مثلت ثورات الربيع العربي بداية مرحلة جديدة لرسم ملامح مختلفة للمنطقة العربية، سواء داخل الدولة الواحدة أو في علاقات الدول ببعضها البعض. تضاءل دور قوى معينة لصالح آخرين سعوا لاستغلال المرحلة لتشكيل المنطقة وفق مصالحهم وتحديد طبيعة الأنظمة السياسية التي يجب أن تسود. حاولت السعودية والإمارات تصدر هذا الدور ما خلق تفاعلات عدة داخل النظام الإقليمي العربي جعلته يخضع لعمليات تفكيك وإعادة ترتيب بالتعاون مع قوى خارجية.


هل توجد قوة إقليمية في المنطقة العربية؟

تحدثت كتابات عدة عن الدولة الإقليمية في الشرق الأوسط. تارةً تصنف مصر وتركيا وإيران والسعودية وإسرائيل كدول إقليمية، لكن لا توجد دولة تمتلك المقومات الكاملة لتصنف كذلك، إنما يستحوذ كل منهم على جزء من هذه المؤهلات لاعتبارها كأحد القوى المؤثرة.

الدولة الإقليمية يجب أن يكون لديها مقومات اقتصادية وثقافية وصناعية وعلمية وعسكرية مجتمعة، بجانب قبول جيرانها بأن تكون كذلك، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، وذلك وفق ما أوضحه «هنري فيرتج» في كتاب «Regional powers in the middle east: new constellation after the Arab revolts»، فإسرائيل وإيران وتركيا مثلًا يملكون بعضًا من مقومات القوة الإقليمية لكنهم لا يحظون بقبول من قبل باقي دول المنطقة خاصة العربية، أما مصر والسعودية فيحظون بالقبول لكن تغيب عنهم العديد من مقومات القوة.

وكانت مصر في ستينيات القرن الماضي أحد الفاعلين والمؤثرين في تشكيل ملامح الأنظمة العربية، متزعمة الثورات للإطاحة بالأنظمة الملكية «الرجعية» ونشر «التقديمة». ساهم ذلك في ظهور محور مضاد تتزعمه السعودية لقيادة الأنظمة الملكية، واصطدم المحوران في حرب اليمن حينما دعمت مصر الثورة وأرسلت قواتها إلى هناك، فيما ساندت السعودية الملكية، حتى استيقظت مصر على نكسة 67.

ومثلت النكسة بداية تصالح عربي. تخلي الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر» عن خططه الثورية، لتدعم الدول العربية مصر في حربها ضد إسرائيل، إلى أن جاءت اتفاقية «كامب ديفيد» لتُعزل مصر عن محيطها العربي، وبالتالي فقدت التأثير في شئون المنطقة، وظهر دور العراق الذي حاول خلق تكتل عربي ضد إسرائيل، إلى أن جاءت حرب الكويت لتؤكد أنه لا يمكن الاستغناء عن دور مصر بالمنطقة.

ظلت مصر طوال هذه الفترة محتفظة بسياسة متزنة وغير مؤثرة في محيطها. فمن أصبح يتحكم في المنطقة هو الوجود الغربي الذي ثبّت أقدامه في المنطقة تحت ستار حماية ممالك الخليج من نظام «صدام حسين» إلى أن تم إسقاطه في 2003، لتظل المنطقة في حالة من الجمود دون وجود قوة عربية مؤثرة، ظلت خاضعة لما ترسمه القوى الكبرى، وكان أكثر المستفيدين من حرب العراق، إيران وإسرائيل، أما الدول العربية ففقدت إحدى بواباتها الشرقية.

وجاءت ثورات الربيع العربي التي انطلقت شرارتها من تونس في ديسمبر/كانون الأول 2010، لتمتد إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين. حاولت بعض الدول لاسيما السعودية أن تلتقط الشعلة معلنةً عن نفسها كقوة إقليمية، ومعها الإمارات وقطر، لكن هذا لم يتم لهما حتى الآن.


