القومية العربية من الإرساليات التبشيرية إلى الغارات الروسية

ليس القصد من المقال –كما قد يوهمه العنوان- هو التأريخ للقومية العربية، ولا حتى القومية العربية في ذاتها، ولكن المقصود هو رصد لصيرورة ما يمكن تسميته «الأفكار المفتعلة والمصنعة» وهي الأفكار التي تفتقد لمقومات الأصالة والصلاحية، ومن أهم مقومات الأصالة في الأفكار أن تكون إجابات تلقائية على حاجات وإشكالات واقعية ملحة، ثم تمر بمراحل التطور الفكري المعهودة لتنتهي إلى قوام فكري ناضج وصالح لملء فراغات الواقع والإجابة على أسئلته المعقدة.

أما الأفكار المفتعلة هي إجابات مصنعة في مصانع الأفكار الاستعمارية، خالية عن الأصالة والتطور الفكري، فتكون في صورتها النهائية أطرًا شعاراتية خاوية من المضمون، فقيرة في إجاباتها وحلولها، بل ربما تكون ثغرات طروادية يمكن تحميلها بأي محتوى، والإمساك بناصيتها من أي جهة، بل قد تتحمل بما يتناقض حتى مع عنوانها وإطارها العام.

وقصة القومية العربية هي نموذج مثالي لهذه الصيرورة؛ لأنه يمكن بسهولة رصد مبدئها المفتعل الخالي من أي تطور فكري أو أساس فلسفي سليم أو حاجة واقعية ملحة كما هو مبدأ الأفكار الحقيقية، ثم نعيش الآن في المأساة السورية مصيرًا ومآلاً لهذه الفكرة المفتعلة ليس فقط مفزعًا من الناحية الإنسانية، بل مفزع أيضًا من جهة التناقض الفلسفي.

فكيف نتصور أن حزب البعث السوري أحد تجليات القومية العربية يمكن تحميله واستعماله من جهة مشروع فارسي حاقد على العرب ودين أكثرهم الإسلام السني؟

كيف تحمل الإطار العروبي بمحتوى مضاد للعروبة ؟!

لكن تزول الدهشة بملاحظة أن هذا الإطار «القومية العربية» هو فكرة مفتعلة ومصنعة وخالية من الأصالة والتطور الفكري.

النشأة

ورغم تعقد وتركب المشهد التاريخي الذي ظهرت فيه هذه الفكرة، يمكننا بسهولة أن نرصد الرافد الأكبر والمكون الرئيس لها خارجًا من المدارس التبشيرية

يقول جورج أنطونيوس، أحد أهم مؤرخي القومية العربية:

ويصرح أنطونيوس أيضًا بأن جمعية العلوم الآداب التي نمت في ربوعها الحركة العربية القومية لم يكن فيها مسلم واحد، وإنما اقتصرت في تشكيلاتها الأولى على النصارى العرب وأعضاء البعثات التبشيرية.[2]

وخلف هذه العناوين كثير من التفاصيل توصل إلى يقين بأن الحركة العربية القومية «قامت في البدء على عناصر مريبة دربت وأعدت في مدارس التبشير وبيوت القناصل وأقلام المخابرات الاستعمارية».[3]

وأنه –بحسب كشك- هذه الحركات ليست إلا وجها جديدا يتخفى خلفه عدونا الأبدي.[4]

فالوجود اليقيني لليد الاستعمارية خلف مسرح القومية العربية لا يدع مجالاً للشك أنها فكرة طارئة مصنعة غير أصيلة ولا حقيقية رغم ما بذل من محاولات التأصيل والدعم الفلسفي اللاحقة.

وهذه اليد الاستعمارية والفراغ النظري والفلسفي في القومية العربية سنراه بوضوح في المشاهد الكبرى التي ظهرت فيها القومية العربية على المسرح السياسي العربي والإسلامي.

الظهور السياسي الأول

فأبكر المشاهد وأول ظهور للقومية العربية على الساحة السياسية كان في ثورة الحسين الهاشمي، والتي وإن كان يمكن تسميتها «القومية العربية المؤمنة» لظهور العاطفة الدينية بوضوح في مفردات الخطاب الهاشمي بخلاف صور أخرى من القومية العربية سيعرفها التاريخ بعد ذلك.

