اتفق الباحثون في النقد الأدبي والدراسات الفلسفية على أن الأدب أوسع دلالة من التنظير، فمعطيات الواقع تجعل هذه القضية مقبولة ومرضية للعقل الإنساني، فللعمل الأدبي قراءات بعدد ما له من قُرَّاء. النزعة الشعورية في العمل الأدبي تُمكِّن القارئ من وضع تجاربه الخاصة في نطاق تأويل هذا العمل، وتُمكِّنه أيضاً من إسقاط العديد من التجارب والنظريات على العمل الأدبي.

على العكس من هذا كان التنظير، فالتنظير محدود الدلالة يحاول التدقيق والمنهجة، ولأن لغة التنظير لغة عقلية، فتعد أهم مميزاتها الوضوح والمنهجية المباشرة، لذا يضيق نطاق تأويلاته كثيراً ويعد أكثر محدودية في الدلالة من الأدب، بل إنه يزداد قوةً إذا كان لا يحمل أوجهاً عديدة لتأويله مما يساعد على القيام بعمله التنظيمي داخل الأطر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكافة الأطر التي تحتاج إلى التنظير.

تاريخ الثقافة العربية

من خلال الاستقراء التاريخي لشبه الجزيرة العربية، يتضح أن للعرب فصاحة في الشعر من قبل نزول الوحي القرآني –والذي يعد تحدياً لهذه الفصاحة– بعيداً عمَّا قدمه طه حسين في كتابيه «في الشعر الجاهلي» و«في الأدب الجاهلي»، فنحن نتفق مع محمد عابد الجابري أنه بإمكان الأشخاص نسب قصائد كتبوها إلى أجدادهم، ولكنهم عاجزين عن بناء تاريخ كامل ووجود هؤلاء الأشخاص وردودهم الشعرية على الأحداث المذكورة في هذا التاريخ. [1] ويعد الأدب أهم الأسس التي قامت عليها الثقافة العربية (إن لم يكن الرئيس) فكُتبت المعاجم ونُظم النحو على الكتابات الشعرية القديمة.

فوجود مثل هذا الكتاب يوضح مدى رفض المجتمع للفلسفة في وضعها في مقابل الشريعة الدينية، عوضاً عن المقولات التي رُددت على ألسن العديد من الأئمة عن تحريم المنطق والفلسفة، وأهم ما يذكر في هذا السياق، كتاب «تهافت الفلاسفة» للغزالي، ووصل به الحال من شدة رفضه للفلسفة ودراستها إلى تكفير الفلاسفة، وظهور إشكالية ناقل الكفر إذا كان كافراً أم لا.

تعتبر ثقافة التنظير ثقافة دخيلة على الثقافة العربية، استوردها رجال العلم والترجمة والفلسفة من كتابات الإغريق، ولم تحظَ بقبول كافٍ على مر العصور داخل الأطر العلمية والاجتماعية. ولعل عدم قبولها ما دفع فيلسوفاً بأهمية ابن الرشد لكتابة كتابه الشهير «فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال»، وهو يعد محاولة لتقنين وشرعنة دراسة الفلسفة من خلال عدم تعارضها مع الحكمة (الشريعة، أو النص الديني).

وإذا سردنا المدونة العربية (التراث) نجد أن للأدب دوراً وظهوراً جلياً وواضحاً، بيد أن دور التنظير كان ثانوياً للغاية، فلم يُكتب للفلسفة مقابل الشعر وعلوم الفقه دور رئيسي، بل كانت على الهامش في أغلب الأحيان [2]، فضلاً عن طغيان اللفظ على المعنى داخل البنية الفقهية. [3] وكانت نهاية دور العقل والتنظير في الثقافة العربية على يد المتوكل، الذي انتقلت الدولة العباسية على يده من مرحلة الازدهار إلى مرحلة الشيخوخة والتدهور، اجتمع المتوكل بشيوخ الأمه وأهل الفقه، واتفقوا على تجريم الفكر الاعتزالي –وهو الممثل للعقل والتنظير في الثقافة العربية آنذاك– واعتبار مُعتنقيه ومُروجيه من أهل البدعة والمحدثين.

