إن الإسلام دين ونظام حياة، والمنهج الاقتصادي الإسلامي في التنمية جزء من منهاج متكامل للحياة. ويجمع المنهج الإسلامي في التنمية بين الماديات والروحانيات، ويوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، ويقوم على العدالة في العلاقات بين الأفراد والمؤسسات. وهذا يتفق مع فطرة الإنسان، ووسطية الإسلام. ولكي يُؤسس هذا المنهج للتعامل مع المتغيرات المعاصرة لا بد وأن يكون في ضوء القرآن الكريم والسنة المطهرة.

إن مشكلة التخلف؛ التي يواجها العالم الإسلامي قد زادت حدتها، وتفرع من هذا الوضع مشكلات كثيرة أدت إلى زيادة الأعباء على الإنسان وأرهقته، وعملت كذلك على الحد من الإبداع. والعجز في النهاية على القيام بأعباء إعمار الأرض؛ التي هي عبادة -بالمفهوم الواسع للعبادة- وغاية الإنسان.

وقد تناولنا في مقالات سابقة –نشرت في موقع إضاءات– التفسير العلمي للمفاهيم الاقتصادية في نور القرآن الكريم والسنة الشريفة؛ التي يتضمنها منهج التنمية الاقتصادية في الإسلام.

وفي ما يلي نركز على بعض أسس منهج التنمية الاقتصادية في ضوء القرآن الكريم والسنة المطهرة، مع بيان أوجه الإعجاز في هذا المنهج بالنسبة للمناهج الوضعية.

1. الاستخلاف

يقوم إعمار الأرض (التنمية الشاملة والمتوازنة) على عقيدة إيمانية؛ مؤداها: المال (الموارد) مال الله ونحن مستخلفون، والمال لمنفعة الخَلق المستخلفين وتمكينهم، والإيمان بأن الخَلق متفاوتون في الرزق، ومزاولة النشاط الاقتصادي عبادة وشكر، والله تعالى يراقب الناس في تصرفاتهم، وأن هناك جزاء وحساباً آخروياً.

وتعني حقيقة الاستخلاف: أهمية العمل على تثمير المال خلال الزمن وحتى قيام الساعة. وعنصر العمل يقوم على الأخلاق. والعمل المقصود هو الذي يعمر الدنيا، وينتج الطيبات. وأيضاً يعني الاستخلاف أن يؤدي الناس حقوق المال للمالك الأصلي وهو الله، سبحانه وتعالى؛ عن طريق الصدقات وعلى رأسها الزكاة.

2. فريضة الزكاة والإنفاق في وجوه الخير

من تبعية الاستخلاف الإنفاق في سبيل الله، وتعتبر فريضة الزكاة من أسس المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ومن صور الإنفاق في وجوه الخير: نظام الوقف، ونظام الوصايا، والهبات. ولذلك لا مكان للفقر المدقع في مجتمع الخير العام. وقد عالج الإسلام مشكلة الفقر وحمى المجتمع من انحراف توزيع الثروة. ويعتبر دور الزكاة في محاربة الفقر دوراً أصيلاً، وللقيام بأداء هذه الفريضة يجب أن يكون العمل صالحاً، وكذلك المال صالحاً. ويتضح ذلك مما يلي:

العمل الصالح؛ بمعنى طلب الكسب فريضة على كل مسلم ومسلمة. يقول الله عز وجل:

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
النحل: 97.

والعمل هو الذي يعمر الدنيا ويزيد الإنتاج ويكتشف نعم الله. وأساس القوة الاقتصادية الإمكانيات والعلم؛ لأن نعم الله كامنة تحتاج إلى من يبحث عنها ويجد في استخراجها، ولا يحصل عليها الإنسان من دون جهد؛ إلا في الآخرة، ولو حصل ذلك في الدنيا لكان الظلم والبغي. يقول الله تعالى:

﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾
الشورى: 27.

