كنّا قد وقفنا في مقالنا السابق عن أهمية الرحلة في طلب العلم في ظل الحضارة الإسلامية، ورأينا أنها سمة عامة لم تنقطع حتى انقطعت أواصر المسلمين بتقسيمهم الجغرافي والديمغرافي والسياسي.

في هذا المقال نستكمل حديثنا مع 3 رجال من رجالات الأندلس والمغرب ممن خرجوا من ديارهم عشقًا للمشرق، وطلبًا للعلم، ونيلًا للأجر. وفي قصة كل منهم ما يكشف تفاصيل الحياة المشرقية، وانكباب هؤلاء الطلبة على العلم، وسعيهم الحثيث لنيله دون فتور أو كسل. وهي حياة قلّما نراها في صفحات التاريخ السياسي والعسكري حيث القصور والحاشية والبلاط والقوة والبطش والسلطان!

قال العلامة «ابن العربي»: سمعتُ «الحافظ أبا بكر الطرطوشي» يقول:

لم أرحل من الأندلس حتى تفقهتُ ولزمت «الباجي» (علّامة الفقه في الأندلس) مُدّة، فلما وصلتُ إلى بغداد دخلت المدرسة العادلية فسمعتُ المدرسَ يقول: مسألة إذا تعارض أصل وظاهر فأيها يحكم؟ فما علمتُ ما يقولُ، ولا دريتُ إلى ما يشير حتى فتح الله وبلغ بي ما بلغ….. واشتمل أهل الإسكندرية على «الحافظ أبي بكر الطرطوشي»، وقعد للتدريس، ونفع الله به كل من قرأ عليه وانتشر علمه.
أخبرني شيخي «أبي بكر المفضل عبد المجيد»، بن دليل قال:
كنتُ أبيتُ أكثر الليالي بمدرسة «الحافظ أبي بكر» فسمعتُه ذات ليلة قد قام إلى ورده على عادته، وافتتح من «سورة الصافات» حتى بلغ إلى قوله تعالى {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ[1]{ ولم يزل يردد هذه الآية ويبكي إلى أن طلع الفجر. ولقد أخبرني أنه رآه في اليوم الذي توفي فيه وعليه فروته التي ساقها معه من طَرطُوشة[2]. كانت وفاته في سنة 520 هـ.

روى عنه جماعة من الحفاظ منهم: «الحافظ أبو بكر بن العربي، وأبو علي الصدفي، وأبو الطاهر بن عوف»، وغيرهم. وتواليفه كثيرة منها «التعليقة في الخلافيات» في 5 أسفار. وله كتاب يعارض به كتاب «الأحياء» رأيتُ منه قطعة يسيرة. وألّف «سراج الملوك» في مجلس كان بينه وبين صاحب مصر يطول ذكره. وكان أوحد زمانه علمًا وورعًا وزهدًا لم يتشبث من الدنيا بشيء، إلى أن توفي وصُليّ عليه.[3]

وثمة قصص مشابهة لقصة «الطرطوشي الأندلسي» الذي رحل من الأندلس إلى المشرق واستوطنها، لكن هناك من رحل من القيروان إلى المشرق، ثم رجع للقيروان، ثم رجع للمشرق مرة أخرى، ثم استقر به الحال في الأندلس. وقصة هذا الراحل الذي لم يستقر إلا في أخريات عمره في قرطبة؛ هي نموذج لحالة طالب العلم الذي عانى في طلبه هذا، حتى أصبح من أكابر علماء عصره في مجال تخصصه.

هذا الرجل هو «مكي بن أبي طالب بن مختار المقرئ» (ت 437هـ). ذكر حكايته «ابن بشكوال» في كتابه «الصلة» بقوله:

“قال صاحبه «أبو عمر أحمد بن محمد بن مهدي المقرئ»: كان من أهل التبحر في علوم القرآن والعربية، حسن الفهم والخلق، جيد الدين والعقل، كثير التأليف في علوم القرآن، محسنًا لذلك، مجودًا للقراءات السبع، عالمًا بمعانيها.