إلا أن المحتوى الديني كان يستتر خلفه مشروع قومي مصلحي. يقول لورانس رفيق الهاشميين :

ولا يتسع المقام لسرد تفاصيل هذه الثورة ولكن الذي يعنينا هنا أنه كان مشروعًا بريطانيًا موجهًا ضد الإمبراطورية العثمانية، واعتبر إنجازًا لمدرسة كيتشنر.[6]

وتم استثمار ضبابية وفراغية المشروع القومي العربي الناشئ لتحقيق أهداف استعمارية بريطانية. قال لورانس:

وفي المحصلة ساهمت القومية العربية بالمشاركة مع القومية الطورانية التي سبقتها في الظهور في تركيا في إسداء أجل الخدمات للمشروع الاستعماري البريطاني في المنطقة، وصولاً إلى وعد بلفور ووضع فلسطين تحت الانتداب، ثم إنشاء وطن قومي لليهود، إلى آخر متتالية الكوارث الاستعمارية.

الظهور السياسي الأبرز

وبعد الظهور القومي الأول كان الظهور القومي الأبرز بعد ثورة يوليو/تموز 52، ولكن هذه المرة سينتقل المحتوى القومي الهاشمي المؤمن إلى مشروع قومي أكثر ضبابية وفراغية وتجردًا من الدين متعاون مع مستعمر أكثر دهاءً وقدرة على الاختباء وراء الستار وهو المستعمر الأمريكي.

ففي أجواء التناقض والتنافس الأمريكي-البريطاني في المنطقة عقب الحرب العالمية الثانية [8]، تلاقت المساعي الأمريكية لإخراج بريطانيا والإحلال محلها مع مساعي جماعة من الضباط للغرض نفسه.

يقول محمد جلال كشك:

كما أن هذا الفرض المتمثل في الرعاية الأمريكية لثورة يوليو هو وحده القادر على تفسير أحداث هذه الحقبة، مثل اطمئنان عبد الناصر التام لعدم تحرك بريطانيا ضد الثورة [10]، ومطالبة عبد الناصر بحذف كلمة «الاستعمار الأمريكي» من منشورات الثورة [11]، علاوة على اللقاءات التي عقدها الضباط مع ممثلي أمريكا في مصر.[12]

والذي يعنينا هنا أننا أمام السيناريو ذاته، الشعارات الإطارية الفارغة من الأصالة والمحتوى التي رفعها مجموعة من الضباط، والتي نفذ من خلالها الطموح الاستعماري الجديد.

وتحت هذا الشعار بمحتواه الاستعماري، تجرعت الأمة العربية نكبات متتالية، لم تدفعها خطوة للإمام وإنما دفعتها خطوات إلى الخلف، بداية من انفصال مصر والسودان وانتهاء بهزيمة 67 والتي كانت الحدث العربي الأسوأ في القرن العشرين بعد قرار التقسيم.

العرب على مذبح القومية العربية

أما حزب البعث السوري فقد وضع أكثر مشاهد القومية العربية إثارة ومأساوية، ففي هذه الحقبة من تاريخ القومية العربية وصل التمايز بين العروبة وبين الدين الرسمي للعرب «الإسلام السني» إلى ذروته، ثم انتقل في مراحل لاحقة إلى التنافس والعداء.

بينما فتح التجلي الأحدث للقومية أبوابه وأذرعه للأقليات الدينية للتحكم وبسط سلطانها على الأكثرية السنية، ولم يكن التشبث بالعروبة ورفع شعاراتها سوى ستار تتمكن به الأقليات من تقلد أعلى المناصب الحزبية والعسكرية في غفلة من الأكثرية السنية المُخَدَّرَة بشعارات القومية التي روجتها على خير ما يكون الحقبة الناصرية في مصر.

فمن أوائل من بشر بهذا الحزب هو العَلَوي السوري زكي الأرسوزي، والذي كان يعتبر الجاهلية هي العصر الذهبي للعرب وليس الإسلام [13]، ومنظر الحزب الأكبر ومؤسسه هو المسيحي الأرثوذكسي ميشيل عفلق مع صلاح البيطار.

