هل سألت نفسك يومًا: لماذا تنتشر حتى اليوم أسماء عائلات كبيرة وشهيرة في مختلف البلدان العربية، على امتداد تنوعها الفكري والحضاري والتاريخي بأسماء حيوانات، منها المزدرَى جنسًا مثل الحمار والبغل والقرد إلى آخر الأسماء التي تثير الدهشة والفضول في آن؟

ربما ترى هذا السؤال بسيطًا، أو يحمل من الطرافة ما يجعلك تبحث عن إجابات سريعة، ولكنك ستدهش بالطبع عندما تعلم أنه يحمل دلائل تاريخية مثيرة، بحث خلفها عشرات الباحثين من عظماء المستشرقين والعرب، سواء لتأكيد نظريات أو نقدها وربما لهدمها، وخاصة تلك التي تسيء للعرب وتضعهم في مصاف الأمم المتوحشة، التي كانت تعبد الحيوانات قديمًا، وتعتقد أنها من سلالتهم، وتقيم الأحزان بل وتنصب العزاء لموت أي حيوان من الفصيل الذين يحملون اسمه.

واختلفت نظرة المستشرقين عن نظرائهم من الباحثين العرب في تفسير تسمية القبائل العربية وانتسابها في النهاية لأسماء حيوانات، إلا أن واحدًا من أهم علماء الأنساب في التاريخ، المستشرق الأسكتلندي روبرتسن سميث، ذهب في كتابه «دين الساميين»، صراحة ودون لي عنق التاريخ أو التهرب منه، أن العرب ترجع أصولهم إلى قبائل «الطوطمية»، شأنهم في ذلك شأن نفس القبائل البدائية المتوحشة في أستراليا وأفريقيا وأمريكا الذين كانوا ينتسبون إلى آباء من الحيوانات والنباتات، وكانوا يعبدونها ويتسمون بأسمائها.


ماذا يعني الطوطم؟

معروف أن «الطوطم» لفظ دخل اللغات الأجنبية في أواخر القرن الثامن عشر من لغة الأوجيي لهنود أمريكا، ويطلق على القبائل المتوحشة التي كانت تعتقد أن هناك علاقة نسب بينهم وبين الحيوانات والنباتات، وهذا الطوطم سر وجودهم في الحياة، لهذا كانوا يقدسونه ويعبدونه وينهون عن أكله؛ لاعتقادهم أنه جدهم الأعلى، وأنهم من دم واحد.

وبنى سميث نظريته في طوطمية العرب على انتشار أسماء قبائل مثل بني أسد، بني ثعلب، بني جحش، بنو جراد، بنو قرد، بنو كلب، بني حمامة، وقائمة طويلة عزّزت لديه الشك في انتماء العرب لأصول من الحيوانات.

وفي معرض استعراضه لنظريته، نفى المستشرق الذي حرر الموسوعة البريطانية، أن يكون نسب العرب يعود إلى إسماعيل وقحطان، من آباء التوارة، وحتى تسلسل أنساب القبائل كما هو معروف تاريخيًا ودينيًا في الديانات الإبراهيمية الثلاث، مؤكدًا أن هذه الأنساب تم تأليفها في القرن الأول الهجري لغرض ما في نفوس من قاموا بتأليفها.


تفسير المستشرقين لنسب الطفل إلى الأم في الجاهلية

وذهب سميث في تأكيد روايته عن «طوطمية» العرب إلى أنهم لم يكن عندهم عائلات تنتمي لذكور من الأساس، ولم تكن أنسابهم تتصل بالآباء، بل كان الزواج عندهم على نفس النهج المتبع في بلاد التبت، وذلك بأن تتزوج المرأة برجلين أو أكثر، وأولادها لا ينسبون لأحدهما، بل ينتسبون إلى القبيلة نفسها.

ووافق سميث على تصوراته، أهم المستشرقين من أمثال ويلكن ونولدكه، اللذين اعتبرا أن الأسماء المؤنثة للقبائل العربية تشير إلى نظرية الأمومة التي تؤكد أن العرب لا ينتسبون إلى رؤوس عائلات من الذكور، ووفقًا لذلك فالحياة على الجزيرة العربية في بدايتها كانت محلًا لصراعات كثيرة أهم بين الذكر والأنثى، حيث كان الرجل العربي يجامع المرأة على الطريقة الحيوانية، وباشتراك عدة رجال في أنثى واحدة؛ ما كان يتسبب في جهل نسب الأطفال ولهذا كان ينتسب إلى أمه.


ماذا فعل العرب لنفي نظرية الطوطم؟

خطورة ما قاله سميث، ومن والاه في هذه القضية، جعل الباحثين العرب يجتهدون في البحث لتفنيد تلك الرؤية الشاذة لواحد من أهم باحثي الأنساب في العالم، وخرجت مؤلفات شتى اهتمت بهذه الجزئية وردت عليها.

وعمل جرجي زيدان، الأديب والمؤرخ اللبناني في موسوعته «تاريخ التمدن الإسلامي» على تفنيد تلك الرؤية، وانتهى إلى أن سميث استشهد بأدلة ضعيفة، ونوادر من تاريخ العرب، فجعل الشاذ من المرويات قاعدة، بينما أغفل المسلمات العامة التي أجمع عليها النسابون العرب، لاسيما أن حكايات العالم القديم أغلبها مأخوذ من الخرافات المأثورة عن الأسلاف.

وأكد زيدان أن الرواة العرب معروف عنهم أنهم لا يقبلون رواية إلا بعد تحققها بالإسناد الصحيح، وفقًا لمنهج عملهم في تحقيق الأحاديث النبوية الصحيحة، وخاصة في صدر الإسلام، لاعتمادهم على الذاكرة وإغفالهم الكتابة.