ولد «لتسع بقين من شعبان» سنة 355 هـ، وكان مولده بالقيروان. ثم أخبرني أنه سافر إلى مصر وهو من 13 سنة في سنة 368 هـ، واختلف[4]بمصر إلى المؤدبين في الحساب، ثم رجع إلى القيروان وكان إكماله لاستظهار القرآن بعد خروجه من الحساب وغيره من الآداب في سنة 374 هـ، وأكمل القراءات سنة 76.

ثم نهض إلى مصر ثانية بعد إكماله القراءات بالقيروان في سنة 377 هـ. حجّ تلك السنة حجة الفريضة عن نفسه، ثم ابتدأ بالقراءات على «أبي الطيب» في أول سنة 78 هـ، فقرأ عليه بقية سنة 8، وبعض سنة 9، ورجع إلى القيروان وقد بقي عليه بعض القراءات.

ثم عاد إلى مصر ثالثة في سنة 82، فاستكمل ما بقي عليه في سنة 2 وبعض سنة 3. ثم عاد إلى القيروان في سنة 83 وأقام بها يقرئ إلى سنة 87، ثم خرج إلى مكة فأقام بها إلى آخر سنة 90، وحج 4 حجج متوالية نوافل. ثم قدم من مكة سنة 91 إلى مصر، ثم قدم من مصر إلى القيروان في سنة 2، ثم قدم إلى الأندلس في رجب سنة 93. ثم جلس للإقراء بجامع قرطبة فانتفع على يديه جماعات، وجوّدوا القرآن، وعظم اسمه في البلدة وجل فيها قدره.

وقد نزل «أبو محمد مكي بن أبي طالب المقرئ» أول قدومه قرطبة في مسجد «النخيلة» في الرقاقين عند باب العطارين فأقرأ به، ثم نقله «المظفر عبد الملك بن أبي عامر»[5]إلى جامع «الزاهرة» وأقرأ فيه حتى انصرمت دولة «آل عامر».

فنقله «محمد بن هشام المهدي» إلى المسجد الجامع بقرطبة، وأقرأ فيه مدة الفتنة كلها إلى أن قلده «أبو الحزم بن جهور» الصلاة والخطبة بالمسجد الجامع بعد وفاة «القاضي يونس بن عبد الله». وكان قبل ذلك يستخلفه «القاضي يونس» على الخطبة، وكان ضعيفًا عليها على أدبه وفهمه.

وبقي خطيبًا إلى أن مات رحمه الله. وكان خيِّرا فاضلا، متواضعًا، متدينًا، مشهورًا بالصلاح وإجابة الدعوة. من ذلك ما حكاه عنه «أبو عبد الله الطرفي المقرئ» قال:

كان عندنا بقرطبة رجلٌ فيه بعض الحدة، وكان له على الشيخ «أبي محمد مكي المقرئ» تسلط. كان يدنو منه إذا خطب فيغمزه، ويحصي عليه سقطاته. وكان الشيخ كثيرًا ما يتلعثم ويتوقف. فجاء ذلك الرجل في بعض الجُمَع وجعل يحدُّ النظر إلى الشيخ ويغمزه. فلما خرج ونزل معنا في موضعه الذي كان يقرأ فيه قال لنا: أمنوا على دعائي. ثم رفع يديه وقال: اللهم اكفينه، اللهم اكفينه، اللهم اكفينه فأمنّا. قال: فأُقعِد ذلك الرجل وما دخل الجامع بعد ذلك اليوم.[6]

فهذا «المقرئ» الذي رحل إلى مصر 3 مرات متتاليات في أعوام مختلفة ليكمل دراسته، وحفظه لكتاب الله، ويتعلم القراءات على كبار أهلها، ثم انتقاله لمكة المكرمة ومكوثه فيها لـ5 أعوام يُدلل بلا ريب على أن الرحلة لطلب العلم؛ كانت جزءًا أصيلًا من الحياة الفكرية والعلمية، ثم التربوية التي هي جماع ذلك كله.

