لا يحتاج المرء كثيرًا من الحصافة ليلحظ موجة العداء لشخص الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في العديد من الأوساط السياسية والثقافية والإعلامية الأوروبية.

فخلال السنوات الثلاث الأخيرة، أصبح أردوغان هدفًا في أوروبا؛ إذ تم نعته بـ «الدكتاتور والفاشي» داخل البرلمانين الأوروبي و الألماني، وعلى لسان عدد من قيادات الأحزاب الأوروبية، كما غصّت وسائل الاعلام بالتقارير التي تصفه بالفاشي والديكتاتور والمريض بحب السلطة، ووصل الحدّ إلى اشتعال أزمة دبلوماسية بين ألمانيا وتركيا على خلفية كوميديا سياسية جعلت منه مادة للسخرية غير الأخلاقية.

يُراد في أوروبا أن تُستحضر صورة السلطوي والرجعي عند ذكر أردوغان، وتصويره كديكتاتور يقمع الصحافة ويزجّ المعارضين في السجون، ويشهر تهمة الارهاب في وجه معارضيه، وأحيانا تصويره كسلطان يحلم بـ «الحكم المطلق» كما فعل أسلافه من السلاطين العثمانيين الذين افتخر أردوغان غير مرة بأنه سليل إمبراطوريتهم العظيمة.

وخلف هذه الصورة التي تحمل الكثير من التشويه، ينظر صانع القرار الأوروبي لأردوغان على أنه زعيم ذو طموحات كبرى، انتزع قيادة جمهورية ذات مخزون بشري كبير، شكلت على الدوام الحديقة الخلفية للأمن الأطلسي، وسوقًا اقتصادية هامة للأوروبيين. لم يكتفِ أردوغان برفع سقف طموحاته في علاقته مع أوروبا فحسب؛ إنما استدعى أمجادًا عثمانية قديمة ووظّفها داخليًا وخارجيًا لبناء دور جديد لتركيا في الإقليم، رائدة ومستقلة بعيدًا عمّا كان يسمح به الحليف الغربي، وأحيانًا بطريقة تهدد مصالحه بصورة مباشرة.


أردوغانو-فوبيا

في الأعوام الثلاثة الأخيرة، تصاعد التوتر الأوروبي-التركي لاعتبارات عدة، لكن اللافت أن نسبة هامة من مظاهر هذا التوتر تحوّلت إلى عداء شخصي مع الرئيس أردوغان الذي صعد نجمه ونفوذه خلال العقد الأخير بتسارع مبهر، لاسيما بعد أن خاض في أغسطس/تموز عام 2014 أول انتخابات رئاسية مباشرة في تاريخ الجمهورية، إذ كان الرئيس يُنتخب من قِبل البرلمان.

وقد رأى أردوغان بذلك مبررًا لمزيد من الدور والحضور السياسي، على عكس الدور الشرَفي الذي لعبه الرؤساء السابقون.

ومع الوصول إلى الاستفتاء الدستوري المزمع في 16 نيسان/أبريل، تجلّت اللحظة الفاصلة التي كشفت الانزعاج الرسمي -وليس الإعلامي فقط- من أردوغان، إذ يرى الأوروبيون أن نجاح التعديل الدستوري الذي سيحول تركيا من النظام البرلماني إلى الرئاسي، وسيلغي منصب رئيس الوزراء، يعني ترسيخًا أكبر لنفوذ وسطوة أردوغان محليًا، ودفعة أقوى لمشروعه الاقليمي الذي أصبح نموذجًا للعديد من الشعوب والأحزاب في المنطقة.

وعليه؛ أرادت أوروبا تقويض فرص نجاح الاستفتاء عبر حرمان القيادة التركية من التواصل مع الخزان الانتخابي الكبير لها في أوروبا (2.5 مليون تركي يحق له التصويت)، فأوعزت كل من ألمانيا وسويسرا والنمسا لسلطاتها المحلية إلغاء لقاءات جماهيرية لوزراء ومسؤولين أتراك عبر التذرع بحجج أمنية.


أزمة في هولندا

لكن الموقف في هولندا كان أكثر تعقيدًا، فقد استبق وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو، زيارته بيوم واحد فقط ليهدد أمستردام بـ «عقوبات قاسية» إن هي منعت لقاءه بالناخبين، ويبدو أن السلطات الهولندية قررت الانتقام من تصريحات الوزير التركي على طريقتها، إذ لم تسمح لطائرته بالهبوط أصلا في مطار نوتردام في تصرف شاذ تمامًا عن الأعراف الدبلوماسية.

تلقف الأتراك قسوة الموقف الهولندي بتصريحات نارية من أردوغان اتهم الهولنديين فيها بأنهم «مرعوبون من تركيا، وأنهم من بقايا النازية والفاشية»، ليعلو التصفيق الجماهيري والاصطفاف الحماسي خلف المشاعر القومية التي بثّها المسؤولون الأتراك بكثافة في مواجهة المنع الأوروبي، إذ ترى قطاعات كبيرة من الأتراك على اختلاف تياراتهم السياسية أن أوروبا «تحقد على تركيا، أو تمارس العنصرية ضد المسلمين».

لم يقف الأتراك عند التصريحات، فقد تحدّت الوزيرة، فاطمة بتول كايا، تحذيرات أمستردام، وأصرّت على عبور الحدود البرية الهولندية قادمة من ألمانيا للحديث مع الجالية المحتشدة أمام القنصلية التركية، قبل أن تمنعها الشرطة من ذلك. كما تمّ إبلاغ السفير الهولندي الذي يقضى إجازة خارجية، بعدم رغبة أنقرة بعودته حاليًا إلى سفارته.