ولم يقف الأمر على الإرادة السياسية وحدها، فالقول بأنها وحدها ما  تحرك تاريخ الفكر يعد قولاً قاصراً وفقاً لمعطيات التاريخ، فهناك عوامل كثيرة تعمل على تحريك اتجاه حركة الفكر، ولعل أهمها بعد السلطة السياسية، سلطة الثابت والمستقر داخل الأطر الاجتماعية، واستحسانها للغة خطاب محدد ومصطلحات معينة، يُكتب النجاح داخل هذه الأطر للخطاب الذي يُصاغ  وفقاً لما  تستحسنه وحسب استخدامه للمصطلحات المفهومة والمقربة لها، عوضاً عن أُلفة العادة وما تعطيه من طمأنينة. ساعدت كل هذه العوامل على اندثار الفكر الاعتزالي والنزعة العقلية من الثقافة العربية، حتى إنه أضحى مُحرماً الحديث عنه أو الترويج له حتى وقتنا هذا.

الواقع العربي

الممثل العام للقارئ العربي مُحب للأدب يميل إلى لغة القصص والحكايات والشعر أكثر من ميله إلى الكتابات التنظيرية والفلسفية، وهذا ما ينعكس بالضرورة الواقعية على سوق الكتب وسياسة النشر، والتي هي شكل من أشكال الاستثمار، ومن ثَمَّ يتحكم فيها قانون السوق فتسعى إلى تقديم ما يحدده الذوق العام.

فإذا نظرنا إلى المنجز المعرفي في محيط الثقافة العربية، نجد أن للأدب دور الصدارة، بيد أن للتنظير الدور الهامشي. ففي بلد مثل مصر تجد أن عدد الروايات والقصص المنشورة من الصعب حصره، كما أن عدد الأدباء كبير للغاية، بيد أن رجال الفكر قليلون إلى حد أنهم قد يُعدون على أصابع اليد الواحدة، وكذا أيضاً العديد من البلدان العربية، فالمشاريع الفكرية داخل النطاق العربي محدودة للغاية، إذا اتفقنا على أن «الإنسان ابن بيئته» فيرجع فقر الساحة العربية من التنظير الفكري إلى طبيعة البيئة العربية، التي يحكم الواقع بفقرها المدقع تجاه التنظير.

عوضاً عن اتفاق الباحثين على أن الحال العربي لم يتغير كثيراً على مستوى الفكر، بينما تغير على مستوى الاستخدام التكنولوجي [4]، فإنه وفقاً للاستقراء التاريخي نجد أن التنظير في العصر الحديث لم ينفك من مواجهة الرفض والتكفير، حتى داخل الساحات الأكاديمية، إذا اتفقنا مع مقولة «العادة تُميت العقل»، حيث تعد العادة -والعرف المتمخِّض عنها بطبيعة الحال- عدواً للعقل وللإبداع.

نجد في النطاق العربي داخل أوساط البحث العلمي (وهو المعني بالإبداع وحل الأزمات) أن الإبداع أضحى مُحرماً بحكم عرف البحث العلمي، فأضحت التقاليد العلمية عاقبة أمام البحث العلمي، وهذا ما نلاحظه في التاريخ الحديث، منذ أن أصدر علي عبد الرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، وما أحدثه من ضجة ومحاولة سحب درجته العلمية منه ورفض الأوساط النخبوية لهذا الأمر، مروراً بحادثة طه حسين، ومحمد أحمد خلف الله، إلى الفاجعة الكبرى مع نصر حامد أبو زيد، واتهامه بالردة والحكم بتطليق زوجته، وكان هذا بناء على دعوة أصدرها زميل له من داخل الجامعة، نهايةً برفض أبحاث الترقية لعلي مبروك لتعارضها مع المألوف، وهي منشورة في كتاب بعنوان «أفكار مؤثمة».

تتفق كل هذه الحوادث في أن النقد لم ينل العمل الذي قام به الباحث، بل تم الدخول إلى ضمير الباحث ونواياه والحكم عليها، وشق صدره والحكم بإيمانه أو كفره، وتم إغفال الموضوعية والنقد المنهجي. الحديث هنا داخل ساحة البحث العلمي، وهي المعنية بتحري المناهج وتطويرها، مما يعني إعاقة المجتمع العلمي وعجزه عن تبني المناهج ومحاولة نيل الموضوعية، وما يتبعه بالضرورة من إعاقة كاملة داخل كافة المناحي الاجتماعية وغياب الموضوعية، وظهور الانحياز ونظرية المؤامرة التي ينجم عنها محاكمات الضمير والحكم على النوايا.

