عندما سُئل نزار قباني: طفولة مَنْ مِنْ ساسة العالم تود أن تعرفها وما الأسباب؟

أجاب: أريد أن أعرف شيئًا عن طفولة الخليفة عمر بن الخطاب… ومن هي مربيته… ومن هم أساتذته… وما الكتب التي كان يقرؤها… وما اسم المدرسة التي كان يذهب إليها… لأنني أريد أن أرسل زعماء العالم العربي إليها كي يتعلموا الديمقراطية.

واختار شاعرنا العربي الكبير عمر بن الخطاب لأنه كان آخر حاكم للمدينة الفاضلة، وهي ليست «يوتوبيا» أفلاطون أو توماس مور، بل مدينة محمد (صلى الله عليه وسلم)، التي حكمها عمر لما يربو على عشرة أعوام، فـ «كَانَتْ دِرَّةُ عُمَرَ أَهْيَبُ مِنْ سَيْفِ الْحَجَّاجِ»، كما قال التابعي الجليل «عامر الشَّعْبِيُّ»:

فبتلك «الدِرَّةُ» كانت خلافته -رضي الله عنه- «عدلاً»، كما قال عبد الله بن مسعود: كان إسلامه فتحًا، وهجرته نصرًا، وخلافته عدلًا.

ولنعرف كم كانت «دِرَّةُ عُمَرَ» مخيفة لحد الرعب، فإن عمر بن عبد العزيز قال: «لَوْ تخابثت الأمم يوم القيامة فجاءت كُلُّ أُمَّةٍ بِخَبِيثِهَا، وَجِئْنَا بِالْحَجَّاجِ لَغَلَبْنَاهُمْ». وقال أبو بكر بن عياش: عن عاصِم بن أَبِي النجودِ أَنَّه قَال: «مَا بَقِيَتْ للَّه عَزَّ وَجَلَّ حُرْمَةٌ إِلَّا وَقَدِ ارْتَكَبَهَا الْحَجَّاجُ». (1)

وتلك «اليوتوبيا» بدأت نهايتها باغتيال عمر، فعثمان، فعلي بن أبي طالب. ومن بعدهم أنجبت هذه الأمة آلافًا من الخبثاء كالحجاج، الذين لم يتركوا حرمة لله عز وجل إلا وارتكبوها، بينما عجزت عن إنجاب عمر آخر، باستثناء خامس الخلفاء الراشدين «عمر بن العزيز».

حمية الجاهلية

وذلك لأن الجغرافيا قد بدأت تفرض سطوتها من جديد على هذا المجتمع الوليد، فما لبثت أن عادت مرة أخرى «حمية الجاهلية» التي تفرضها الطبيعة الجغرافية للبيئة الصحراوية، حيث تناسى المسلمون تحذير القرآن لهم وتذكيره بنعمة الله عليهم: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا». (2)

فعاد التناحر والعداء، حيث عرف هذا العالم –الإسلامي- أول انفصال في تاريخه في معركة صفين سنة 38 للهجرة، إذ كان يحمل بين جنبيه -بعد قليل من سنوات ميلاده- تعارضًا داخليًّا. كانت «حمية الجاهلية» تصطرع مع الروح القرآنية، فجاء معاوية -رضي الله عنه- فحطَّم ذلك البناء الذي قام لكي يعيش، ربما إلى الأبد، بفضل ما ضمَّنه من توازن بين عنصر الروح وعنصر الزمن. (3)

فعمر بن الخطاب الذي كان يحاسب نفسه دائمًا، وكان يبكي من ذنوبه رجاء أن يغفرها الله، فقد العالم الإسلامي هذه الروح من زمن بعيد، فلم يعد أحد يؤنب نفسه أو يتأثر من خطيئته أو يبكي على ذنبه، وهؤلاء هم القادة والموجهون، وقد خيَّم عليهم شعور بالطمأنينة الأخلاقية، فلم نعد نرى زعيمًا يعترف على الملأ بأخطائه، وهكذا غرق المثل الأعلى الإسلامي، المثل الأعلى للحياة وللحركة في فيضان التعالي والغرور. (4)

ومعاوية بن أبي سفيان قد اعترف صراحة دون مواربة أنه استولى على الحكم عنوة، فهو عندما قدم إلى المدنية عام الجماعة تلقاه رجال قريش فقالوا: الحمد لله أعز نصرك، وأعلى كعبك. ولكنه لم يرد حتى صعد المنبر فقال: «أما بعد فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم، ولا مسرة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة». فهو منذ البداية ينفي أنه تولى برضا الناس، بل يستخف بهذا الرضا.