السعودية والإمارات وتحويل الربيع إلى «خراب» عربي

أدركت الأنظمة العربية التي لم تصلها رياح الربيع العربي أو نجحت في تحييدها واحتوائها ثم وأدها، أن التغيير سيطالها إن عاجلًا أم آجلًا، أو على الأقل سيسمح بوصول فكر سياسي مخالف لتوجهاتها، وينطبق ذلك على السعودية والإمارات، لخشيتهما من امتداد الثورات إلى جوارهما. لاسيما مع انتفاضة البحرين بدعم، وكذلك حدوث اشتباكات في المنطقة الشرقية بالسعودية بين قوات الأمن وغالبية سكانها من الشيعة.

اقرأ أيضًا:السباحة عكس التيار: قطر التي لا يحبها الحكام العرب

بدأ التحرك السعودي الإماراتي في وقف وصول الانتفاضات إلى أحد أركان مجلس التعاون الخليجي، ليرسل كلاهما الجانب الأكبر من قوات «درع الجزيرة» إلى البحرين، وبدأ الخليج في الترويج لمقولة أن الربيع العربي هو خريف أو خراب عربي مدعوم من الخارج.

ازداد القلق السعودي الإماراتي من وصول تيارات سياسية معينة إلى السلطة بالدول التي نجحت فيها الانتفاضات في بدايتها. خشيت من تمكن تيارات الإسلام السياسي من السلطة، مثل اليمن الحديقة الخلفية للخليج. لهذا أوجدت مخرجًا آمنا للرئيس السابق «علي عبد الله صالح» مقابل تنازله عن السلطة لنائبه، لينقلب عليها بعد ذلك بالتعاون مع الحوثيين، لتتحول اليمن إلى ساحة استنزاف للخليج.


الممالك الخليجية من الانكفاء إلى المبادرة

تخلت السعودية والإمارات عن سياسة «رد الفعل» وعدم الانخراط في أزمات الإقليم منذ حرب الكويت مع اندلاع ثورات الربيع العربي، وبدأت أول مظاهر التدخل في البحرين ثم اليمن ومحاولة التأثير على مجريات الأمور في ليبيا ومصر وتونس والأردن والمغرب، وكان واضحًا رفض البلدين وصول «الإخوان المسلمين» إلى السلطة.

وحين تمت الإطاحة بحكم الجماعة في مصر يونيو/حزيران 2013 قدم البلدان دعمًا سخيًا للنظام الجديد، ليتحولا بعد ذلك إلى ثلاثي قوي في المنطقة. كذلك تدخل البلدان حينما انقلب تحالف «الحوثي-صالح» على الرئيس «منصور هادي» ليقودا التحالف العربي لدحر انقلاب الحوثيين، لكن إلى الآن فشلت السعودية في تحقيق أهدافها وما زالت جراحها مستمرة في النزيف.

ومع تلاقي مصالح الرياض وأبوظبي في بعض الدول كانت هناك اختلافات في بعض الملفات؛ فمثلًا ركزت الرياض على دعم جماعات معارضة مسلحة في سوريا منذ بداية الثورة وكذلك فعلت قطر، بينما الإمارات كان توجهها مختلفًا وقريبًا من الموقف المصري، وهو رفض الحل العسكري للأزمة.

كذلك في اليمن ركزت الإمارات على مناطق الجنوب لتأمين موانئها والسيطرة على باب المندب وخليج عدن، بل دعمت انفصال الجنوب وهو ما رفضته الرياض لإضراره بمصالحها، ولا زالت غير قادرة على حسم الأمور لصالحها في شمال اليمن حيث يفرض الحوثيون سيطرتهم، وهو ما يُعرض المملكة لأعمال قصف شبه يومية. وصل الأمر لإطلاق الصواريخ الباليستية، وسبق أن تم إطلاق صاروخين ناحية مكة،وآخر وصل إلى العاصمة الرياض.

