات كان ناتجًا مباشرًا لاعتقالات سبتمبر/أيلول 1981، لكن لا يمكن نفي الأمر كذلك.

وًفق المادة 74 التي ذكرها السادات كان يجب عليه أن يُجري استفتاءً شعبيًا على ما اتخذه من إجراءات استثنائية خلال 60 يومًا. لتكون نهاية الاعتقالات إما برفض شعبي فيخرج المعتقلون بعد أن أراهم السادات قوته، أو يظلوا في المعتقلات بمباركةٍ شعبية، لكن التاريخ وضع خاتمة مختلفةً لاعتقالات سبتمبر/أيلول. خروج بعفو رئاسي من الرئيس الجديد محمد حسني مبارك الذي وصل للحكم بعد اغتيال سلفه محمد أنور السادات.