كدأب أقرانهم في المشرق، أصر المغاربة والأندلسيون على ضرورة الرحلة في طلب العلم. وهو الميسم الذي اتصفت به الحضارة الإسلامية، والدولة الإسلامية كذلك. إذ لم تكن الحدود معروفة تمزق الناس كما هي اليوم، لذا كان الانطلاق صوب الأحلام أمرًا ميسورًا لا تعقّده تكاليف “التأشيرة” ومشاقّها، فضلاً عن توفر المال لهؤلاء الطلبة في كافة أصقاع العالم الإسلامي شرقًا وغربًا، من خلال النظام الوقفي العبقري، الذي أتاح للأمة أن تصنع بيديها ما هو صالح لها ولأبنائها.

ونظرًا لتفرق أصحاب النبي ﷺ في الأمصار والبلدان المختلفة، صار الارتحال إليهم طلبًا لحديث رسول الله أمرًا لا فكاك منه. فتوالت الطبقات خلف الطبقات ترتحل من أقصى البلدان لأقصاها طلبًا لحديث، أو معرفة لحال راوٍ. ثم تطورت العلوم وصنّفت، وشرع الناس وطلبة العلم في توسيع آفاق الرحلة، وعلى رأسها طلب الإجازات – وهي بمثابة الشهادات العليا اليوم – من مشاهير العلماء شرقًا وغربًا.

وشرع هؤلاء الطلاب يدوّنون مشيخاتهم والعلماء الذين نهلوا على أيديهم من خلال مؤلفات «الفهارس، والبرامج،ومعاجم الشيوخ». ولأهمية هذه الرحلات العلمية المتخصصة، أُلّفت الدراسات المتخصصة في أهمية هذا الشأن والحض عليه.

فمنذ العلامة المؤرخ والمحدّث «الخطيب البغدادي» (ت463هـ/ 1072م) الذي صنف كتابًا أسماه «الرحلة في طلب الحديث» بتحقيق الشيخ المحدّث الدكتور «نور الدين عتر» الذي شحن فيه كل ما سمعه، ونقله بسنده عن أهمية وضرورة هذه الرحلة.

وحتى العلامة «القنّوجي» (ت1307هـ/ 1890م) في «أبجد العلوم»؛ لم يخل قطر من الأقطار الإسلامية من مؤلف يؤكد ويحض طلبة العلم على الانطلاق في الآفاق لأخذ علومهم ومعارفهم، حتى صارت ثقافة الطالب، ومُكنته ومكانته تُقاس بعدد من أخذ على أيديهم، والتقى بهم.

رأينا في هذا عجبًا، فمثل العلامة «شمس الدين الذهبي» (ت748هـ) كان له أكثر من 1000 شيخ أخذ على أيديهم، وجمع تراجمهم ولقاءاته معهم في معجمه المعروف، بتحقيق العلامة «بشار عواد معروف».

لقد كانت هذه الرحلات غالبًا ما تكون بهدف الحج، ثم التفرغ للعلم أثناء وبعد الرحلة في بلاد المشرق. فطالب العلم الأندلسي والمغربي غالبًا ما كان يسلك طريقين:

إما طريق البحر الذي يأخذه من أحد موانئ الأندلس الجنوبية، أو المغرب، فيبحر في البحر المتوسط حتى ينزل إلى الإسكندرية، وبعدها القاهرة، ثم يركب النيل حتى يصل إلى ميناء «عيذاب» المصري على البحر الأحمر، فيعدو الناحية الأخرى ليصل إلى مدينة جدة، ومن ثم مكة المكرمة، ثم ينتقل شمالاً ناحية المدينة المنورة، ثم يتجه لبلاد العراق أو الشام، أو فارس، أو خراسان حسب رأيه وغايته وهدفه.

بذلك يكون قد أدّى حجه وتفرغ لاستكمال مسيرته العلمية. وهذا الطريق سار فيه الرحالة الأندلسي المعروف «ابن جبير البلنسي» (ت614هـ) وغيره كثير. وإما طريق البر فينتقل من الأندلس إلى المغرب، إلى تلمسان والجزائر إلى بجاية والقيروان وقابس والمهدية، ثم طرابلس ثم الإسكندرية، ثم القاهرة، ثم غزة، فبيت المقدس، فدمشق إن تسنّى له زيارتها، ثم يُعرّج جنوبًا إلى المدينة المنورة، ثم مكة المكرمة؛ وهذا الطريق سار فيه الرحالة «ابن رشيد السبتي» (ت721هـ) وغيره كثير.