ولا تعني الآية الكريمة أن هناك قيداً على قدرة الله تعالى ومشيئته؛ فقد يختبر سبحانه وتعالى المسلم بالشر والخير والخوف والجوع، ليرى سبحانه هل يصبر المسلم عند المحنة ويشكر على المنحة؟ يقول الله، عز وجل:

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾
البقرة: 55.

أي أن الدنيا ليست غاية، وإنما وسيلة للآخرة، فهي دار ابتلاء واختبار.

والجدير بالذكر أن حماية حقوق وكرامة العمال هي ركيزة للتنمية بمعناها الشامل، وعلى السلطة دور رئيس في هذا الشأن؛ أي حماية حقوق العمال وصون كرامتهم؛ كي يعملوا في بيئة حرة صالحة للعمل والإبداع.

المال الصالح؛ وهو عصب الاقتصاد، وقد فرّق الاقتصاد الإسلامي بين العروض والأثمان، وأباح التجارة عن تراض وحرم الربا، ومنع استخدام النقود في القرض كمصدر للإيراد، وفرق بين عروض القنية والتجارة، وحدد حق الفقير من مال الغني، وحمى الغني أن يؤخذ منه إلا ما يتحقق فيه النماء -أي في المال النامي- وهو أول شرط في الأموال الزكوية.

ولذلك صلة بحماية الملكية، والادخار والاستثمار. ولا بد أن يتواكب مع ذلك عدالة الكسب؛ فالعالم الغربي حاول استغلال العامل بحد الكفاف بصرف النظر عن ضعف العامل وقوة صاحب المال، ولكن الإسلام أمن للعامل حد الكفاية. وحرم الإسلام اكتناز المال؛ لأنه يمنع تداوله ونماءه، ويأمر الإسلام بالإنفاق؛ لأن ذلك يؤدي إلى نمائه وزيادته، والزكاة تمنع الاكتناز.

3. الملكية

إن الملكية تكون نتيجة العمل والسعي في الأرض، وقد سخر الله سبحانه وتعالى الموارد للإنسان، وجعلها في خدمته؛ ليستطيع القيام بأعباء تعمير الدنيا. ويستلزم تسخير المال لخدمة الخلق المستخلفين وتمكينهم حماية الملكية الخاصة والعامة، وتحريم كل صور أكل أموال الناس بالباطل، وكذلك تحريم أكل أموال اليتامى.

كما يعتبر نظام الميراث – أو الفرائض – في الإسلام من مصادر الملكية، ومن خلال ثلاث آيات في القرآن الكريم تشكل فقه المواريث كاملاً؛ حيث إنه لا مثيل له في النظم الوضعية. وهو من مصادر التملك في الإسلام بأحكام شرعية وضحتها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والفقهاء المسلمون.

4. نظام الأولويات والتوازن القطاعي

يتم استخدام المال في مجال الاستثمار عن طريق الاعتماد الجماعي على الذات في إطار نظام الأولويات؛ الذي يمثل ركيزة رئيسة للإنفاق بأنواعه. كما يشمل ذلك جميع الأنشطة الاقتصادية من إنتاج وتسويق واستهلاك.

ويعطي المنهج الإسلامي أهمية لإنتاج الطيبات التي يحتاج إليها معظم الناس لصلاح دينهم ودنياهم. كما يتم استخدام المال -أي الموارد– وفقاً لهذا المنهج على أساس شامل، ودون إهدار للإمكانات أو تبديد للطاقات.

وعلى الدولة دور رئيس يتمثل في توفير بيئة إنتاجية ملائمة، إضافة إلى التعاون والتكامل بين الدولة -أو القطاع العام- والقطاع الخاص، وتكون مسؤولية القطاع الخاص في ظل هذا التعاون الاستخدام الكفء للموارد وتحمل مسؤولية عملية التنمية.

وفي إطار نظام الأولويات يتم القيام بالجهد الإنمائي على أساس من التكامل والتوازن بين القطاعات، مثل قطاع الأعمال العام والقطاع الخاص، والقطاعات السلعية والقطاعات الخدمية، والزراعة والصناعة، والريف والحضر… إلخ.

