الكل يسارع لتطبيق تقنية شبكات الجيل الخامس 5G، فهي تعد بالكثير حقًا، كما أنها تمثل دعاية تجارية جيدة لشركات الاتصالات وشركات صناعة الهواتف. فالمستخدم الحالي للتكنولوجيا الاستهلاكية قد بدأت تظهر عليه حالات الإشباع التكنولوجي حيث لا توجد تقنيات جديدة قادرة على إبهاره بعد الطفرة التي عايشناها في السنوات الأخيرة؛ لذلك فهي تُعد ركيزة أساسية لزيادة الأرباح في الفترة القليلة المقبلة.

ولكننا نلاحظ تَعَجُّلًا مثيرًا للريبة في طرح هذه التقنية الجديدة! نعم تحدثنا في المقال السابق عما ستحدثه شبكات الجيل الخامس 5G من نقلة نوعية في مجال الاتصالات، ولكن رُغم هذا فإن السباق المحتدم لتطبيقها على أرض الواقع يقابله العديد من الشكوك والمخاوف، وأكثرها تلك المرتبطة بتأثير تلك الشبكات على صحة الإنسان وعلى البيئة المحيطة بنا.


صراع محتدم

في عالمنا العربي يبدو أننا بعيدون كل البعد عما يحدث في هذا الشأن، فهناك جبهتان متناحرتان كلتاهما تريد إثبات خطأ الأخرى؛ الجبهة الأولى، هي جبهة شركات الاتصالات وأيضًا مؤسسات حكومية مثل: مراكز مكافحة الأمراض واتقائها CDC ووكالة حماية البيئة الأمريكية EPA وحتى هيئة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية FCC. وهؤلاء يصرحون بأمان شبكات الجيل الخامس وعدم ثبوت أي أضرار لها قد تصيب الإنسان.

أما الجبهة الثانية ،فهي جبهة العلماء المستقلين (كما يطلقون على أنفسهم)، وهم العلماء الذين لا تسيطر عليهم رؤوس أموال أصحاب شركات الاتصالات، وهؤلاء يدَّعون أن شبكات الجيل الخامس خطر داهم محتمل ويجب التريث واختبار آثارها لمدة كافية قبل تبنيها تجاريًا، خصوصًا مع قولهم إن هناك تجارب قد دعمت احتمالية ضرر تلك الشبكات بالفعل، ولكنها لم تُنشر أو تؤخذ على محمل الجد بإيعاز من شركات الاتصالات.

ربما نفكر بأن أصحاب نظريات المؤامرة لا ينفكُّون يشككون في كل شيء، وإنها مجرد زوبعة في فنجان كما يقول المثل، ولكن دعني أخبرك بأن هناك أكثر من 215 عالِماً من 40 دولة حول العَالم قد تقدموا بخطاب رسمي لمنظمة الأمم المتحدة يطالبون فيه باتخاذ إجراء عاجل للحد من التعرض للمجال الكهرومغناطيسي المنبعث من أبراج شبكات المحمول. كما قدم هؤلاء العلماء خطابًا إلى هيئة الاتصالات الفيدرالية FCC، يطلبون فيه مراعاة المخاطر الصحية والبيئية قبل نشر البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس على نطاق واسع.

ليس هذا فقط، بل إن 240 عالًما وطبيبًا من أكثر من 36 دولة (حتى هذه اللحظة، والعدد في ازدياد) قد وقَّعوا على عريضة موجهة إلى الاتحاد الأوروبي، هذه العريضة تحذر من خطر شبكات الـ5G والتي سوف تؤدي إلى زيادة هائلة في التعرض للإشعاع الكهرومغناطيسي.

