يُطلق حكم دولي إنجليزي صافرة انتهاء المباراة التي تلعب في «ويمبلي»، ليعلن اكتمال عقد المتأهلين للبريميرليج في نسخته القادمة.

ينهار الخاسرون حزنًا، يركض الفائزون فرحًا، مشاهد كروية مثالية. بالطبع، للّعب مع الكبار وجاهة، والوجاهة تعني الأموال، والأموال هي عصب كرة القدم الحديثة، ولو أخبروك بغير ذلك.

لحظة إعلان صعود لوتون تاون للدوري الإنجليزي الممتاز.

يمكن للخاسر المحاولة مرّة أخرى لعله يصيب، أما الفائز، فعليه من هذه اللحظة الاستعداد لمجاورة الكبار، وتلك مخاطرة ضخمة، كتلك التي تأخذها سمكة «المُهرِّج» حين تُقرر الخروج من مخبئها بالمحيط بحثًا عن الطعام؛ لا ضمانات، الصغير فريسة، تأمل في البقاء على قيد الحياة ليوم جديد.

«قروش البريميرليج»

في كرة القدم الحالية، الصعود للدوري الإنجليزي الممتاز أشبه بالحُلم، بمُجرَّد الانتقال لهذه المنافسة ترتفع عوائد النادي بشكلٍ صاروخي، لدرجة تجعَل من إجمالي هذه العوائد أكبر من الجائزة الممنوحة لبطل دوري أبطال أوروبا، بغَض النظر عن مركز الفريق في جدول ترتيب منافسة العام التالي.

بانتهاء موسم 2022/2023، يُرجَّح أن حصة الأندية الثلاثة التي هبطت من البريميرليج من حقوق البث وصلت لأرقام تتأرجح ما بين 160 و164 مليون دولار أمريكي. وحتى تدرك مدى ضخامة هذا الرَقم، على سبيل المثال، حصل برشلونة، بطل الدوري الإسباني حصة بلغت قيمتها 170 مليون دولار.

هدفنا هو الوصول للنقطة 40.
كلاوديو رانييري، المدير الفني الأسبق لنادي ليستر سيتي الإنجليزي

بالطبع تتذكَّر التصريح أعلاه، حين نجح «رانييري» في عملية «التنويم المغناطيسي» لمدربي وجماهير أندية الدوري الإنجليزي الممتاز، قبل أن يحصد لقب 2015/2016 التاريخي.

تقول الأسطورة إنّ النقطة 40 هي الضمان الأكبر للوصول لبر الأمان، والنجاة من شبح الهبوط من الدوري الممتاز. بالتالي، تضع الإدارات نُصب أعينها قاعدة تُعرف داخل الكواليس بقاعدة الـ«12 انتصار»، ومن ثم تتكفَّل بعض التعادلات وأحيانًا نتائج الآخرين بإنجاز مهمة البقاء بين الكبار. لكن المنافسة داخل البريميرليج أصبحت معقدة، مما جعل وصول الصاعدين حديثًا لهذا العدد من النقاط مجرَّد أوهام، تحتاج لمخاطر.

مقارنة بين أرباح ومصروفات فريقي مانشستر سيتي وبيرنلي
مقارنة بين أرباح ومصروفات فريقي مانشستر سيتي وبيرنلي
/ حساب Football Benchmark على تويتر

في الواقع، على الرَغم من الإمكانيّات المادية الهائلة التي تحظى بها كل أندية البريميرليج بسبب عوائد البث الضخمة مقارنة بباقي الدوريات الأوروبية، تكمُن المُشكلة الحقيقية في اتساع الفجوة المادية ما بين «الستة الكبار» وأندية القاع بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة.

تُحصِّل الأندية الـ6 الكبار ثلاثة أضعاف العوائد التي تُحصلها باقي أندية البريميرليج.
كيران مجواير، المحاضر المتخصص في اقتصاديات كرة القدم.

نتيجة لذلك، على سبيل المثال، منذ موسم 2015/2016، اتسع فارق النقاط بين صاحب المركز السادس وصاحب المركز الثامن عشر حتى وصل إلى 30 نقطة كاملة. هذا يجعَل الدوري أشبه بمسابقتين مختلفتين، بطولة للأغنياء، وأخرى لمن هم أقل ثراءً؛ لأنهم ليسوا فقراء على أي حال.

المشكلة مادية بالأساس، انظر لكريستال بالاس. يمكنهم إنفاق 15- 20 مليون جنيه استرليني على لاعب واحد، لا يمكن لفريق صاعد حديثًا منافستهم. لا أريد أن أبدو وقحًا، لكن هذا كريستال بالاس وليس مانشستر سيتي أو تشيلسي أو أرسنال.
مدير رياضي لأحد أندية البريميرليج لـ«ذي أثليتيك».

طبقًا لنفس المدير الرياضي صاحب التصريح أعلاه، حتى تصل الأندية الصاعدة حديثًا للأمان المادي الذي تحظى به أندية مثل كريستال بالاس ووست هام قد يستغرق الأمر بضع سنوات، يتمكّن خلالها النادي من تعظيم موارده، ما يجعله قادرًا على أخذ مخاطرة مثل إنفاق ملايين الدولارات على اللاعبين.

