يعجبني في الذكريات سخاؤها.

كان هذا أشهر بيت شعر تداولته ألسنة المثقفين، أخيراً، قاله متسابق في مسابقة «أمير الشعراء» لعام 2022 المُقامة في الإمارات، فاعترض أحد أعضاء لجنة التحكيم على ضبط كلمة «سخاؤها»، وأخطأ بقوله إنها على «النصب»، بينما قاعدة النحو تقول إنها على «الرفع». وقد تابعتُ ردود الأفعال على هذه الواقعة.

وما أدهشني حقًا، هو أن رجلاً قضى حياته في دراسة اللغة العربية وقواعد النحو والإعراب، ورغم ذلك لم يستطع أن يضبط المسألة الإعرابية بالشكل الذي ينبغي أن تكون عليه «قواعد النحو»، فما بالك بالذي درس النحو دراسة عابرة، ليُقوّم لسانه، ثم يغادره لعلوم أخرى يقصدها. فمعلوم أن النحو من «علوم الآلة» لا من «علوم المقاصد»، أي أنه وسيلة، لا غاية في ذاته.

وحتى نكون منصفين وغير متعصبين للغة العربية، فيجب أن نعترف بمشاكل اللغة العربية، كشأن أي لغة، لكنني أُقدِّر هذا الإعراض عن هذا الاعتراف، وهو ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم، وهذه مقدمة تؤدي لنتيجة مفادها: أن أي مساس باللغة هو مساس بهذا الكتاب، لكن هذه النتيجة ليست صحيحة، لأنها تفترض قداسة اللغة بقداسة الكتاب، وهذا واضح خطله.

وفي ظل تلك الازدحام من ردود الأفعال التي سرت كلها نحو التأكيد على جهل لجنة التحكيم، إلا إنه لم يتحدث واحد عن مشاكل قواعد النحو، وقدراً وأنا أتأمل ردود الأفعال، وقع أمامي كتاب «مشكلة اللغة العربية، لماذا أخفقنا في تعليمها، وكيف نعلّمها؟» للشيخ «محمد عرفة»، فالتهمته كوجبة طازجة ناسب وقتها.

وصاحب الكتاب يتحدث عن جانب من جوانب مشكلات «النحو العربي»، وهو طرق تدريسه التي أثقل في نقدها نقداً شديداً، كما يرى أننا أخفقنا في تعليمها إخفاقاً جعل مدرِّس اللغة نفسه يشرح حصته بالعامية، ورغم أن الرجل أزهري فإنه خشي أن يتعرّض لمشكلات «قواعد النحو»، واكتفى بعبارة يقول:

أمّا نقد القواعد وبيان الباطل منها، وإحلال خير منها محلها، فهي مسائل فنية يصعب فهمها إلا على الدارسين. [1]

وأنني أدرك مدى حساسية مسألة نقد قواعد اللغة العربية، فهي محاطة بألغام من الأسئلة الصعبة، ولذلك فإنني أُقدِّر انسحاب الرجل واكتفائه بنقد طريقة تدريس النحو دون قواعده.

ليس الشيخ «محمد عرفة» وحده الذي تحدث عن مشكلات النحو، فقد كتب «عبد المتعال الصعيد»، و«شوقي ضيف»، في محاولات «تجديد النحو»، ولقد كان الأخير رئيساً لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، بيد أن محاولته جاءت في الشكل، خالية من تجديد المضمون، فحاول أن يُرتِّب أبواب النحو على أبواب ارتآها أفضل، فكانت محاولة التجديد محاولة ترتيب لا في تجديد المحتوى.

هناك كذلك محاولة «إبراهيم مصطفى» في كتابه «إحياء النحو»، ولعلها هي المحاولة الأجرأ والأقرب إلى مقولة «التجديد»، فهو عمل نتيجة سبع سنين من البحث والنظر -كما يقول-  ومفادها أنه يقتصر في النحو على علامتين من علامات الإعراب هما «الضمة» و«الكسرة»، وأن «الفتحة» ليست علامة إعرابية، إنما هي حركة خفيفة كان يستعملها العرب كنظير السكون في العامية.