ولا يُفهم من هذا أنه ليس ثمة عقبات أمام الأدب العربي، ولكنها أقل بكثير وفقاً لطبيعة الأدب الشعورية وعدم صراحته المباشر واتساع دلالته، على العكس من التنظير لمباشرته ووضوحه واستخدامه لغة النقد.

الحاجة العربية إلى التنظير والمنهج

تمثل إشكالية الحداثة والمعاصرة محور المُنجز الفكري على الساحة الفكرية العربية، وتسفر الساحة الفكرية عن غياب شبه تام، لفهم الحداثة الغربية كونها واقعاً معيشاً وثقافة قائمة داخل الأطر الاجتماعية، ولكنها نُقلت إلى الساحة العربية في صورة تنظيرية تفتقر إلى التطبيق، مما جعل المجتمع العربي لا زال قابعاً في طور العصر الوسيط (سيطرة رجال الدين) ويتهم رجال الفكر، رجال الدين تارة، ورجال السياسة تارة أخرى، مع تغافل تام لدورهم في بناء النزعة المنهجية والعلمية، اللتين يفتقدهما المجتمع العلمي والفكري داخل المحيط العربي.

فالخطاب التنظيري لدى المجتمع العربي يتضح ميله أكثر إلى لغة الأدب وافتقاده للمنهجية والموضوعية، من خلال الاستخدام الأيديولوجي للنص الديني دون الاتفاق على منهج لتأويل النص، والاكتفاء باستراتيجية الرفض للخطاب الذي تصدره المؤسسات والجماعات الدينية، دون محاولة فهم الوضع وتحليله ومن ثَمَّ محاولة إعادة تركيبه.

فالحداثة تُمثل مُنجزاً اجتماعياً واقتصادياً وعلمياً. باختصار تُعد منجزاً بشرياً على كافة المناحي، فالعقل اللاهوتي الغربي لم يتنازل عن سلطته طواعية، بل إن التقدم العلمي والنزعة المنهجية قلَّصت حدود السيطرة الفردية وعملت على اتساع نطاق الموضوعية بتحري المناهج وإنتاجها وتطويرها، ومن ثَمَّ فرضت على العقل اللاهوتي حدوده التي يتمكن من التحرك داخلها. باختصار فالإنسان الغربي تقدم وعمل على نيل قدر معرفي مكَّنه من عدم قبول سلطة رجال الكنيسة.

على العكس من ذلك يُطالب رجال التنظير من رجال الدين التنحي طواعية عن السلطة المطلقة مستندين إلى بعض الحجج البرهانية والمنطقية، غافلين غياب لغة البرهان والمنطق داخل العقل اللاهوتي، ويتمخض عن هذا الخطاب استراتيجية الرفض المتبادل وعدم الالتقاء، لانفراد كل منهما بلغة تختلف عن لغة الآخر. ينظم رجال الدين خطابهم بلغة الوعظ والإرشاد التي لا يقبلها الخطاب التنظيري، وينشئ رجال التنظير خطابهم بلغة البرهان والمنطق غافلين عدم اعتراف الآخر بها.

والمجتمع العربي في حاجة للخروج من وضع الرفض المتبادل وجمل السب والاتهامات المتبادلة، إلى وضع الفهم والتفسير والتحليل، وما يلازمهم من نزعة منهجية، وما يتمخض عنه من فكر خلَّاق وُمبدع على كافة المناحي العلمية، فغياب المنهج يعني غياب الموضوعية، يعني غياب أي نتائج مرضية على كافة المستويات العلمية، وما ينتج عنها من شلل عام يفرض على المجتمع التبعية والاستهلاك التنظيري والعلمي، وما يتبعهما من تبعية واستهلاك على المستوى الحياتي.

فمن غير المفهوم الإشارة بأصابع الاتهام لجهة دون الأخرى، في حال إذا كان القصور ينال الجميع في كافة الاتجاهات، فالمجتمعات العربية في حالة عوز على كافة الأصعدة، مما يعني أنها في حالة عجز على كافة المستويات.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، 2009، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، صـ 57.
  2. نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، 2014، بيروت، المركز الثقافي العربي، صـ 22-48.
  3. محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، 2009، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، صـ 105.
  4. زكي نجيب محمود، 1997، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، صـ 11-13.