وفي ليبيا تدخلت الإمارات عسكريًا بشكل أكبر، بخلاف السعودية التي دعمت عمليات حلف شمال الأطلنطي «الناتو» التي أطاحت بمعمر القذافي، وما زالت محتفظة بدور كبير في الأزمة عن طريق دعمها بالتعاون مع مصر لقائد الجيش الوطني الليبي «خليفة حفتر». أما قطر فتدخلت أيضًا في عمليات الناتو لكنها تدعم بالتعاون مع تركيا جماعات الإسلام السياسي، خاصة الإخوان، والممثلة في حكومة الإنقاذ الوطني. ساهم ذلك في إطالة أمد الأزمة الليبية التي أصبحت موطنًا للجماعات المسلحة وعصابات تهريب البشر.


رسم ملامح جديدة للنظام العربي

حتى الآن لا توجد دولة في المنطقة العربية يمكنها استحقاق لقب قوة إقليمية، إنما توجد فواعل مؤثرة

أثرت الإمارات والسعودية على مسار الربيع العربي بالتعاون مع قوى إقليمية ودولية، بفضل قدراتهم المالية واستثماراتهم لدى الدول الكبرى. هذا لا يعني بالتأكيد أنهم السبب الأساسي في ذلك، فالعوامل الداخلية لكل دولة لعبت دورًا فيما وصلت إليه، لكن الدور الإماراتي والسعودي ومعهما قطر ساهم في تشكيل الأوضاع القائمة كما كانت تفعل مصر في ستينيات القرن الماضي بدعم الثورات ضد الأنظمة الملكية.

إذا لم تتآلف الممالك الخليجية على سيرتها الأولى، فإن مزيدًا من الملفات الإقليمية ستفتح بلا أفق للحل، كما الحال في اليمن وليبيا سوريا وحديثًا لبنان

قادت قطر توجهًا مخالفًا للإمارات والسعودية، بدعمها لجماعات الإسلام السياسي، وكذا تحالفاتها الخارجية مع تركيا وإيران. ما أدى لإثارة الخلاف معها منذ 2013، ووصل ذروته في يونيو/حزيران الماضي بإعلان الرباعي (السعودية والإمارات والبحرين ومصر)قطع علاقاتهم مع الدوحة وفرض حصار عليها، متهمين إياها بدعم الإرهاب والتعاون مع إيران لزعزعة استقرار المنطقة.

واعتبرت الإمارات والسعودية أن حصار قطر وتقليص نفوذها أحد دلائل قدرتهم على تحديد شكل المنطقة الجديد، لكن توجد عوامل عدة تحول دون ذلك، أمثال الرفض الغربي خاصةً من قبل الولايات المتحدة التي حالت دون إسقاط النظام القطري بجانب وجود رؤية مغايرة لمصالحها في المنطقة، وهو ما تريد الإمارات والسعودية تحييده بالمال. الدور الإيراني في المنطقة قوض نفوذ الرياض وأبوظبي بل أنهكهما وخاصةً في اليمن، وتحاول الآن البلدان قيادة حملة مقاطعة ضد إيران بل شن حرب عليها، لكن كثيرين يرفضون ذلك ومنهم الشركاء، كـ مصر التي أعلن رئيسها رفض أي حرب ضد طهران أو حزب الله اللبناني.

انشغال ولي العهد السعودي «محمد بن سلمان» بترتيب البيت الداخلي وشن حملة اعتقالات بحق أمراء ومسئولين يجعل نظامه لم يستقر بعد ويواجه محاولات للإطاحة به مما يجبره على تقليل الانخراط في أزمات الخارج، وكانت البداية من سوريا التي انسحبت منها المملكة خاسرة.

قطر رغم صغر حجمها أثرت في تعطيل خطط أبوظبي والرياض أو زادت عليهما كلفة الإنجاز، وقد تزيد الأمور صعوبة بتشكيلها تحالفًا ثلاثيًا مع إيران وتركيا، سينهك بعض قوى المنطقة، ولو لم يُتدارك الشقاق الخليجي في أقرب مناسبة -ربما يكون مجلس التعاون الخليجي القادم في ديسمبر- فسيشهد العالم العربي مزيدًا من الأزمات غير القابلة للحل في المنظور القريب.