وفي كل مدينة من هذه المدن نجد طالب العلم المغربي والأندلسي حريصًا على الأخذ من كبار علماء هذه المدينة ذهابًا وإيابًا. ولا نستغرب إن علمنا أن رحلات علمهم كانت تمتد إلى بضع سنوات. وتراجم الأندلسيين والمغاربة مليئة بأمثلة هؤلاء الذين أنستهم حلاوة العلم، وطلبه الغربةَ عن الأهل والديار والأصحاب.

تأتي أهمية طلب العلم والارتحال إليه لاسيما إلى بلاد المشرق في مصر والشام، والحجاز والعراق واليمن، في بعض الأحيان إلى الثقافة والعلم الغزير الذي تمتع به المشارقة.

لقد رأى المغاربة والأندلسيون أن المشرق مهبط الوحي، ومنزل العلم، وموطن السادات من العلماء. وهذا الرأي لا مشاحة فيه. فهذا العلامة الأندلسي «أبو بكر الطرطوشي» (ت525هـ) يترك بلاده في الأندلس ليستقر به المقام في المشرق؛ خاصة مدينة الإسكندرية المصرية لأنه رأى أن العلم في المشرق أعظم وأرقى بكثير من المغرب والأندلس.

يحكي عنه «الحافظ أبي بكر بن العربي» (ت543هـ) أنه سمعه “يقول:

لم أرحل من الأندلس حتى تفقهتُ ولزمتُ «أبو الوليد الباجي» مدةً. فلما وصلتُ إلى بغداد دخلتُ المدرسة العادلية، فسمعتُ المدرس يقول: مسألةٌ إذا تعارض أصل وظاهر فأيها يحكم؟ فما علمتُ ما يقولُ ولا دريتُ إلى ما يشير حتى فتح الله، وبلغ بي ما بلغ[1].

ويتضح من هذا النظام التعليمي في المشرق؛ أنه كان متقدمًا عن مثيله في المغرب والأندلس في القرن الـ5 الهجري كما يُقرر «الطرطوشي» -رحمه الله- رغم كونه صحب علامة الفقه في الأندلس «أبو الوليد الباجي» (ت474هـ)!!

ولذلك حرص علماء وفقهاء المغرب على تدوين هذه الملاحظات التي تحضُّ على الرحلة والتعلم على العلماء الراسخين، فنجد العلامة «أبا إسحاق الشاطبي» (ت790هـ) يقول:

إنَّ من أمارات العالم.. أن يكون ممَّن ربَّاه الشُّيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم وملازمته لهم، فهو الجدير بأن يتَّصف بما اتَّصفوا به من ذلك. وهكذا كان شأن السَّلف الصَّالح، فأوَّل ذلك ملازمة الصَّحابة رضي الله عنهم لرسول الله ﷺ، وصار ذلك أصلاً لمن بعدهم، فالتزم التَّابعون في الصَّحابة سيرتهم مع النَّبي حتَّى فقهوا، وحسبك من صحَّة هذه القاعدة أنَّك لا تجد عالمًا أشتهر في النَّاس الأخذ عنه، إلاّ وله قدوةٌ اشتهر في قرنه بمثل ذلك…[2]

ولم يكن هذا الأمر ليفوت على العلامة «ابن خلدون» (ت808هـ)؛ فقد دوّن هذه الملاحظة القيمة في مقدمته الرائعة بقوله؛ إن الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيدُ كمال في التعلم. والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل تارةً علمًا وتعليمًا وإلقاءً، وتارة محاكاة وتلقينًا بالمباشرة، إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشدُّ استحكامًا وأقوى رسوخًا.

فعلى قدر كثرةِ الشيوخ يكونُ حصولُ الملكات ورسوخها، والاصطلاحات أيضًا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم، حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم، ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين. فلقاء أهل العلوم وتعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طُرقهم فيها فيجرد العلم عنها.