وأرجع ما قاله سميث عن طوطمية العرب للغة السائدة في ذلك التوقيت والتي كانت تجتهد في إثبات مبدأ الارتقاء وإرجاع كل شيء إلى الطبيعة.

فيما هاجم ابن دريد في كتابه الاشتقاق من أسماهم «المشنعون على العرب»؛ بسبب أسماء العوائل والقبائل، معتبرًا أن مسميات الجاهلية من أمثال كلب وكليب وخنزير وقرد ونحو ذلك، جرّت على العرب طعونًا في أصلهم بسبب الجهل بتاريخهم ولغتهم الثرية بعكس اللغات الأجنبية.

ويشرح «الاشتقاق» أصول العرب حتى فيما اختلفوا فيه بين أنساب إسماعيل وقحطان، كما يبيّن مذاهب العرب في تسمية أبنائهم، بداية من اسم النبي محمد، ويقدم تفنيدًا مهمًا للقبائل وأفخاذها وبطونها، وأسماء سادتها وشعرائها في الجاهلية وبعد الإسلام .


العرب يسبقون الغرب في هذه القضية

تاريخيًا، لم يكن سميث أول من نقب عن أسماء القبائل ودلالتها، بل سبقه الجاحظ في كتابه الحيوان، والذي أكد أن العرب قديمًا كانوا يسمون أبناءهم تيمنًا بالكلب والحمار والقرد من باب «التفاؤل»، فكان الرجل إذا ما وُلد له ذكر خرج هائمًا على وجهه في الشوارع، ليحصل على نبئه من أقرب اسم يُعرض على سماعه، فإذا ما سمع إنسانًا يقول حجرًا، سمى ابنه به؛ ليتفاءل فيه بالقوة والصلابة والصبر، وعلى هذا القياس تمضي الأسماء كلها.

كما يؤكد «علم العمران»، والذي تحتل فيه دلالة الأسماء مساحات واسعة من البحث والتحليل، أن كل أمة من الأمم القديمة، وعلى اختلاف مراحل تمدنها، كانت تختار من أسماء الحيوانات ما يلائم عاداتها وتقاليدها، فإذا تدينت انتسبت بأسمائها وأبنائها إلى الأجرام السماوية، أو الحيوانات والأصنام، أما التي كانت تعيش في ظروف خشنة تتلاحم مع الطبيعة، فكان أبناؤها يختارون من الطبيعة والحيوانات ما يعجبون به لإطلاقه على أولادهم، تيمنًا به، وتمنيًا أن يتحلوا بخصال الشجاعة والإقدام.


سر تسمية العرب أبناءهم بأسماء حيوانات

الرجل الشجاع كانوا يرونه شبيهًا للأسد، والفتاة اللطيفة غزالة أو حمامة، وقد جرى ذلك في كافة أمم العالم القديم، ولاسيما تلك التي كانت تعيش على فقه الغزو والحروب الدائمة، وأهل البداوة والتنقل بين نجع وآخر.

وبعيدًا عن العرب، كان قدماء الإنجليز يسمون أنفسهم بذات دلالات التسمية، وشأنهم في ذلك شأن الرومان واليونان والفرس وحتى الجرمانيين والسكسونيين من الأزمنة العتيقة.

والغريب أن «سميث» في معرض بحثه لم يشر إلى مصادر عربية تاريخية أدلت بدلوها في هذا الأمر، ولم تترك فيه تفصيلة إلا وجاءت بشرحها، وخاصة ابن خلدون في كتابه تاريخ ابن خلدون، وما قاله كمال الدين الدميري في «حياة الحيوان الكبرى» والذي شرح فيه تفصيليًا لماذا تمسّك العرب القدامى ببداوتهم لأقصى درجة، ولذلك كثرت عندهم الأسماء ليست فقط التي تستلهم سمات الحيوان، بل كانت هناك المتعلقة بالحروب، كحرب ونصر وعدوان وعبس وأشجع وسهم وصخر.

كما كشف الدميري في كتابه أن القبائل الملتزمة دينيًا كانت تتبرك بآلهتها عبر الانتساب لأصنامها التي يعبدونها؛ كعبد العزى، وعبد مناة، وعبد شمس، وحتى لما أسلمت القبائل انتقلت نفس العقائد الفكرية، فكثرت الأسماء المنسوبة لله وصفاته، مثل عبد الله، وعبد الرحمن وغيرها.

وفي العصور الحديثة، عندما تمدن العرب وتحولوا للصناعة، اصطحبوا معهم معتقداتهم، وباتت هناك عائلات تعرف بـ«النحاس – النجار – الخراط – الجزار – السمكري»، وبمرور الزمن قلت العصبية للنسب، وظهرت اصطلاحات جديدة تعلي من قيمة الوطن والانتساب إليه، وظهرت أسماء الدمشقي والبغدادي والبصري، والبخاري.

ومن كل ما سبق، يتضح أن بقاء بعض العائلات التي تنتسب لأسماء بعض الحيوانات ثبت بالدليل القاطع أنه لا علاقة له بالطوطمية، وليس هناك جذر ينتهي بنسب تلك العائلات للحيوان المسماة باسمه حسب زعم بعض المستشرقين الذين تحتاج الكثير من كتبهم إلى مراجعات دقيقة، والرد عليها بلغة علمية بعيدة عن التعصب وحبكة المؤامرة، فربما يحتاج إليها الغرب لإعادة رسم تصوراتهم عن عرب اليوم أكثر من احتياج العرب أنفسهم لذلك.