منذ خلق الله الكون، واختار الإنسان ليكون حامل الرسالة وخليفته في الأرض، كان من أخص خصائص الإنسان أنه يتكلم وله لغة يستطيع أن يُعبِّر بها عن أفكاره ومشاعره. فلا عجب أن يكون أول ما نص عليه صاحب الشريعة عز وجل في كتابه الكريم -بعدما أقر أن الإنسان خليفته في الأرض- أنه كرّمه وعلّمه الأسماء، ولم يتركه في الأرض يتخبّط، فقال تعالى:

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
سورة البقرة/ آية 31.

ولذلك كان ارتباط اللغة بالتعلم وحمل الرسالة ارتباطًا وثيقًا، لا يكاد ينفك أحدهما عن الآخر، فمن لا يعلم الأسماء لا يمكنه حمل الرسالة.

اللغة والتفكير

يُقال إن اللغة هي الأفكار المنطوقة، أي أن الإنسان لا يستطيع التلفظ بشيء لا يستطيع تصوره، والعكس صحيح.

فمن يملك فكرة ولا يستطيع التعبير عنها، يكون في قرارة نفسه كالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً. وهذا ما عرضه الأديب جورج أورويل في روايته «1984»، فكان «الأخ الأكبر» يسعى للقضاء على «جريمة الفكر»، وخصّص قسمًا لها في وزارة الحقيقة، تلك الوزارة المختصة بشؤون التعليم والفنون الجميلة. يعمل هذا القسم على تنقيح اللغة وتقليل عدد مفرداتها ونعوتها، حتى لا يملك أي فرد المقدرة على ارتكاب أي جريمة فكرية. فإن كان الشخص لا يستطيع تصور أفكاره والتعبير عنها، فكيف سيرتكب جريمة الفكر وفق تصور الرواية.

ومن أجل ذلك أيضًا، حرصت الأمم في الماضي على نشر لغاتها، كي تضمن لنفسها بقاء هويتها، فيُروى أن أرسطو قال لتلميذه الإسكندر الأكبر:

إذا خرجت للحرب وفتحت مدينة، فاذهب وابحث عن كاتب أغانيها، فهو حاكمها.

وفي ذلك أيضًا قال ابن خلدون:

إن قوة اللغة في أمة ما، تعني استمرارية هذه الأمة بأخذ دورها بين بقية الأمم، لأن غلبة اللغة بغلبة أهلها، ومنزلتها بين اللغات صورةٌ لمنزلة دولتها بين الأمم.

ويتضح من ذلك أن اللغة ليست بالشيء الهين الذي يمكن إهماله، وإنما هي منْ أخص خصائص الفرد كما ذكرت، بل إن الإنسان لا يكون إنسانًا معلوم الهوية إلا باللغة.

ولن يكون العرب قادرين على حمل تراث أجدادهم وحضارتهم والتقاطها من غيابات جُبِّ الاستعمار، إلا إذا اتخذوا لغة القرآن أداة للحياة والفكر والتعبير.

اللغة العربية كأداة علمية

يذهب العديد منّا -نحن أبناء الألفية الجديدة- إلى الظن بأن العلوم منذ نشأت على صورتها الحالية، محمولة على كتفي الحضارة الغربية واللغات الأجنبية، بل يكاد يشك الواحد منّا في مقدرة اللغة العربية على الإحاطة بالعلوم الطبيعة بمختلف فروعها.

والمُطّلع على التاريخ يعلم أن اللغة العربية، دون أن تحيط بأي علم من العلوم، هي أكثر اللغات عبر التاريخ امتلاكًا للجذور، وأوسعهم مقدرةً على التعبير، حتى كان يُطلق على العرب قديمًا «جن الإنس»، لما كان في مقدورهم التعبير عن أفكارهم بسلاسة وسليقة لا تعرف التكلّف، ولا تجد صعوبة في وصف أي ما كان المراد وصفه.

أمّا عن إحاطة العربية بالعلوم، فقد عبَّر عن ذلك المؤرخ الفرنسي «جوستاف لوبون» مُوضحًا أنه لا توجد أمة فاقت العرب في البحث والمعرفة، حيث كان للعرب في إسبانيا وحدها 70 مكتبة عامة، وكان في مكتبة الخليفة «الحكم الثاني» بقرطبة، 600 ألف كتاب، منها 44 مجلدًا من الفهارس.

وقد كانت حضارة أوروبا آنذاك في حالة علمية يُرثى لها، حتى قيل:

إن «شارل الحكيم» لم يستطع، بعد 400 سنة، أن يجمع في مكتبة فرنسا الملكية أكثر من 900 مجلد، يكاد ثلثها يكون خاصًا بعلم اللاهوت.