ولا يمكن في حزب البعث تحت الشعارات أن نرصد محتوى فكريًا وفلسفيًا واضحًا ومجيبًا على أسئلة الواقع وكافيًا في حل إشكالاته، وهو ما اعتدناه من القومية العربية.

وليس أدل على هذه الضبابية البعثية والعروبية من علاقة حزب البعث السوري مع نظائره العروبيين، فقد ناصبوا عبد الناصر العداء وكانوا يتهمون ناصر بالافتقاد إلى النظريات المتماسكة والدكتاتورية، في حين كان يتهمهم بالخيانة [14]. أما حزب البعث العراقي الذي حمل نفس الاسم والشعارات، بل واستقدم «فيلسوف القومية» عفلق إلى العراق، فقد حظي ببعض لحظات التعاون مع الحزب السوري، ولكن في غالب أحواله كان العدو الأخطر للبعث السوري، حتى أنه حكم على مؤسس الحزب عفلق بالإعدام، وصولاً إلى المشاركة في حرب الخليج تحت القيادة الأمريكية!.

الذي يعنينا هنا أن الفراغ العروبي قفز فيه هذه المرة أبناء الطائفة العلوية الذين أسسوا ما سمي “اللجنة العسكرية” داخل الحزب، والتي ضمت طوائف مختلفة، مع الاحتفاظ بالسيادة والقيادة الفعلية للعلويين، ثم تعاظم دورها مع مرور الوقت وتفتت الحزب وتوزعه بين أجنحة مختلفة قومية وقطرية وشيوعية.

ثم استطاعت هذه اللجنة أن تبسط سيطرتها التامة على سوريا بأسرها في انقلاب عسكري عام 1966، وصل على إثرها حافظ الأسد إلى منصب وزير الدفاع الذي سرعان ما تلقى هزيمة قاسية عام 67 بعدما تم تجريف وتجريد الجيش من أكفأ قياداته لأهداف طائفية غير معلنة.[15]

ثم قفز الأسد إلى السلطة فيما سماه «حركة التصحيح» عام 1970.

وبعد أن وطد الأسد دعائم حمكه الدموي السلطوي ظهر التناقض الأيدلوجي الفج مع شعارات القومية في أكثر من موقف، منها دعم إيران الخمينية في مواجهة حزب البعث العراقي، ومنها: دعم المسيحيين في مواجهة الفلسطينيين في الحرب الأهلية اللبنانية، وإبادة مدينة حماة لدحر التمرد السني في مقابل الضعف والموادعة في مواجهة الكيان الصهيوني في لبنان، …إلخ.

ثم جاءت الثورة السورية عام 2011 لتكتب أكثر الفصول مأساوية وتناقضًا في تاريخ الحزب السوري والقومية العربية.

فمنذ انتقلت الثورة السورية إلى الصراع المسلح حتى ظهر ضعف وقلة حيلة النظام السوري ضد المقاومة الشعبية المعبئة بمرارة أربعين عامًا من الحكم الطائفي الدموي، فما كان من النظام السوري إلا أن أخلى الساحة لحزب الله ثم إيران لتخطو خطوة توسعية جديدة في مشروعها الفارسي الرافضي.

ثم مع استعصاء الثورة السورية على القوة الإيرانية تم استدعاء روسيا، تريد أن تأخذ مكانًا جديدًا في ساحة الصراع الدولي، لتقوم باحتلال سوريا وشن حرب إبادة على أهلها.

وهكذا وقف قطار القومية العربية هذه المرة في محطته الفارسية الروسية، بعد محطاته البريطانية ثم الأمريكية، لتثبت القومية العربية أنها الثغرة الفكرية والأكثر استخدامًا من قبل أعداء العرب والمسلمين في التاريخ الحديث.

وأهم الإشارات التي يمكن أن تعطيها هذه السردية المختصرة أن أهم مكونات التحرر الحقيقي هي التخلص من الأفكار الطارئة والمصنعة والثغرات الطروادية بأشكالها المختلفة واستلهام واسترداد الثقافة الحقيقية والأصيلة للشعوب المسلمة.