هؤلاء العلماء يحثون الاتحاد الأوروبي على اتباع البند رقم 1815 الصادر عن مجلس أوروبا الذي أصدر الوثيقة الشهيرة (الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان). هذا البند يناقش مخاطر الحقول الكهرومغناطيسية EMF على الصحة العامة ويدعو لخفض حد التعرض لها. كما أنه يوصي بإزالة جميع المعدات اللاسلكية من الفصول الدراسية، ويدعو إلى اتخاذ تدابير خاصة لحماية الأشخاص الذين لديهم حساسية من الإشعاع الكهرومغناطيسي، بما في ذلك إنشاء «مناطق بيضاء خالية من الإشعاع» أو «Radiation-free white zones».

ومن الجدير بالذكر وجود حملة توقيعات عالمية متاح المشاركة بها لكل من الأفراد العاديين والمؤسسات للمطالبة بإيقاف انتشار شبكات الجيل الخامس في الأرض أو حتى في الفضاء الخارجي، ولقد وصل عدد التوقيعات في 7 يونيو عام 2019 إلى أكثر من مائة ألف توقيع.


مخاطر شبكات الجيل الخامس 5G المحتملة

كما ذكرنا في المقال السابق؛ فإن شبكات الجيل الخامس سوف تعتمد على ما تدعى الخلايا الصغير Small Cells وهي محطات صغيرة ستوزع كل 250 مترًا في الشوارع، وهذا لأن الموجات التي ستعتمد عليها شبكات الـ 5G هي موجات قصيرة جدًا عكس الموجات الأخرى المستخدمة في الأجيال السابقة؛ لذلك فستكون هناك محطات كثيرة جدًا… جدًا!

هذا العدد الكثيف من المحطات سيجعلنا أكثر عُرضة للمجال الكهرومغناطيسي لتلك الشبكات بشكل لا فرار منه، كما أن مدى قصرها يجعلها قادرة على اختراق الجلد والنفاذ لأعضاء الجسم الداخلية، وللأسف فإن احتمالية تسببها في ضرر للإنسان ليست ببعيدة على الإطلاق؛ فلقد صنفت منظمة الصحة العالمية موجات الراديو المنبعثة من أبراج شبكات المحمول على أنها من المواد المسرطنة المحتملة من المجموعة (2B)، وذلك حسب تقييم الوكالة الدولية لبحوث السرطان IARC، ودراسات وبائية بشرية أعطت أدلة على زيادة خطر الإصابة بالورم الدبقي (أحد أشكال سرطان المخ) وأورام العصب السمعي.

على الجهة الأخرى، نجد أن الشركات والهيئات تعتبر أن وجود هذه الموجات في المجموعة 2B لا يشكل خطرًا يجب التوقف عنده، وذلك لأن القهوة كانت في نفس المجموعة! ولكن هذه الحجة مردود عليها لأن IARC قد حذفت القهوة من تلك المجموعة عام 2016، بينما نجد في تلك المجموعة مواد أخرى ضارة مثل DDT الممنوع استخدامه دوليًا بعدما كان منتشرًا في صناعة المبيدات الحشرية، ومادة الكلوروفورم التي كانت تستخدم في التخدير سابقًا. وهناك العديد من العلماء بعد إجرائهم دراسات عدة على موجات الراديو يطالبون برفع خطورتها إلى المجموعة 2A.

وفي خطاب كتبه دكتور «مارتن بول» أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة ولاية واشنطن ناقش الآثار البيولوجية والصحية الخطيرة الناتجة عن تبني شبكات الجيل الخامس، مشيًرا إلى أن المبادئ التوجيهية الحالية لهيئة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية FCC غير كافية، فلقد عفى عليها الزمن، وتصب في صالح صناعة الاتصالات. وهو يعتقد أنه قد يكون هناك آثار ضارة كبيرة على المدى الطويل بعد انتشار الـ 5G مثل العمى، وفقدان السمع، وسرطان الجلد، والعقم عند الرجال، وأمراض الغدة الدرقية.

أما الجانب الأكثر ظلامًا من هذا الصراع يتمثل في ادعاء العلماء المستقلين أنهم يتعرضون للاضطهاد والضغوط عند نشر أبحاث تثبت ضرر المجال الكهرومغناطيسي وموجات الراديو، فيتم نزع الثقة عنهم ويقابلون بعدم اكتراث متعمد ويتأذون وظيفيًا وتصلهم تهديدات لحياتهم، وكل هذا بإيعاز من الشركات المستثمرة في هذه الصناعة. ولو صح هذا الادعاء فنحن إذًا أمام جريمة متعمدة ضد البشرية بأسرها.