والجدير بالذكر أن «الحاجات الضرورية» لا تشمل الجانب المادي فقط، ولكن أيضاً تشمل الجانب المعنوي؛ من حيث المشاركة الجماعية والهوية الثقافية وحفظ كرامة الإنسان وحريته وإشاعة العدل، وقد أجملت الضروريات -كمقاصد للشريعة- في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل  والمال. من هنا يمكن للإنسان أن يقوم بمسؤولية إعمار الأرض، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية عملياً.

5. الاستثمار

يوجد محوران أساسيان لموضوع الاستثمار: الأول: هو صيغ الاستثمار؛ التي تقوم جميعها على أساس تحمل المخاطرة، وبالتالي المشاركة في الربح والخسارة. ولا يوجد استغلال لطبقة معينة؛ لأن الكل يشترك في النشاط الاقتصادي. وموضوع هذه الصيغ يوجد بالتفصيل في كتب الفقه، والكتب التي تتضمن دراسات تأصيلية للنظامين الربوي والإسلامي من النواحي الشرعية والقانونية والمصرفية.

والثاني: هو المحور المؤسسي للاستثمار؛ حيث إن معنى الاستثمار هو إنشاء مشروعات لإنتاج الطيبات التي يحتاج إليها أفراد المجتمع، وترتكز على فهم لمعنى النقود؛ حيث إنها لا تلد في حد ذاتها نقوداً، وهي تنمو بالاشتراك الفعلي في النشاط الاقتصادي. وهذا أساس عمل المصارف الإسلامية. أيضاً يعتبر تحريم الاكتناز من وسائل الحث على الاستثمار، ويؤدي إلى المشاركة في النشاط الاقتصادي.

6. الإنفاق الاستهلاكي

إن الإنفاق بمكوناته المختلفة: الاستهلاكي، والاستثماري، والصدقي -بنوعيه الاستهلاكي والاستثماري- هو أساس النشاط الاقتصادي. والإنفاق يساوي الناتج الكلي؛ حيث يؤدي الإنتاج إلى الدخل أو «الكسب» ويؤدي الكسب بدوره إلى الإنفاق، والإنفاق هو الذي يوجد الأسواق.

والاستهلاك هي الظاهرة التي تكمل ظاهرة الإنتاج. ويحتل الإنفاق الاستهلاكي النسبة العظمى من إجمالي الإنفاق الكلي. وبالنسبة لحرية الإنفاق الاستهلاكي فهو إنفاق منضبط وفقاً لمبدأ الأولويات، والإنفاق من دون إسراف أو تبذير. ولذلك فهي حرية مقيدة.

7. السوق الإسلامية

السوق الإسلامية هي السوق التي تقوم على الجوانب القيمية، وأهمها قيم الأخوة. ويؤدي ذلك إلى القيمة العدل.وقد تردت الرأسمالية في الاحتكار وظلم البائع للمشتري، والمنتج للمستهلك.

أمّا السوق الإسلامية فتقوم على العدل الذي يحقق النفع لكل من البائع والمشتري. ويتضح ذلك من سلوكيات المستهلك، وضبط المعاملات في الأسواق وحماية المستهلك، وضرورة كتابة الأموال والإشهاد والتوثيق في جميع المعاملات. وقد حرم الإسلام كل أنواع البيوع التي تسبب الظلم والغرر.

8. المنظمات والدوافع

يعتمد المنهج الإسلامي في التنمية على دور محدد للدولة؛ بخاصة في مجال الحكم والقضاء والمال والحسبة، وعن طريق أنظمة تحمي الملكية والوقف؛ وفقاً للضوابط والمعايير التي تحكم وظائف الإدارة؛ مثل: التوجيه والمتابعة والرقابة، والتقويم، والمساءلة، والثواب والعقاب.

