الاغتراب كان وما زال قضية الإنسان أينما وجد، فطالما أن هناك فجوة شاسعة بين الأحلام الفطرية للبشر وبين واقعهم، وطالما أن هناك تعارضًا واضحًا بين القيم النظرية والمثل الإنسانية وبين حقيقة السلوك البشري، وهناك خللًا في العلاقة بين الإنسان والآخرين، واضطرابًا في علاقته مع ذاته، وعدم التماهي بين الفرد والمجتمع، فلا بد أن يشعر الإنسان بالاغتراب وإن تعددت المجتمعات واختلفت، وإن تعاقبت العصور كذلك تظل قضية الاغتراب السمة المشتركة لجميع الذين يعانون من وجود شيء ما يفصلهم عن واقعهم وعالمهم.

إن ظاهرة اغتراب الفرد عن محيطه لم تعد السمة التي يعاني منها فقط المبدعون من الشعراء والكتاب والفنانين، بل تحولت إلى حالة شبه عامة يكابد مفاعيلها الجميع.

في الوقت الذي تتواتر فيه الهزائم والانكسارات على امتداد العالم العربي، يتضخم معها الإحساس بالإحباط والشعور بالخيبة لدى أبناء المجتمع كافة، خاصة شريحة المثقفين والمبدعين الذين تبدأ علاقتهم مع السلطة السياسية بكل دلالاتها في التأزم، نتيجة اصطدام طاقاتهم الإبداعية ورؤيتهم وأحلامهم بواقع قاتم مستبد، مما يؤدي إلى حالة من الاغتراب يعيشها المثقفون والمبدعون الذين يفضل جزء منهم الاستسلام والانكفاء على الذات.

حتى في بعض الدول الغربية التي تعاني من ظروف معيشية متردية بسبب الضائقة الاقتصادية، وتعاني كذلك من انعدام المساواة وغياب بعض الحريات في مجتمع رأسمالي، فإننا نجد الناس تميل إلى الانكفاء على أنفسها نتيجة الإحساس بالاغتراب، خاصة أولئك الذين يخفقون في تحقيق أي نوع من الانسجام والتماهي مع أعراف وثقافة وتقاليد وقوانين المجتمع، فتلجأ إلى الانعزال والانسحاب والانكفاء.


الاغتراب كمفهوم

يعود استخدام مصطلح «الاغتراب» منهجيًا للفيلسوف الألماني «هيغل» الذي اعتبر أن الاغتراب هو قيام الفرد بنفي ذاته عن نفسه كفاعل مؤثر، فيتحول إلى مفعول به، فيكون غريبًا عن محيطه، لا ينتهي هذا الاغتراب إلا حين يتماثل الإنسان بنفسه مع موضوعه وأهدافه، من خلال صنع هوية ثابتة تخصه وحده من خلال عنصر آخر: «الوطن، العمل، العقيدة»، واعتبر أن للاغتراب وجهين؛ أحدهما سلبي يؤدي إلى الانعزال، والآخر إيجابي يوصل للإبداع.

ويستخدم مصطلح الاغتراب للدلالة على حالة ضياع الإنسان والتيه الذي يصيبه، والشعور بالغربة عن نفسه وعن المحيط الذي ينتمي إليه، وكذلك هو اغتراب الفرد عن المنظومة السياسية والاقتصادية والحقوقية والثقافية.

الاغتراب توصيف يشير إلى حالة من العجز عن تحقيق الإنسان لتطلعاته، واللا مبالاة التي يبديها تجاه الأحداث المحيطة، ثم الانفصال عن واقعه ومجتمعه، هذا يؤدي إلى انعزال الإنسان عن الآخرين وانكفائه على ذاته، وشعوره بالقهر والانسحاق والطحن والتفتت، فيصاب بالتسليم والاستكانة ثم الانقياد.