ثم استمر في خطبته معلنًا انفصال الواقع عن المثال تمامًا، عندما يقول إنه حاول السير على طريقة أبي بكر وعمر ولكن نفسه أبت: «ولقد رضت لكم نفسي على عمل أبي قحافة، وأردتها على عمل عمر، فنفرت من ذلك نفارًا شديدًا». ولماذا يسير على نهج غيره وقد ملك ناصية الدنيا والدين: «أيها الناس اعقلوا قولي، فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني». (5)

وذلك رغم أن القرآن الكريم أتى بمبدأ إيجابي أساسي كي يُكمل منهج الأخلاق التوحيدية، ذلك المبدأ هو «لزوم مقاومة الشر». (6)

فـ «عبد الملك بن مروان» المؤسس الثاني للدولة الأموية من بعد معاوية بن أبي سفيان، تكاد عبارة اللورد «أكتون» الشهيرة «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة» لا تنطبق على حاكم في التاريخ قدر انطباقها على عبد الملك بن مروان، فقد عرف عنه قبل أن يتولى الحكم الزهد والورع، ويقول عنه السيوطي: «كان عابدًا زاهدًا ناسكًا في المدنية قبل الخلاقة»، وقال نافع : لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميرًا، ولا أفقه ولا أنسك ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان، ومن هنا فقد عرف عبد الملك بن مروان بـ «حمامة المسجد» لمداومته على تلاوة القرآن، وعندما التقى عبد الملك بن مروان في مسجد الرسول بأحد جنود الجيش الذي أرسله يزيد بن معاوية لملاقاة عبد الله بن الزبير، راح يؤنبه تأنيبًا شديدًا: «أتدري إلى من تسير، إلى أول مولود في الإسلام، إلى ابن حواري رسول الله، وإلى ابن ذات النطاقين، إلى من حنكه رسول الله… ثكلتك أمك. أما والله لو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبهم الله جميعًا في النار».

ولكن، لننظر إليه عندما أصبح صاحب سلطة مطلقة. فعندما علم أنه بويع بالخلافة، والمصحف في حجره فأطبقه وقال: «هذا آخر عهدنا بك». وهكذا بدأ خلاقته. (7)

بينما كان أول قرار اتخذه -رغم معارضته السابقة لـ «يزيد بن معاوية» في قتال عبد الله بن الزبير- إعداد جيش لمحاربة ابن الزبير بقيادة طاغية آخر هو الحجاج بن يوسف الثقفي.

ويُفسِّر الفيلسوف البريطاني «برتراند راسل» غياب المبدأ الأخلاقي، قائلًا:

إن هناك نظرية زائفة كليًّا طرحها الأخلاقيون، مفادها أن من الممكن مقاومة الرغبات الإنسانية عن طريق الإحساس بالواجب والمبادئ الأخلاقية، إن هذه مغالطة، فرغبات الإنسان تحركها أربعة دوافع: حب السلطة، حب التملك، حب الظهور، والتنافس أو النرجسية الإنسانية.

وعن حب السلطة يقول راسل:

إن حب السلطة يزداد بممارستها. وينطبق هذا على القوى البسيطة كما ينطبق على قوى الملوك، في أي نظام استبدادي، يتحول أصحاب السلطة بازدياد إلى طغاة بفضل الشعور بالمتعة التي تمنحهم إياها ممارسة السلطة.

لذلك خالف معاوية عهده مع الحسين بن علي وأخذ البيعة لابنه يزيد، ورغم أن البعض برَّر أخذه البيعة لـ يزيد، أنه كان خشيةً للفتنة وحقنًا لدماء المسلمين، فإن مخاوف معاوية حدثت بالفعل بأخذه البيعة لابنه، فقد سالت دماء آل البيت، دماء الحسين بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير في الثورة ضد يزيد بن معاوية، وفي ثورة المختار بن أبي عبيد الله الثقفي سالت دماء جديدة، و في ثورة زيد بن علي.