كذلك انتقد «نظرية العامل» وقال إنها على الطريقة القديمة مليئة بالتعسف والتعقيد، ورأى كذلك أنه لا داعي بتسمية المبتدأ المحذوف بهذا الاسم، وتسمية الفاعل المحذوف «ضمير محذوف مُقدر»، فكلاهما في رأيه «مُسند إليه»، ولا داعي للتفرقة بينهما، وغيرها من الأفكار الكثيرة.

وبالعودة مرة أخرى إلى البيت الشعري السابق ذكره، وتأملنا اعتراض الرجل على المتسابق في قوله «يعجبني في الذكريات سخاؤها»، وهو يقول «منْ الذي أعجبه الذكريات؟»، سنجد أن له وجهاً من المنطق، فالذكريات هي «المُعجَب بها»، والقائل هو «المُعجَب»، فتكون على ذلك «مفعول به» والقائل هو «الفاعل»، وهو منطقي صحيح، لكن للنحو العربي آراء أخرى.

مثال آخر: حينما أقول «مات زيدٌ»، فمنطقياً، وواقعياً كذلك، أن زيداً هو الذي وقع عليه الموت، فهو المائت، فهو «مفعول»، لكن النحو العربي يجعله فاعلاً، كذلك في قولك «كُسر الإناءُ» و«شُرب اللبنُ»، فبالرغم من أن «اللبن» في الواقع هو المشروب، أي هو المفعول، لكن النحو العربي يعربه «نائب فاعل» والأمثلة في ذلك تطول.

في هذه النقطة يجب أن نعترف بمشكلات النحو، أو على أهدأ تعبير نقول بصعوبته، ولعل هذه المشكلات هي التي دفعت «أحمد أمين» و«قاسم أمين» إلى الدعوة إلى التسكين دون نطق الحركات آخر الكلمات ودون المساس بالقرآن.

هذه واحدة، وهي مشكلات اللغة من الداخل، بيد أن ثمة مشكلة أخرى من الخارج، وإن لم تكن على درجة كبيرة من الصعوبة كالمشكلة الداخلية، وهي فوضى تحديد المفاهيم.

إن اللغة وسيلة للتواصل، وليست ثمة لغة تفضل على لغة أخرى من كل الجهات، وليس هذا رأيي وحدي، إنما كان لابن حزم رأي يقاربه، فإن للغات ميزات، و«المزية لا تعني بالضرورة الأفضلية». واللغة العربية لغة تمتاز بثراء مفرداتها، بها أكثر من 12 مليون مفردة، ثرية كذلك بالمجازات في تعبيراتها، مما جعلها «لغة شاعرية»، فهي لغة فصاحة، لكنها ليست لغة أشياء بنفس القدر، لغة «جمال»، ولأن الشعر ديوان العرب، والعربية أيضاً، يمكنك بنظرة سريعة أن تجد الشعر العربي مُدجّجاً بالحماسة والغزل والفخر والرثاء، وكلها مقامات تطلب مبالغات في التعبير مما يساعد في ذلك اصطحاب المجاز والكناية لخدمة المقام ومقتضياته.

وحتى لا يُساء فهمنا، فإنني لم أقصد أبداً أن اللغة العربية ليست لديها القدرة على الوصف الدقيق الذي تمتاز به لغة العلم، إنما قصدي أنها قادرة إن استطاع المتحدثون بها أن يفعلوا ذلك، فلأن اللغة في نهاية المطاف نتاج عقول أبنائها، ولأن أبناء اليوم ليسوا من أهل نمط التفكير الدقيق، فبالتالي لن تكون لغتهم كذلك. انظر على سبيل المثال كلمة «ثقافة»، ستحتار في تحديد مفهومها، ثم لا تلبث أن تعود تُطلِقها كما يُطلِقها المتحدثون لا تدري أينما أصابت.