يفقد الإنسان الذي يعاني الاغتراب الضوابط المعيارية التي تحكم سلوكه ومواقفه، ويعاني من الإحساس بفقدان المعنى لكل شيء، ويقطع صلته مع حركة المجتمع، ويصاب بالفكاك الثقافي، واغتراب عن وجوده الحقيقي وقيمته الروحية. ونلاحظ الطابع التشاؤمي لديه نتيجة الانغلاق والتقوقع على حاله، فيصاب باستسلام للقدر، وحالة من الإحباط الشديد يبررها أن كل شيء أصبح عبثيًا بالنسبة له، وأن الإحساس بالفراغ واللا جدوى يسيطران عليه، فيستوي الموت مع الحياة من وجهة نظره بسبب الاكتئاب، ثم يجد أن لا خيار متاح أمامه سوى الرضوخ والانصياع للشرط السياسي والاجتماعي والديني.

الناس الذين يصابون باغتراب عن أنفسهم ومجتمعهم، يكرهون العمل والإنتاج ويفقدون الإبداع، خاصة الشريحة المثقفة، نتيجة الإحساس بأن مجتمعهم لا يقيم للإبداع قيمة، ولا يهتم بالطاقات الخلاقة، وأن غاية السلطة السياسية هي تحويل الإنسان إلى مجرد ماكينة تؤدي وظيفة محددة وعملًا معينًا، دون أي اعتراضات بعد أن يتم تفريغ الفرد من الجوانب الروحية وقتل شغفه.

قد يؤدي الشعور بالاغتراب إلى الانتحار خاصة لدى المبدعين الذين لا يمكنهم الانصياع ولا التكيف، كما حصل مع العديد من الأسماء في الوطن العربي أو الغرب، أذكر منهم الكاتب الأمريكي «إرنست همنغواي» الذي انتحر عام 1961، الشاعر اللبناني «خليل حاوي» عام 1982، المغنية المصرية- الإيطالية «داليدا» العام 1987، الممثل الأمريكي الحائز على جائزة الأوسكار «روبن ويليامز» عام 2014، وآخرون. فيما يسعى آخرون لاستعادة مكانتهم من خلال التمرد والثورة على ما هو سائد في المجتمع.

الاغتراب كظاهرة يأتي أيضًا نتيجة جملة التحولات المجتمعية الجسيمة، والمتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية كما تلك التي تولدت في المجتمعات العربية، بسبب السياسات القهرية الكبتية التي تنتهجها معظم الدول العربية التي تُظهر وجهًا حضاريًا وسلوكًا استبداديًا. فالوطن العربي الذي أضحى معقلًا لفنون الاستبداد والقتل والظلم والرياء، وعنوانًا للفقر والجهل والبطالة والتخلف والعنف، تسبب في إحداث شرخ بكينونة وشخصية الإنسان العربي، وسلب منه دوره وحقوقه، فأصبح فردًا انهزاميًا ومرتبكًا وتائهًا، فقد التحكم بحياته، وصار خاضعًا للقمع وإخضاع من قبل قوى سياسية واجتماعية، بدءًا من البيت والأسرة مرورًا بالسلطة الدينية ورموزها، انتهاء بالسلطة السياسية ودلالاتها وأدواتها المتعددة.

هذا القهر والقمع والاستبداد الذي تتسم به غالبية النظم السياسية والاجتماعية العربية، هو أحد أهم أسباب التفكك والانحلال السياسي والاجتماعي والديني في بلادنا، ويشكل خطرًا يهدد الوحدة المجتمعية، ويعيق الاتصال الحضاري والإنساني مع بيئات أخرى متنوعة.


العرب في أوروبا

العرب المقيمون في القارة الأوروبية هم كتلة غير متجانسة، لا من حيث جذورهم الجغرافية، ولا من حيث التركيبة العمرية والمدة التي قضوها في مجتمعاتهم الجديدة، ولا من حيث تحصيلهم الدراسي والعلمي أو تكوينهم المهني.