فلم يكن هنالك أدق من وصف لوبون في ختام أحد فصول كتاب «حضارة العرب»، تحت عنوان «مصادر معارف العرب» مُوضحًا:

سترى في الفصل الذي ندرس فيه هذا أن العرب وحدهم كانوا أساتذة الأمم النصرانية عدة قرون، وأننا لم نطّلع على علوم قدماء اليونان والرومان إلا بفضل العرب، وأن التعليم في جامعتنا لم يستغنِ عمّا نُقل إلى لغتنا من مؤلفات العرب إلا في الأزمنة الحاضرة.

تعريب الطب في مصر الحديثة

تبنّى محمد علي باشا حركة تعريب العلوم، وكان من ذلك تعريبه لعلم الطب، واستعان في ذلك بالطبيب الفرنسي «كلوت بك».

في بادئ الأمر، كان محمد علي يرغب في استقدام أطباء أوروبيين معاونين لكلوت بك لخدمة الجيش المصري، فعرض عليه كلوت بك أن يُنشئ مدرسة لتعليم الطب لأبناء البلاد، لأنه من الصعب أن يحدث تواصل بين الأوروبيين والجيش العربي والتركي. ولكن المشكلة كانت في أن المراجع الطبية كلها باللغة الفرنسية. فلم يكن هنالك حل إلا أن تتم دراسة الطب بالفرنسية.

كان الحل الآخر هو اللجوء إلى التعريب، حيث رأى كلوت بك أن تعليم الطب بالأجنبية لا تحصل منه الفائدة المنشودة، لأنه لا يتيح توطين العلم أو تعميم نفعه، وسيؤدي إلى عائق في التواصل بين الطبيب والمرضى، لأن الطبيب عربي وسيعالج مرضى عربًا أيضًا، فلا تستقيم الدراسة بالفرنسية.

لمّا بدأوا في محاولة التعريب، وجدوا أنه لا أحد من المصريين يعلم الفرنسية، فتم استقدام بعثات من الشام لتعليم اللغات الأجنبية لغرض الترجمة، وكان أول المتعلمين طلبة الأزهر، والذين سافروا فيما بعد إلى فرنسا لدراسة الطب، ثم عادوا لترجمة كتاب الطب إلى العربية، كشرط من شروط التخرج والتعيين في الخدمة الطبية المصرية. وبذلك توفرت المراجع الطبية اللازمة لتعليم الطب بالعربية، بما يحفظ على الأطباء صحة ممارستهم للمهنة، ويحفظ لهم هويتهم.

ضرورة أم رفاهية؟

إن من أكثر الإشكاليات ضررًا بالمسيرة العلمية للغة العربية، هي فصل العلوم وتصنيفها إلى علوم دنيوية وعلوم دينية. والتراث الإسلامي لم يكن يعرف ذلك الفصل قديمًا، فقد كان شيئًا اعتياديًا أن تجد عالم الدين –قديمًا- طبيبًا أو كيميائيًا، ويجيد التحقيق والتصنيف في شتى العلوم، دون أن يستمسك بعلم من العلوم على حساب العلوم الأخرى.

ومن أمثلة ذلك شيخ الأزهر الشيخ «أحمد الدمنهوري»، الذي تولّى مشيخة الجامع الأزهر سنة 1183هـ/ 1768م. وكان طبيبًا وله عديد من المؤلفات في علوم اللغة العربية والفقه والسياسة والجيولوجيا والطب والكيمياء. ومن مؤلفاته الطبية:

  • القول الصريح في علم التشريح.
  • القول الأقرب في علاج لسع العقرب.

فعدم وجود عائق اللغة كان يُسهِّل دراسة شتى العلوم لتوافرها بالعربية. أمّا الآن فقد آل بنا الأمر إلى ما آل إليه مع «شارل الحكيم»، حينما لم يستطع أن يجمع في مكتبة فرنسا الملكية أكثر من 900 مجلد ثلثها خاص بعلم اللاهوت، كذلك لم تعد حصيلة نتاجنا العلمي بالعربية تتجاوز –بالكاد- العلوم الدينية.

إن الخطاب القرآني يحث على طلب العلوم أيًا ما كانت، ما دامت ستؤدي لزيادة المعرفة بالخالق عز وجل وإدراك تجلَي قدرته في الآفاق وفي أنفسنا. وإن آيات الله في الكون يُضِل بها من يشاء، ويهدي بها من يشاء.

فحينما وقعت العلوم في أيدي الثقافة الغربية وأصبحنا ننظر للعالم والعلوم من خلال عيون زرقاء، أصبحنا نرى الكون بأعينهم هم، لا بمنظار ثقافتنا وديننا.

إن الأمة العربية والإسلامية لن تُبعث من مرقدها إلا بمحاولة بناء مرجعية فكرية راسخة، فتستطيع أن تطّلع على علوم الغرب دون أن تقع أسيرة لفلسفته وأفكاره، ومن ثَمَّ تكون قادرة على ترجمتها والعودة بها لأحضان الضاد. وكلما تأخر السير في هذا الدرب، زاد العبء ولم يقل.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.