ويعتمد هذا المنهج على محاربة مستمرة ومؤثرة لكل أنواع الاستغلال عن طريق تحريم كل من: الربا، والاحتكار، والاكتناز، والإسراف، والتقتير، والتطفيف في الميزان وبخس أشياء الناس، والغش والغرور والتدليس، وكل صور أكل أموال الناس بالباطل.

ويستند هذا المنهج –واقعياً– على مجموعة متكاملة من الدوافع الإيجابية، من هذه الدوافع الحض على: التقوى، والعمل والسعي والضرب في الأرض، والإنفاق والاستثمار، والزكاة والإنفاق فوق الزكاة، والتكافل والعدل والإحسان، والتعاون والتناصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوفاء والأمانة… إلخ.

وأيضاً من أهم الدوافع في هذا المنهج: الأخوة والقدوة والأسوة. فالأخوة دافع أساسي لمساعدة الإنسان على القيام بعبادة الله الخالق، فاطر السماوات والأرض، كما شرعها سبحانه وتعالى. يقول الله، عز وجل:

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾
الحجرات: 10.

ولا بد أن تُقترن الأخوة بالقدوة على كافة المستويات؛ لتحقيق إدارة رشيدة للمجتمع الإنساني؛ لكي يتمكن من القيام بإعمار الأرض. يقول الله تعالى:

﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾
الأحزاب: 21.

ويقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم):

كل أمتي يَدخلونَ الجنة إلا من أبى. قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى.
حديث أبي هريرة: رواه البخاري في صحيحه برقم 7280.

ويمكن التركيز على العناصر التالية:

  • اقتران القيم الإيمانية والأخلاقية بالمفاهيم الاقتصادية؛ فالاقتصاد الإسلامي اقتصاد «قيمي» أو «أخلاقي»، كما يحتل فيه الإنسان المكانة الأساسية؛ كوسيلة وغاية.
  • إن تفسير المفاهيم والنظريات الاقتصادية في القرآن والسنة تفسيراً اقتصادياً علمياً هو من أهم الموضوعات التي تستحق إعادة النظر في مختلف جوانبها؛ لأهميتها النظرية والعملية معاً.
  • إن ضمور استقراء أوجه الإعجاز الاقتصادي في القرآن وهدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو مقدمة لعدم تطبيق المنهج الاقتصادي الإسلامي في الواقع، وسبب من أسباب إزاحته من التطبيق العملي، وتراجع تأثيره في سلوكيات البشر في الإعمار والتنمية، وإزالة أسباب التخلف الاقتصادي.
  • يلزم ذلك السير في مسار التوجيه نحو مواجهة المشاكل الاقتصادية في المجتمع المسلم؛ لأن التوجه الإنمائي لنظام الاقتصاد الإسلامي وفقاً لمنهجه المتميز لصيق بواقعه التطبيقي، القادر على إدارة الحياة وحل المشاكل والأزمات المعاصرة.

من هنا تكمن أهمية تفسير المفاهيم والنظريات الاقتصادية التي يتأسس عليها المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية في ضوء القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ بما فيهما من إعجاز اقتصادي نظري وعملي. وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نموذجاً عملياً في تطبيق مفاهيم وأسس الاقتصاد؛ التي تم تطبيقها على نفسه وبيته والمجتمع المسلم والأمة.

إن منهج الاقتصاد الإسلامي رغم حداثته؛ من حيث كونه علماً مستقلاً؛ فإنه قد طبق تطبيقاً عملياً على أرض الواقع؛ فقد تحقق في عهد الرعيل الأول بصفة عامة، وفي عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز بصفة خاصة.

ومنهج التنمية في الإسلام هو كل من جزء، ولا يمكن تطبيقه تطبيقاً عملياً إلا من خلال منهاج متكامل للتنمية المستقلة، بالارتكاز على أسس هذا المنهج، والتي تعتمد على الذات بعيدة عن التبعية؛ وعلى مبدأ الأولويات الإسلامية، وليس أولويات المؤسسات المالية الدولية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.