في خطوة غير مسبوقة، قررت باكستان، ثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد المسلمين، بتعداد يتجاوز 200 مليون مسلم، أن تعلم أبناءها اللغة العربية في خطوة لتعزيز الهوية الدينية، من المقرر أن يبدأ العمل بها في أغسطس/آب المقبل.

ففي مطلع فبراير/شباط الماضي، وافق مجلس الشيوخ على قانون يجعل تدريس اللغة العربية إلزامياً في الصف الأول الابتدائي وحتى نهاية المرحلة الثانوية، بحيث يُطبق في البداية في العاصمة إسلام أباد تمهيداً لإقراره بعد ذلك في عموم الدولة التي تضم ما يقارب 11% من سكان العالم من المسلمين.

قد تقدم أحد النواب بمشروع القانون في اجتماع للجنة الدائمة لمجلس الشيوخ حول التعليم الاتحادي في أكتوبر/تشرين الأول 2020، ووافق عليه أعضاء مجلس الشيوخ بالإجماع تقريباً حين تم عرضه للتصويت، ولم يعترض إلا عضو واحد، وبذلك أضحت وزارة التعليم ملزمة بتطبيقه خلال ستة أشهر.

وقد دافع وزير الدولة لشؤون مجلس النواب علي محمد خان عن القانون مبيناً أن الحكومة تؤيده بشكل قاطع، وأنه وفقاً للدستور «يجب اتخاذ الإجراءات اللازمة لتكون حياتنا وفق الكتاب والسنة النبوية»، وربط قضية اللغة بهوية باكستان كدولة إسلامية قائلاً: «أنت بحاجة إلى العربية لتصبح مسلماً جيداً لأنك ستحتاج إلى العربية لفهم رسالة الله»، مجادلاً بأنه من غير المجدي مناقشة القضية في بلد تم إنشاؤه على أساس كونه وطناً للمسلمين.

يعمل ملايين الباكستانيين في دول الخليج العربي، وتعلم اللغة يمكن أن يفتح المزيد من فرص العمل لهم هناك ويساعد على تقليل البطالة وزيادة التحويلات المالية من الخارج التي ترفد اقتصاد البلاد بمليارات الدولارات، كما أنها خامس أكثر اللغات انتشارًا في العالم.

ينص الدستور الباكستاني الصادر منذ عام 1973 في مادته الحادية والثلاثين على مسؤولية الدولة عن تمكين مسلميها من تنظيم حياتهم وفقًا لمبادئ ومفاهيم الدين، وتمكينهم من فهم معنى الحياة وفقاً للقرآن والسنة، وجعل تعليم القرآن إلزامياً وتشجيع تعلم اللغة العربية، لذا فقد وُصف القانون بأنه خطوة متأخرة نحو وفاء الدولة بمسؤوليتها الدستورية.

أثار القانون جدلاً في باكستان إذ تعرض لانتقادات من الأحزاب العلمانية الذين اتهموا حكومة الرئيس عمران خان بمحاولة أسلمة التعليم، لاسيما وأنه يترافق مع إقرار منهج «SNC» المليء بالمحتوى الديني كالأذكار والأخلاق الإسلامية ليتم تطبيقه على عموم المدارس في جميع مراحل التعليم، لذا تعرضت الحكومة لانتقادات أنها تلجأ لهذه الخطوة للتغطية على فشلها في ملفات أخرى، وأن العرب أنفسهم لا يظهرون أي اهتمام بإحياء هذه اللغة، لكن تلك القرارات تلقت تأييداً شعبياً كبيراً في بلد كباكستان الذي يشتهر عالمياً بظاهرة المدارس الدينية الملحقة بالمساجد، ففي رأي كثير من المواطنين، ستخفف هذه القرارات عن أبنائهم عبء دراسة اللغة والقرآن في أماكن أخرى بعد انتهاء اليوم الدراسي، وسيكون لها أثر أخلاقي إيجابي على الشباب.

تحدي التطبيق

بعيداً عن التنظير فإن الواقع العملي الباكستاني يبدو شديد التعقيد مما يضع تحدياً حقيقياً أمام تطبيق مثل هذا القرار، فالبلاد تتكون من أربعة أقاليم رئيسة: يتحدث أهالي إقليم البنجاب اللغة البنجابية، وفي بلوشستان اللغة البلوشية، وفي السند السندية، وفي خيبر بختونخوا لغة البشتون، كما أن اللغة الوطنية هي الأُردية وهي اللغة الرسمية إلى جانب الإنجليزية، فالمدارس التي يتلقى فيها غالبية الطلبة تعليمهم يتم التدريس فيها بالأردية بينما لغة الدراسة في الجامعة هي الإنجليزية.