ما الحل، وكيف نحمي أنفسنا؟

السبب الأكبر لهذا الخلاف الشرس هو أن الآثار الضارة لهذه الموجات – لو صحت – لن يظهر تأثيرها الفعلي على صحة الإنسان إلا بعد مضي وقت طويل يصل إلى عقود. ولأن انتشار خدمة الاتصالات اللاسلكية بدأ منذ وقت قريب نسبيًا، ولم ينتشر بشكل مكثف إلا مؤخرًا جدًا، فإنه من الصعب الآن البت في هذا الأمر بشكل حاسم.

ولكن هل يعني هذا أن يستسلم الإنسان لطمعه في تكنولوجيا أكثر رفاهية على حساب خطر محتمل على حياته؟ هل يعني هذا أن نخضع لشراهة أصحاب رؤوس الأموال المتطلعين إلى زيادة حساباتهم البنكية لمجرد عدم ثبوت خطر فعلي حتى الآن من استثمارهم هذا رغم قوة احتمالية وجود الخطر؟

الحل الأمثل – لو كان هذا الكوكب عاقلًا – هو أن يتم التريث قبل الدخول إلى عهد شبكات الجيل الخامس حتى تنتهي دراسات علمية حاسمة تثبت أو تنفي وجود خطر على الصحة العامة، أو حتى تمر المدة المتوقعة لظهور آثارها على الإنسان؛ ساعتها يتم التصرف على أساس سليم. ولكننا بالطبع لسنا نحيا على هذا الكوكب المثالي، وبدأ تطبيق شبكات الجيل الخامس منذ بداية العام الحالي في بعض الدول بالفعل.

فهل هناك إذًا طريقة نستطيع نحن بها – كأفراد – أن نقي أنفسنا الخطر المحتمل؟ لن نستطيع منعه كليًا بكل تأكيد، ولكننا نستطيع الحد من آثاره عن طريق تقليل التعرض لتلك الموجات، وذلك بأن نطفئ الراوتر كلما حانت الفرصة لذلك، نطفئ الهاتف عند النوم أو نجعله على وضع الطيران، نقلل الاعتماد على الأجهزة المعتمدة على البلوتوث والاقتران اللاسلكي… باختصار نبتعد عن كل ما هو لاسلكي كلما استطعنا هذا.


أين بدأ تشغيل شبكات الجيل الخامس 5G حتى هذه اللحظة؟

تتوقع شركة إريكسون أنه بحلول نهاية عام 2024 سيصل عدد مستخدمي شبكات الجيل الخامس إلى 1.9 مليار مستخدم، ويمكن أن تغطي هذه الشبكات ما يصل إلى 65 في المائة من سكان العالم.

ولكن في الوقت الحالي لم يبدأ تطبيقها إلا في عدد قليل من الدول، وفي رقع محدودة داخل مدن معينة بها، ومن هذه الدول: الولايات المتحدة الأمريكية، كوريا الجنوبية، المملكة المتحدة، إيطاليا، إسبانيا، فنلندا، سويسرا. ونرى أن بعض دول الخليج قد لحقت بركب الجيل الخامس بالفعل مثل: قطر، الكويت، الإمارات العربية المتحدة.

وسيلحق بالدول السابقة العديد من الدول الأخرى حول العالم والتي تخطط لإطلاقه تجاريًا بين عامي 2019 و2020. بينما في مصر لا توجد أي خطط واضحة حول الجدول الزمني لتبني شبكات الجيل الخامس 5G.

وبهذا فقد وُضِعنا أمام الأمر الواقع ببدء تبني التقنية رغم كل الاعتراضات والمناشدات بالتأجيل، فإلى أي الجبهتين تنتمي أنت عزيزي القارئ؟