ويعلم أنها أنحاء تعليم، وطرق توصل، وتنهضُ قواه إلى الرّسوخ والاستحكام في المكان، وتصحح معارفه وتميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم. وهذا لمن يسر الله عليه طرق العلم والهداية، فالرحلة لا بد منها في طلب العلم؛ لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال.[3]

ومن ثم كانت رحلة الحج –كما ذكرنا- التي يقوم بها المغاربة والأندلسيون بمثابة رحلة العمر والعلم للكثرة منهم. ولم يكن ثمة وقت مخصص لهذه الرحلة. فمنهم من قضى 3 أعوام مثل «ابن جبير» مثلاً، ومنهم من قضى 13 عامًا مثل «أبي الوليد الباجي» ينهل العلم من علمائه وشيوخه.

ومنهم من قضى عمره كله في المشرق مثل «أبي الفضل المُرسي محمد بن عبد الله» (ت655هـ). قال عنه «ابن الدمياطي» نقلاً عن «ابن النجار، وابن الدبيثي»، في ترجمة تثير كوامن الاحترام والتقدير لرجل جاب المغرب والمشرق:

«محمد بن عبد الله بن محمد» من أهل مُرسية من بلاد الأندلس، قدم علينا بغداد شابًا طالبًا للعلم قافلاً من مكة سنة 605 هـ، وأقام يسمع من شيوخنا الحديث، ويقرأ الفقه والخلاف والأصلين بالمدرسة النظامية. ثم إنه سافر إلى خراسان وسمع بنيسابور وهراة.

وحدّث ببغداد بكتاب «السنن» لـ«أبي بكر البيهقي» عن «منصور بن عبد المنعم الفراوي». وكان من الأئمة الفضلاء في جميع فنون علم الحديث، وعلوم القرآن، والفقه، والخلاف والأصلين، والنحو واللغة، وله قريحة حسنة، وفهم ثاقب، وتدقيق في المعاني، وله مصنفات في جميع ما ذكرناه من العلوم.

وهو مشتغل بذلك في جميع أوقاته. وله النظم والنثر المليح، ومع ذلك فهو زاهد متورع. حسن الطريقة، متدين، كثير العبادة، متعفف، نزه النفس، قليل المخالطة للناس، ما رأيت في فنه مثله[4]

وثمة رحلات كثيرة أخرى لأهل المغرب والأندلس؛ نجدهم فيها لا يمرون على بلد إلا وينهلون من علم أبنائه مثل «ابن جبير، والعبدري، وابن بطوطة، وابن رشيد السبتي، والعياشي» وغيرهم آلاف آخرين.

ولكن بحسبنا أن نقف مع واحد أو اثنين من هؤلاء الذين أثّرت الرحلة العلمية في مستواهم العلمي والتربوي. الأول هو العلامة «الطرطوشي السكندري». وهو «محمد بن الوليد الطرطوشي الإمام السكندري العالم» (ت525هـ)، من جملة الطلاب الأندلسيين النابهين.

تتلمذ على يد العلامة «أبي الوليد الباجي» (ت474هـ)، ثم قرر الارتحال للعلم. والحق فإن قصته التي ذكرها «أحمد بن يحيى بن عميرة الضبي» (ت599هـ) في كتابه «بُغية المتلمس في تاريخ رجال أهل الأندلس» من أجمل وأظرف ما قرأتُ في هذا المضمار. وهي قصة تؤكد على أهمية الرحلة للعلم بالنسبة لأهل الغرب الإسلامي في تاريخ الحضارة الإسلامية. كما تُدلل على أن ديار الإسلام هي الوطن الأكبر لهؤلاء المغاربة والأندلسيين.

سنرى فيها وعي المجتمع الإسلامي والمصري في ظل الحكم «العُبيدي» الشيعي، وبحثهم عن العلماء، ودأبهم في تحصيل العلم في هذا المقال:

طلب العلم في الأندلس: أندلُسيون في المشرق!

المراجع
  1. الضبي: بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس 1/ 176.
  2. الشاطبي: الموافقات 1/ 142 – 144.
  3. ابن خلدون: المقدمة ص541.
  4. ابن الدمياطي: المستفاد من ذيل تاريخ بغداد 1/ 15.