هل يمكننا العيش من دون ممارسة السياسة أم أننا أصبحنا مكرهين عليها؟ لطالما طرحت هذا السؤال على نفسي مرارًا وتكرارًا وازداد هذا التساؤل مؤخرا مع انتشار الوعي الجمعي لدى المجتمعات العربية وظهور حمى التدافع بين الطبقة السياسية باختلاف مشاربها وأيديولوجياتها نحو الحكم والظفر بالمقاعد النيابية طمعا في توجيه موجة الحراك الشعبي لصالحها.

ربما أجد نفسي أخالف السائد وأنحاز إلى صف من ينادون بالتخصص والتركيز على النوعية في الطبقة السياسية، وأن يتوجه كل واحد منا إلى إعمال فكره إما في الفن، أو الاقتصاد، أو العلوم الهندسية والبيولوجية أو العلوم الشرعية خدمة لمشروع نهضوي أسمى وترك السياسة لأهلها، ليس زهدا فيها، وإنما احتراما لها ولدورها الذي يتطلب فئة مميزة، فقد أعيتنا المهازل والطوام التي يقترفها أشباه الساسة والمفكرين وكذا بعض رجال الدين.

نعم السياسة لن تؤتي ثمرها إلا بوجود نخبة واعية وقادرة على رفع التّحديات لمجابهة مختلف الرهانات التي تواجهها بلداننا العربية. والحد الأدنى من الوعي السياسي لدى طبقات المجتمع أمر مطلوب لبناء مجتمع متماسك يعرف حقوقه وواجباته وما يحاك له ويكون صمام أمان لكل مشروع خارجي يهدم وطنه ويقضي على مستقبل أبنائه. وفي هذا الباب يقول المفكر الإسلامي فتحي يكن : إن غياب الوعي السياسي يعني اضطراب وتعثُّر شئون الناس، وهو حالةٌ شبيهةٌ بحالة فقدان الوزن وانعدام الرؤية، ونتيجته ضياع مصالح المسلمين، وتفاقم وتعاظم المفاسد بينهم وحولهم، وبالتالي ضعفهم وانهيارهم، وتعطُّل دورهم كأمَّةٍ ظاهرةٍ بين الأمم، آمرةٍ بالمعروف، ناهيةٍ عن المنكر، شاهدةٍ على الناس، مصداقاً لقوله تعالى: «وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا»، وفي لفتةٍ سريعةٍ إلى دور الأمَّة الإسلاميَّة في الحياة يقول تعالى: «كنتم خير أمَّةٍ أُخرِجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهَون عن المنكر وتؤمنون بالله». الشرارة الفكرية والأخلاقية وبناء قاعدة شعبية واعية هي أهم لبنات النهضة الفكرية التي لطالما حث عليها مالك بن نبي في مشروعه النهضوي. بالرغم من كل هذا فإنّ وجوب العمل السياسي على الأمة لا يعني تركها لأعمالها الأخرى والاشتغال بالسياسة فقط، فلكل إنسان ما يناسبه.


واقع سياسي وأي واقع؟

تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وهبوب رياح ما يسمى «الربيع العربي» أخرج السياسة من غرف البرلمان ومقرات الأحزاب إلى الحياة الاجتماعية في صورة تدعو إلى الكثير من التفكر والمراجعات الجادة.

البيوت والمقاهي وملاعب الكرة وحتى المدارس والمساجد تلونتْ بغاز السياسة وأصبحت الحسابات الضيقة هي الفيصل في المعاملات وتقديم الخدمات. وتزداد حمى التكلم عن دهاليز السياسة كلما اقتربت المواعيد الانتخابية، فتكثر معها التحليلات والتكهنات، وكذا الاستقطاب للكفاءات والشخصيات البارزة لضمها لإحدى قوائم الأحزاب.