تعود هجرة العرب نحو أوروبا في العصر الحديث إلى نهاية القرن التاسع عشر، واقتصرت على المئات من دول المغرب العربي نحو فرنسا، وبأعداد أقل من المشرق العربي، وهجرة بعض أبناء اليمن والعراق وفلسطين نحو بريطانيا، وكذلك بعض الليبيين نحو إيطاليا. لكن هذا الوضع تغير تمامًا مع وبعد الحرب العالمية الثانية، حيث تم تجنيد عدد من العرب ضمن قوات الحلفاء في مواجهة القوات الألمانية النازية والفاشية الإيطالية.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تدفق إلى الدول الأوربية مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولاندا، مئات الآلاف من الأيدي العاملة العربية، معظمهم من دول شمال أفريقيا، حيث كانت هذه الدول الخارجة من حرب مدمرة تبحث عن أيادٍ عاملة رخيصة، لإعادة إعمار وبناء ما هدمته الحرب. ثم التحقت بهم عائلاتهم في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.

وعلى الرغم من أن الجاليات العربية كانت -بمعظمها- متماسكة في الفترات الأولى لوجودها في أوروبا ومرتبطة ببلدانها، وبالأحداث التي تعصف بالمنطقة العربية، وتقوم بتوحيد جهودها التضامنية مع القضايا العربية الكبرى وأهمها القضية الفلسطينية، إلا أن هذا الحال لم يدم طويلًا.

في بداية العقد الأخير من القرن العشرين، ومع اشتداد الخلافات العربية- العربية، واتساع رقعة الخلافات بين العديد من الدول العربية، تغير حال الجاليات العربية المقيمة في أوروبا، حيث انعكست عليهم هذه الخلافات، واتضح أنهم -بشكل عام- لم يهتموا بتنظيم وجودهم في البلدان المضيفة، ولم يقوموا ببناء مؤسسات ولا أطر لنشاطهم، ولا هيئات ترعى شؤونهم، وأنهم -بمعظمهم- لم يندمجوا في مجتمعاتهم الجديدة، ولم يتمكنوا أيضًا من دمج نشاطهم وحراكهم المجتمعي والثقافي مع حراك المجتمع الآخر. ولم تهتم الجاليات العربية بالنشاط السياسي والحزبي من خلال الانخراط في عضوية الأحزاب الأوروبية، بالرغم من أن العديد منهم كان قد تمكن من الحصول على جنسية بلد الإقامة. لكن هذا الحال قد بدأ في التغير الإيجابي خلال الفترات الأخيرة نتيجة قدوم اللاجئين السوريين والفلسطينيين السوريين.

لقد ألقت الخلافات العربية- العربية بثقلها على العرب في أوروبا الذين تفاعلوا مع الأحداث الجارية في بلدانهم الأصلية، مما أثار الشقاق بينهم، ووصل الأمر إلى حد الخلافات بين أبناء القطر الواحد على خلفيات إثنية ومذهبية وقبلية، مما أعاق توحيد جهود هذه الجاليات العربية في الدفاع عن مصالحها ومستقبلها في مكان إقامتها، وبالتالي أجهض كل محاولات اندماجها ومشاركتها الإيجابية.

قد وصل الخلاف إلى مستوى تدخل ومشاركة أعضاء بعض البعثات الدبلوماسية لبعض الدول العربية في أوروبا، الذين كان لهم دور سلبي في إثارة بعض النعرات المذهبية والعرقية، ومحاولتها السيطرة على نشاط الجالية، واستقطاب القائمين على بعض المؤسسات إضافة إلى النشطاء لصالح الأنظمة العربية التي تمثلها هذه البعثات. وتم تغليب الخلافات القطرية على حساب القضايا التي تجمع العرب وما أكثرها. وجرى العزف على وتر الانتماءات الدينية والعرقية لشق صفوف الجاليات العربية في أوروبا. فانقسم القادمون من بعض الدول العربية بين عربي وكردي، وعربي وأمازيغي، بين سني وشيعي، بين موالاة ومعارضة، بين ملتزم وعلماني، بين مندمج ومتحفظ، بين من يشجع الانخراط في الحياة السياسية للبلد المضيف ومن يرفضها بالمطلق، بين من يريد أن يدفن في البلد المضيف ومن يتعجل العودة إلى وطنه الأم لكن الأبناء لا يقبلون.