بات واضحًا هنا أن تركيا التي يفصلها شهر فقط عن استحقاق شعبي حساس، كانت مستعدة للذهاب إلى أبعد مدى من أجل إنجاح الاستفتاء على النظام الرئاسي، وإن بالمقامرة في علاقاتها الخارجية، خاصة مع دولة مثل هولندا لا تربطهما الكثير من الروابط الاقتصادية، وليست من اللاعبين الكبار في الاتحاد الأوروبي.

يُدرك المسؤولون في أنقرة الحساسية القومية لمواطنيهم، ويعلمون أن حربًا دبلوماسية كهذه تضمن انضمام فئات جديدة لمعسكر المصوّتين بـ «نعم» للتعديل الدستوري نكاية بأوروبا أكثر من أي شيء آخر، وهذا ما بدأت بوادره بالظهور منذ اللحظة الأولى، إذ تحولت بعض الميادين في روتردام و أنقرة واسطنبول لتجمعات مؤيدة للحكومة والنظام الرئاسي على غرار حشود ما بعد الانقلاب الفاشل.


مزايدات انتخابية

في هولندا لم يكن المشهد مختلفًا كثيرًا، فثلاثة أيام فقط تفصل البلاد عن انتخابات تشريعية تحول فيها الإسلام والمهاجرون إلى سلاح تحشيد في يد اليمين المتطرف (حزب الحرية) الذي قام زعيمه خيرت فيلدرز، بمهاجمة تركيا أكثر من مرة، و وصف أردوغان بأنه «ديكتاتور إسلامي فاشي».

ومما لا شك فيه أن حزب «الشعب» الحاكم قد رضخ لابتزاز اليمين المتطرف ومنع لقاءات الوزير التركي، كي لا تتحول تلك المهرجانات إلى أداة تشوّش على حظوظه في انتخابات حاسمة يشكل فيها اليمين المتطرف منافسًا حقيقيًا لأول مرة في تاريخ هولندا بعد الحرب الثانية.

وبعد المنع، سعت الحكومة الهولندية لاحتواء الموقف، على الرغم من فداحة استحضار الإرث النازي ووقعه الصاعق على دول كألمانيا والنمسا وهولندا، فتحفّظ رئيس الوزراء الهولندي، مارك روته، كما تحفّظت ميركل، على الرد على اتهامات أردوغان بالنازية.

ذلك أن الحزب الحاكم في كلا البلدين أراد تحقيق غرضه بمنع الدعاية للنظام الرئاسي، لكنهما في الوقت ذاته لم يريدا التماهي في الخطاب السياسي مع مفردات اليمين المتطرف، أو الانجرار إلى خطاب يميني شعبوي ضد تركيا، أو الدخول في جدل سياسي طويل.

في المحصلة، رأت الحكومات الأوروبية أن منع المهرجانات حقق ما كانت تصبو إليه من قطع الطريق أمام دعاية «مشروع أردوغان» السياسي، وتفويت فرص ابتزازها من قبل اليمين المتطرف، فعكست رغبة بالاحتواء وتسكين الأزمة.

أما على الجانب الآخر، فلم يقبل المسؤولون الأتراك السكوت عن الإساءة، واختاروا التصعيد ونجحوا في اعادة تعريف الأزمة من خلاف أوروبي مع العدالة والتنمية وشخص أردوغان، إلى تناقض قومي بين أوروبا والأمة التركية، وجعلوا التعديل الدستوري جوهرًا للتناقض، مما ضمن لهم اصطفاف أطياف أوسع من الشعب خلف النظام الرئاسي.

مما لا شك فيه أن الاستحقاقات الانتخابية في كلا المعسكرين، التركي والأوروبي، كانت المحرّك الرئيس للأزمة منذ نشوئها، وستكون الدافع أيضًا لاحتواء الضرر على علاقات الطرفين بعد انتهاء هذه الاستحقاقات كما ستوضح الأسابيع المقبلة.

فتركيا لم تكتشف على سبيل المفاجأة أن العنصرية تتفشّى في أوروبا وأن اليمين المتطرف آخذ بالصعود فقررت صفعها باتهامات النازية، فليس هذا المعيار الذي تقيّم به تركيا مواقفها السياسية، ونظرة سريعة إلى تطوّر الموقف التركي من إدارة ترمب الشعبوية والعنصرية ضد المسلمين على وجه الخصوص، تشرح لنا محددات المدرسة الواقعية التي تضبط علاقات تركيا الخارجية اليوم.

أما أوروبا التي لا تجد حرجًا في التعامل والتنسيق مع نظام الانقلاب الدموي في مصر، فلم تمنع مهرجانات الوزراء الأتراك خشية على تركيا من حكم استبدادي، كما أن تاريخ العلاقة بين تركيا والمعسكر الأوروبي الذي يضم: ألمانيا، هولندا والنمسا، لا يستوي فيه أن يستدعي البعض أحداثًا من القرن الثامن عشر لإثبات أن وراء هذه الأزمة عقدة أوروبية من الأتراك كما تردد بعض المقولات الشعبوية؛ إذ إن ذلك ينطوي على تغافل عن وقائع أحدث وأهم غيّرت مجرى التاريخ، عندما قرر الأتراك العثمانيون الاصطفاف إلى جانب ألمانيا والنمسا في الحرب الأولى.

قد يكسب الرهان على المشاعر القومية والشعبوية في تركيا هذه المرة، عبر حشد المزيد من التأييد للنظام الرئاسي، لكن اليمين الشعبوي في هولندا الذي من المستبعد أن يستطيع تشكيل حكومة منفردة أو ائتلافية، سيجد أن صبه للزيت على الأزمة مع تركيا لن يمكّنه من تحقيق فوز انتخابي حاسم، وربما لن يفعل أكثر من رفع أسهم المشروع السياسي لخصمه اللدود رجب طيب أردوغان.