تناحر وتبادل اتهامات وقضايا شائكة أصبحت تتناول يوميا في وسائل التواصل الاجتماعي (الفيس بوك والتويتر). الكل يحلل ويستشرف ويتهم دون أي معايير للتقييم، لا لشيء إلا لأنه لم ينسجم مع أفكاره وتوجهاته السياسية والأيديولوجية. فلقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي فضاءات للمناقشات السياسية وتحول الكثير من الصفحات إلى حلبات للصراع والتشتت، حتى أصبحنا نستوحش عند دخولنا إليها ونَحِنُ إلى صفحات متخصصة تناقش الفن والثقافة والمجالات العلمية المختلفة. حتى جمعيات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية والتعليمية سقطت في هذه الحفرة وهي التي من المفروض أن تكون محايدة وفضاءً جامعًا لا منحازًا، فيا للحسرة على ما وصلنا إليه!

لم ينجُ من تيار السياسة الجارف لا الطبيب ولا المهندس ولا حتى الإمام والأستاذ.. الكل يريد امتهان السياسة دون معرفة بأدنى أبجدياتها، إما طمعًا في مغنم آجل أو اغترارًا برصيد مهني للحصول على مكانة اجتماعية أكبر، ومنهم من هم بحق مخلصون لخدمة من يناصرونهم.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، المتتبع للترشيحات الانتخابية يجد أن الكثير من رواد الدعوة وكذا الكفاءات العلمية والفنية تم إقحامها في السباقات الانتخابية، وهذا في مختلف الأحزاب، دون التفكر في حجم الفراغ الذي سيتركونه في مجالاتهم العملية والدعوية، إذ إن مجتمعاتنا معروف عنها عدم القبول بهذا الاختلاط وهذا بدون ذكر إمكانية نقص أهليتهم لتقلد مثل هذه المناصب. يضاف إلى ذلك أنه عند وقوع الأزمات السياسية والاقتصادية تسارع الأحزاب والفصائل السياسية إلى الزج بالنخب المثقفة، مؤسسات المجتمع المدني وكذا الشخصيات الوطنية والدينية في مشروع تزييف الواقع وتحسين صورتها، متناسية أن هذه الكفاءات والشخصيات يمكنها لما تملك من رصيد تاريخي ميداني ومهني أن تكون صمام أمان وحلقة في سلسلة بناء النهضة. نجد عكس هذه الظاهرة في دول المشرق العربي، فالرموز الدينية لا تقحم نفسها في سباق الانتخابات مما يجعل لها بعضا من الخصوصية ويحفظ لها مكانتها ومرجعتيها، بالرغم من وجود بعض من سقطوا في بحر الفتاوى والاجتهادات الفقهية إزاء بعض القضايا السياسية. وكذلك في الدول الصناعية (الغربية) تجد أن أغلب المبدعين والمفكرين والعلماء يفضلون التفرغ لتخصصاتهم وتفعيل الحياة العلمية والفكرية في المجتمع دون الانبهار والانسياق لبحر السياسة.

ربما يقول قائل إنك تضخم مسألة المشاركة السياسية للنخب فكل الإحصائيات والمؤشرات الميدانية تشير إلى عزوف بالجملة. نعم هناك عزوف وخاصة في فئة الشباب، ولكني في هذا المقال أتحدث عن الفئات المؤثرة في المجتمع، والتي تمارس السياسة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة باستعمالها في بعض المحطات السياسية. أتكلم عن فئة الشباب التي لديها طموح في خدمة بلدها وتظن أو لم تجد غير باب السياسة لتحقيقه. أتحدث عمن يمكنهم أن يكونوا مشاريع رموز وطنية أو منارات علمية وثقافية ويتم استغلالهم لملء الرصيد السياسي للأحزاب. أتحصر على الدعاة والأئمة الأفاضل الذين يزج بهم عن قصد أو عن غفلة في ميدان السياسة كمترشحين أو كأدوات لتلميع صورة باستغلال مكانتهم الاجتماعية وقدسية ما يحملونه من علم.