من جهته، أكد الدكتور إبراهيم محمد إبراهيم، أستاذ اللغة الأردية وآدابها بكلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر، أن الخلاف حول اللغة كان أساس الافتراق بين شعوب شبه القارة الهندية قبل تأسيس باكستان بوقت طويل. ففي عام 1867، طالب غلاة الهندوس بكتابة الأردية بالحروف الديفاناغارية بدلاً من الحروف العربية بذريعة أنها مرتبطة بالديانة الإسلامية الوافدة على البلاد، وهو ما تم بعد ذلك بالفعل وشكل نقطة افتراق بين المسلمين والهندوس وقاد بعد ذلك إلى انفصالهم في دولتين مختلفتين هما الهند وباكستان، كما أن انفصال بنجلاديش عن باكستان عام 1971 كان الخلاف اللغوي أحد أسبابه الرئيسية.

وأضاف في تصريحاته لـ«إضاءات» أنه في الخمسينيات من القرن العشرين، كانت هناك خلافات بين البنغالية والأردية على تولي عرش اللغة الرسمية في باكستان، وحينها رأى البعض أن الحل هو في اعتماد العربية لتوحيد الصف والقضاء على العصبية اللغوية والإقليمية، وتبنى هذه المطالبة عدد من النواب البرلمانيين في ذلك الوقت لكن المشروع فشل لصعوبة تنفيذه.

وتابع أن تحول باكستان إلى العربية يظل أمرًا شديد الصعوبة، رغم أن تغيير اللغة أمر وارد مثلما حدث قديمًا في مصر التي تحول أهلها إلى اللغة العربية، وكذلك تركيا التي بدلت كتابة لغتها عام 1928 إلى الحروف اللاتينية، لكن يظل تحويل لغة 220 مليون مواطن باكستاني ليس أمراً هيناً، معرباً عن اعتقاده بضرورة توثيق الصلات بين العربية واللغات المحلية هناك بحيث يتم إدخال المصطلحات العربية التي تتوافق مع صوتيات هذه الألسن كلما أمكن ذلك.

عوائق الحلم

مما لا شك فيه أن إتقان لغة القرآن الكريم يمثل حلماً لدى كثيرين في باكستان، ويحظى دارسو هذه اللغة بالتقدير بين الناس الذين كثيراً ما يعدونهم من الفقهاء لمجرد استطاعتهم فك شفرة العربية، ولكن تحدي سوق العمل يواجه عدداً ممن تعلموها فلا يجدون وظائف مناسبة ولا يستطيعون إفادة الآخرين بعلمهم مما كان له أثر في عزوف البعض عن تعلمها، لكن لعل هذا القانون الجديد إن وجد سبيلاً للتطبيق أن يعالج هذا الأمر عبر توظيف دارسي لغة الضاد وتحويل تعلم اللغة إلى مشروع مربح مما يغري الشباب بالاتجاه إليه.

تقع على الدول العربية مسؤولية في نشر لغتها، فرغم وجود بعض المبادرات الرسمية والشعبية إلا أن اثنين وعشرين دولة في جامعة الدول العربية لا تصل جهودها مجتمعة إلى ما تبذله دولة مثل إيران لدعم لغتها، إذ أنشأت الأخيرة مئات المعاهد والمراكز الثقافية والمكتبات بل والجامعات في جميع الأقاليم الباكستانية وقدمت منحاً دراسية لأعداد كبيرة من الشباب الباكستاني، وبلغت الفارسية شأناً في باكستان جعل الحكومة السابقة في إسلام أباد تدرس جعلها لغة إلزامية في المدارس.

يأتي هذا بينما تملك الدول العربية فرصاً لتعزيز قوتها الناعمة ونشر لسانها بين ملايين الباكستانيين الذين يقيمون على أرضهم في قلب المجتمعات العربية، لكن مع افتقاد وجود مشروع واضح للتعريب يعيش العاملون سواء من باكستان أو غيرها من الدول الآسيوية لفترات قد تصل لأكثر من 20 عاماً بين العرب الأقحاح، يتواصلون معهم بلغة هجينة لا تنتمي لا إلى الفصحى ولا إلى أي من لهجات المنطقة ويكتفي بعضهم بحفظ عبارة «ما في عربي» ليصدمك بها أينما اتجهت، بل إن العديد من فرص العمل في تلك البلاد يُشترط فيه إتقان الإنجليزية وليس لسان البلد، وهذا ما جعل قرار مجلس الشيوخ الباكستاني عُرضة لانتقاد البعض الذين لاموا قومهم على تبني لغة لم يُكرمها أهلها.