لقد كان الشوق للمشرق، والتعلم على أيدي علمائه الأجلاء حلمًا يرواد جُل الأندلسيين والمغاربة، ولنا مع «الحافظ الأندلسي أبي الحسن بن مؤمن» (ت597هـ) أبرز المثل على ذلك، فهو يعبّر عن حبه لشيخه بهذه القصيدة التي نظمها قبل أن يلقاه. قال «أبو الحسن علي بن مؤمن»:

لما اجتمعتُ بـ«الحافظ أبي الطاهر السلفي»[7] ودخلتُ إليه في منزله أكرمني وأبدى لي مبرة وإقبالا، وأثنى على أهل الأندلس خيرًا. ثم سألني عن حوائجي، فذكرتُ له مقاصدي، وإن جُلّ قصدي بتلك البلاد لُقياهُ والأخذ عنه، فأنعم بذلك ووعدني بكل خير؛ ثم أنشدته أبيات كنتُ رويتها وأنا بالبحر في مدحه وهي هذه:

ظمئتُ فهل لي في مواردِكُم رِيُّ

وهل لي في أكناف عزّكم فَيُّ

وقد طُفْتُ في الآفاقِ على أَنْ أَرَى

بِهَا أَحَدًا والحيُّ ما إِنْ بهِ حَيُّ

قصدتُ إليكم مِنْ بِلادٍ بَعِيدةٍ

وأنصب جِسْمي بالسّرى نحوكم طَيُّ

لعلّك تَجْلُو عن فُؤَادِي صَدَاءَهُ

فقد مدّ إطنابًا به الجهلُ والعِيُّ

وَتَقْبسني كفّاكَ مِنْ شَرعِ أَحْمَد

كواكبٌ أبدتها خُراسانُ والرِّيُ

وحَاشَاكُم من أن يضيعَ لديكُمُ

رَجَائِي أو يَخْشَى عَلَى حَاجَتِي لَيُّ

أَبَا طاهر أَحْرَزتَ دِينَ محمدٍ

ونَاهِيكَ فَخْرًا لا يُمَاثِلُه شَي

فأَوْضحتَ مِنْ عِلمِ الحديثِ مَعَالمًا

وبيّنت مَوْقُوفًا وما هُو مَرويُّ

وعَلَّمْتَنَا نَقْدَ الرِّجَالِ وميْزَهُم

وَمنْ كَانَ ذا جَرحٍ وَمَنْ هُوَ مَرضيُّ

وَمِنْ أَجْلِ حفْظِ الدّينِ سُمّيتَ حَافِظَا

فَلا زِلتَ مَحْفُوظا وَقَدرُكَ مَرعِيُّ

فزاد من إكرامي وبِرّي؛ لأنه كان كثير الاهتزاز للشعر”[8].

المراجع
  1. القرآن الكريم، سورة الصافات – الآية 24
  2. هي مدينة تقع شمال شرق الأندلس على البحر المتوسط، وهي قريبة من مدينة بلنسية، سقطت في يد نصارى إسبانيا سنة 543هــ
  3. ابن عميرة الضبي: بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس1/ 178، 179.
  4. أي أكثر التعلم والرحال إلى المعلمين.
  5. ثاني أمراء الأندلس من الأسرة العامرية. كان في أيام أبيه «المنصور» ينوب عنه في الحجابة للمؤيد الأموي «هشام بن الحكم» بقرطبة. ثم كان مع أبيه في غزوته التي مات بها في مدينة سالم. ولما شعر أبوه بدنو أجله، رده إلى قرطبة وأوصاه بضبطها. فأسرع إليها وجاءه نعي أبيه، فدخل على المؤيد، فأخبره، فخلع عليه وكتب له بولاية الحجابة مكان أيبه (سنة 392 هـ) فقام بأمور الدولة كبيرها وصغيرها، وأسقط عن البلاد سدس الجباية، وتلقب بسيف الدولة «الملك المظفر بالله»، توفي سنة 399هـ.
  6. ابن بشكوال: الصلة ص910، 911.
  7. أحد أعلام الحديث النبوي الشريف في القرن الـ6 الهجري، جاءه «صلاح الدين الأيوبي» وتعلم على يديه وسمع منه وهو سلطان مصر، توفي سنة 576هـ.
  8. ابن عبد الملك: الذيل والتكملة 1/ 262، 263.