كل هذه الثنائيات المتناقضة في مشهد حياة العرب بأوروبا جعلتهم -معظمهم- تائهين مشتتين غير منظمين، لا يمتلكون أية رؤية إستراتيجية ويفتقدون التنظيم، مما أضعف من مشاركتهم في الحياة المجتمعية، وجعل منهم ورقة ضعيفة في مهب ريح صناع السياسة الأوروبية. وربما يتغير الحال مع الجيل الثالث والرابع من المهاجرين العرب، ومع دخول عدد من الكفاءات العلمية يحملها شبان وصلوا أوروبا ضمن موجات الهجرة الحديثة.


اغتراب واضطراب

أمام تصاعد الأحزاب اليمينية القومية المتطرفة في أوروبا خلال السنوات الأخيرة، واتساع رقعة الكراهية والعداء ضد العرب والمسلمين، بل وضد كل من هو من غير العرق الأبيض، من مواطني القارة الافريقية والدول الآسيوية وأولئك القادمين من أمريكا اللاتينية، هي حالة عداء عرقي وقومي وإثني، باتت تشكل خطرًا على الوحدة الأوروبية وعلى كل من هو مغترب في بلدان القارة الأوروبية. في خضم هذه المعطيات البغيضة يجد العرب القاطنون في أوروبا أنفسهم أمام وضع مربك وشائك وخطير، ويشعرون بالاستياء الشديد والغضب خاصة بين أوساط الشباب من الجيل الثاني والثالث، وأصبحوا يعانون من صعوبة في التكيف مع محيطهم، نتيجة للسياسات الخاطئة التي اعتمدتها العديد من الدول الأوروبية نحوهم، مما أدى إلى تهميشهم وإقصائهم، وعدم احترام خصوصياتهم الثقافية واللغوية والعرقية والدينية في بعض الدول الأوروبية بضغط من الأحزاب اليمينية، وكذلك فشل جميع المقاربات التي اعتمدتها أوروبا في إدماج المهاجرين بالمجتمع.

في دول جنوب ووسط وشرق أوروبا يعاني العرب وخاصة الشباب من تدني فرصهم في الحصول على عمل أو وظيفة بأربع مرات عن غيرهم، ولا يحصلون على فرص متساوية في التعليم والتعليم المهني، ويشكون من السلوك العنصري الرسمي والشعبي، ومن كراهية المجتمع لهم، ومن وفرة الوقت الضائع، يتعرضون لإقصاء اجتماعي، ولديهم ما يكفي من مشاكل العيش وصعوبة الوضع في دول متطورة وتوفر العدالة الاجتماعية لمواطنيها، لكنها تحرم المغتربين من المساواة.

سياسة التغييب والاستبعاد هذه أسقطت سياسة الاندماج، وبالتالي سقوط المغتربين في طاحونة الاغتراب، والدخول في حالة من الانعزال والتراجع، وتولّد الإحساس بالغربة في المجتمع الجديد، اغتراب قد يصل بالمرء بفعل الضغوط إلى حدود الانهيار. هذا الشعور بالاغتراب يدفع الإنسان للقطيعة مع محيطه والتبرم من قيمه وثقافته، ثم الانكفاء والتقوقع ضمن جماعات عرقية أو إثنية صغيرة لكي يحافظوا على أنفسهم، هروبًا من مجتمع باتوا يؤمنون أنه لا يريدهم وأنه يحاول سلبهم هويتهم وثقافتهم، ومن هنا تتوفر البيئة التي يبحث عنها الفكر المتطرف لدى الشباب.


يُتبع..

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.