بينما قال المؤسس الثاني للدولة الأموية عبد الملك بن مروان: «إني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف. والله لا يأمرني أحد بتقوى الله إلا ضربت عنقه». (8)

وإذا كانت الجغرافيا لا تزال منذ موقعة «صفين» تفرض سطوتها علينا رغم تحذير القرآن الكريم «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ». (9) فإن التاريخ أيضًا يلعب دورًا لا يقل أهمية عن دور الجغرافيا في فرض الاستبداد ودعم الطغاة.

حتمية التاريخ

استخدم بنو أمية نظرية حتمية التاريخ أو القضاء والقدر لبناء ودعم حكمهم الاستبدادي. وترتكز شرعية بني أمية على حق إلهي خاص بها، لقد أعطى الأمر أولًا لقريش، وعندما تنازعت قريش فيما بينها قضى الله لمعاوية؛ فهل لأحد أن يعترض على قضائه؟! إنه المعطي الذي لا مانع لما أعطى، والمانع الذي لا مُعطي لما منع، وإذا كان أعطى بني أمية، ومنع بني هاشم ضمن من منع، فهل هناك اعتراض على حكمته التي وسعت كل شيء؟!

ارتكزت هذ الشرعية على حدث تاريخي واحد هو انتصار معاوية على «علي»، وهو انتصار لم يكن حاسمًا، بل كان أشبه بحالة لا غالب ولا مغلوب، ولكن اغتيال «علي» غدرًا أظهر معاوية، وهذا الحدث التاريخي فُسِّر من قبل السلطة الأموية على أنه حصل بإرادة الله بقضائه بمعنى محبته ومشيئته، لقد رغب في أن يظهر معاوية وانتهى الأمر. (10)

وما زال تكريس الاستبداد بمثل هذا المفهوم الذي يرتدي زيًّا إسلاميًّا مستمرًّا منذ معاوية وحتى اللحظة. ما جعل الطغيان الشرقي نموذجًا أعلى للطغيان، وخلق عند المواطن الشرقي طبيعة خاصة تجعله يستسلم بسهولة لمثل هذا اللون من الحكم بل يتقبله، وأحيانًا يسعى إليه دون أن يجد في ذلك حرجًا ولا غضاضةً. (11)

وما حدث في ثورات الربيع العربي يؤكد ما ذهبنا إليه، فقد تحولت مآلات ثورات الربيع العربي إمَّا إلى إعادة إنتاج ديكتاتوريات أشد استبدادًا وقمعًا، وإمَّا إلى حروب أهلية، وإرهاب يرتدي نفس الزي الذي يرتديه الاستبداد.

وذلك لأننا لا نريد «درة عمر» الذي رغب شاعرنا العربي الكبير نزار قباني في إرسال زعماء العرب إليه ليتعلموا الديمقراطية، رغم أن الأمر لا يتطلب السفر عبر الزمن، وإنما قراءة القرآن الكريم كما كان يقرؤه عمر بن الخطاب، وفهم سُنة نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) كما فهمها ابن الخطاب، لنتحرر من أغلال الجغرافيا، ونفك أسرنا من حتمية التاريخ، حتى نضع سيف الحجاج المسلط على رقابنا منذ قال معاوية: «أنا أول الملوك». (12)

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. ابن كثير، “البداية والنهاية”، الجزء التاسع، القاهرة، الدار النموذجية (المطبعة العصرية)، 2008، ص 132.
  2. سورة آل عمران (آية 103).
  3. مالك بن نبي، “وجهة العالم الإسلامي: مشكلات الحضارة”، ترجمة: هبد الصبور شاهين، بيروت، دار الفكر المعاصر، 2000، ص 29.
  4. المرجع السابق، ص ص 85-86.
  5. إمام عبد الفتاح، “الطاغية: دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي”، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة، 1994، ص 167.
  6. مالك بن نبي، “الظاهرة القرآنية”، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2001، ص305.
  7. مالك بن نبي، “وجهة العالم الإسلامي: مشكلات الحضارة”، مرجع سبق ذكره، ص ص 172-173.
  8. المرجع السابق، ص 173.
  9. سورة الأنفال (آية 46).
  10. أحمد خيري العمري، “البوصلة القرآنية، دمشق، دار الفكر، 2005، ص 385.
  11. مالك بن نبي، “وجهة العالم الإسلامي: مشكلات الحضارة”، مرجع سبق ذكره، ص 157.
  12. المرجع السابق، ص 151.