انظر كذلك إلى لقب «شيخ الإسلام»، وبغض النظر عن تفكيك مدلول كل مفردة على حدة، وهي «شيخ» هل تعني الشيخ الهرم أو عالم الدين؟ وكلمة «إسلام» هل تعني «الإسلام الخالص» أم «الإسلام المفسَّر»؟ فهو بحث يطول، لكن انظر لها كما هي، هل تشير إلى مدلول معين، أقصد هل تنطبق على تخصص في مجال محدد، أم أنه لقب يُشير إلى مئات الدلالات في الواقع، الأمر الذي يُفسِّر أن أكثر من أربعة وثلاثين عالم دين قد لُقِّبوا بهذا اللقب في التراث العربي الإسلامي، كما يمكن لأي مجموعة أن تنسبه إلى أي شيخ تشايعه.

منذ فترة كنت أسير في ساحة «جامعة الفيوم»، وفي أثناء سيري وقعت عيني في اليمين على لافتة مبنى مكتوب عليها «كلية العلوم»، وفي نفس الآن حوّلت نظري يساراً فوقعت عيني على لافتة مبنى مكتوب عليها «كلية دار العلوم»، وكلنا يعرف أن العلوم التي تُدرَّس في الكليتين ليس بينهما علاقة، فكلية العلوم تُدرِّس العلوم الطبيعية، وكلية دار العلوم تُدرِّس العلوم العربية والإسلامية، وهذا نموذج صغير من فوضى تحديد المفاهيم في صرح الجامعة نفسه. ولقد جف لسان وقلم «زكي نجيب محمود» بخصوص هذا الخطب، وكتب فيه عشرات المقالات.

فإن قال قائل: إنما يُنسب هذا كله إلى متحدثي اللغة لا إلى اللغة نفسها. أجيب عنه بأننا قلنا إن اللغة مجموع نتاج عقول أبنائها، وأهل العربية الآن لم يعدو ينتجون علماً.

لقد كان مُضحِكاً حينما علمت أن أهل الدرس اللغوي أطلقوا على اسم «اللاب توب» اسم «الحاضون»، فماذا عن تسمية «التابلت» و«التاب»، هل يكون اسمه «الحاضون» أيضاً، أم ستكون كلها تحت اسم «الحاسب المحمول» دون تفرقة؟

يمكن رد القضية برمتها إلى مشكلة النحو مع المنطق، فالتعويل على النحو وحده قد يؤدي إلى خلل في الفهم، لأن الدلالات الصحيحة لا تتحقق فحسب استناداً إلى الصحة النحوية، ولا نبالغ حين نقول إن عدم تحقق الصحة النحوية مع توافر الصحة المنطقية قد لا يؤدي إلى فهم الرسالة على الوجه المراد.

إن جدلية الإعراب والمعنى علاقة يراها الكثير لازمة وصارمة، فإن طبيعة الإعراب تأتي لتوضح وظيفة الكلمة في الجملة وعلاقتها بغيرها من الألفاظ في السياق [2]، إلا أن أحد النحاة وهو “قطرب” [ت 206هـ] لا يرى علاقة بين الإعراب والمعنى، فعنده أنه «لو كان الإعراب دخل للفرق بين المعاني، لوجب أن يكون لكل معنى إعراب يدل عليه، لا يزول بزواله». [3]

إن المعركة بين «المنطقيين» و«النحويين» قديمة، أقيمت لها مناظرات سجلها التراث من قبل، وهي جدلية يجب الاهتمام بها، قام لها تيارات تجديدية في النصف الأول من القرن الماضي، ومنهم أنصار العامية، لكنها خبت في تلك الآونة، لأن العربية لم تعد في حيز الاهتمام مثل الإنجليزية، لأن السوق العمل يطلبها، وتلاشت حتى معركة العامية والفصحى.

المراجع
  1. محمد عرفة: مشكلة اللغة العربية، لماذا أخفقنا في تعليمها، وكيف نعلّمها، تقديم حسن الشافعي. ونظير عياد، الإدارة المركزية للشؤون الفنية بمشيخة الأزهر، القاهرة، 2020 م. ص76.
  2. فتح الله سليمان: ما اللغة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 2012، ص72-73.
  3. محمود فهمي حجازي: علم اللغة العربية، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1973، ص121.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.