ما الذي سنربحه لو اشتغل كل واحد منا في تخصصه

لطالما تحدثنا ونظمنا ملتقيات حول هجرة العقول إلى خارج أوطانها ومدى خسارة الدولة لهذه الطاقات وتحسرها على حجم الإنفاق المادي عليها، وقد رصدت عدة آليات وقوانين للحد من هذه الظاهرة، ولكننا لم ننتبه ولو لمرة لحجم نزيف الكفاءات ومن لديهم قبول اجتماعي إلى عالم السياسة الذي ربما سيمتص كفاءتهم ويفقدهم تلك المصداقية التي كسبوها سابقا. المحافظة على لحمة المجتمع وتقديم خدمات له في ظل العجز الموجود في تغطية المجالات الحيوية هو أمر واجب على النخبة وأولى من الغرق في عالم ليسوا برواده، «فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب».

لقد فقدنا خيرة المهندسين، الفنانين، الأطباء، علماء دين، وحتى رياضيين كانوا من الممكن أن يكونوا وعاء جامعا وصوتا ناصحا ونماذج صافية من الاصطفاف الحزبي. ففي ظل غياب الثقة وروح المسئولية، نحن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى شخصيات جامعة ومحايدة لها من الكفاءة والمهنية والقبول الاجتماعي ما يؤهلها لأن تعيد الأمل لهذا الشعب الذي يطمح لغدٍ أفضل. فما ذنب العلم، الفن، الكرة، المنابر، المستشفيات والعمل الخيري أن يهرب منه رواده ومحبوه بسبب الحسابات السياسية الضيقة والاستقطاب الذي من الممكن أن يحرق كل شيء جميل. الحصيلة المُرّة أن السياسة قضت على الكثير من الطاقات والرموز بمساهمتها في قتل جانب كبير من إبداعها وحريتها في التفكير، وكذا بإقحامها لهم في سِجَالاتٍ مقيتة زادت من حجم الشرخ في مجتمعاتنا. وفي المجمل لم يستفد من هذا الوضع إلا دعاة التشتت والمستثمرون في هذا الشرخ الذي يزداد يوما بعد يوم، فلم يسلم من إغراءات السياسة إلا من خلق لأجلها!

ليس كما يعتقد كثير ممن دخل معترك السياسة وهو مقصرٌ في تخصصه المهني، بأن المواطن البسيط سينسى وسيعذره على ما هو واجب منه في عمله، فالبشر بطبعهم يتناسون التاريخ ويغرقون في الحاضر مما سيقتصر من حق هؤلاء النخبة الطيبة. بالرغم من كل هذا، هنالك من له القدرة على التّميّز في العمل والنجاح في النضال السياسي.. نعم يوجد مساحات من التشابك (بين السياسة والتخصصات الأخرى) لكن يجب أن نحدّدها ونعمل على تمايزها ولا نغفل عنها.

نحن نحتاج لأن نوجه هذه النخب والكفاءات العلمية والدينية إلى تفعيل ساحة العمل الخيري وتطعيم جمعيات المجتمع المدني وبعث الحركة الفكرية والعلمية التي يندى لها الجبين، لكي لا نترك الفراغ للأفكار الهدامة تعصف باستقرار الوطن ووحدة الأمة ولبيئة تخرج أشباه المثقفين الذين سيصبحون وبالا على أمتهم أكثر من جهالها. فلو قمنا بإحصاء لعدد الجمعيات الوطنية وحتى المحلية الفاعلة نجد الساحة فقيرة جدا بهم، وهذا لكي لا نتكلم عن المؤسسات الفكرية والدينية المتخصصة لتكوين النخب كما هو موجود في العديد من مدن العالم. وحتى علماؤنا في العلوم الإنسانية أو التكنولوجيا لا تكاد تسمع بهم إلا في تكريم أو في تأبينهم بعدما يسرقهم منا الموت.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.