«تصرَّف مثل الكبار»

يبدو إنفاق الأندية الصاعدة حديثًا للدوري الإنجليزي الممتاز بحذرٍ تفكيرًا منطقيًا من وجهة نظرٍ اقتصادية، بخاصة وأن مكافأة الصعود، إن جازت تسميتها بهذا الاسم، قد لا تجعلهم قادرين على مجاراة الأندية الأكثر تمرُّسًا بالبريميرليج. لكن الأمر الواقع يؤكِّد أنّ النجاة مرتبطة بالمُخاطرة في أغلب الأحيان.

«إن لم تُنفق، لن تبقى». كان هذا عنوان تقرير نشره موقع «Off The Pitch»، المهتم باقتصاديات الرياضة. أشار التقرير إلى حقيقة أولى، وهي أن إنفاق الأندية لتدعيم صفوفها أمر لا بد منه للبقاء في الدوري الإنجليزي الممتاز، لسبب بسيط جدًا وهو تدعيم الصفوف بلاعبين سبق لهم اللعب في الدوري الممتاز.

هذا التدعيم يجعل متوسط سعر استقطاب اللاعب يرتفع من 3.3 مليون جنيه استرليني في التشامبيونتشيب إلى 20 مليون جنيه استرليني.

بحسب التقرير، الذي حلل صافي إنفاق الأندية التي صعدت للدوري الممتاز منذ موسم 2015/2016 وحتى موسم 2022/2023، حتى ينجح أي فريق في البقاء داخل الدوري الممتاز في موسمه الأول يجب أن يبلغ صافي إنفاقه ما يمكن تعريفه بـ«عتبة الـ40 مليون يورو».

فمثلًا، من ضمن 14 فريقًا تخطى صافي إنفاقهم الـ40 مليون يورو في موسمه الأول بالدوري الممتاز نجح 12 منهم في البقاء، بينما فشل 8 من أصل 10 ممن بلغ صافي إنفاقهم بسوق الانتقالات أقل من هذا الرقم من البقاء في الدوري.

موقف الأندية التي بلغ صافي إنفاقها أكثر من 40 مليون يورو منذ موسم 2015-2016.‎
موقف الأندية التي بلغ صافي إنفاقها أكثر من 40 مليون يورو منذ موسم 2015-2016.‎

السؤال المهم الآن: ماذا لو قررت الإدارات المُخاطرة ثم فشل الفريق في البقاء، مثلما حدث مع فولهام موسم 2018/2019، الذي بلغ صافي إنفاقه في سوق الانتقالات أكثر من 100 مليون يورو؟

الإجابة: أين المشكلة من الأساس؟

عطلة قصيرة

لحظة الهبوط من الدوري الممتاز ربما تعد أتعَس اللحظات على جميع مشجعي النادي الهابط، ولاعبيه، وموظفيه. لكِن عجلة الحياة تدور مجددًا دون شك، يعود المشجع ليؤازر، يرحل اللاعبون لنادٍ آخر أو يقبلون تخفيض أجورهم للتكيُّف مع وضع النادي المادي الجديد، ويحاول الموظفون والمسؤولون العودة مجددًا للأضواء، لكنهم متسلحون هذه المرّة بسلاح جديد.

منذ عام 2006، بدأت رابطة الدوري الإنجليزي الممتاز دفع ما يُسمى «مدفوعات المظلات- Parachute Payments» للأندية التي تهبط من البريميرليج للتشامبيونتشيب، والهدَف من هذه المدفوعات التضامنية هو استقرار هذه الأندية خلال السنوات الثلاث التي تتلو الهبوط، تجنبًا لوقوعها في أزمات اقتصادية بسبب انهيار العوائد المالية.

بشكل عام، يبدو هذا التوجّه مثاليًا لضمان الاستدامة، لكنّه مع الوقت، تحوَّل لاتجاه آخر، ظهرت عن طريقه «أندية اليو- يو»، وهي الأندية التي تصعد للدوري الممتاز ثم تفشل في البقاء، لتعود مجددًا بعد عام أو عامين على أقصى تقدير.

طبقًا لـ«كيران مجواير»، المحاضر المتخصص في اقتصاد كرة القدم، تبلغ عوائد البث الخاصة بفريق يلعب في تشامبيونشيب نحو 7 ملايين جنيه استرليني سنويًا. هذا الرقم أقل بـ34 مليون استرليني يحصل عليها الفريق الذي هَبط للتو من الدوري الممتاز. ماذا يعني ذلك؟

طبقًا لدراسة مستقلة صدرت عن جامعة شيفيلد الإنجليزية، خلال الفترة من 2016 وحتى 2021، فاحتمالية صعود الأندية التي تحصل على هذه المدفوعات التضامنية أكبر بثلاث مرّات من الأندية المنافسة في التشامبيونشيب.

يرى دان جونز، الخبير المالي، أنّ هذه المدفوعات، التي تصل لنحو 90 مليون جنيه استرليني مقسمة على ثلاث سنوات، لم تعد تعني المساعدة على الاستقرار، بل مَنح أفضلية على المنافسين.

تمنح المدفوعات الأندية ميزة مُصطنعة، حيث يتم استخدامها لغرض آخر غير الحماية. بل تذهَب الأندية وتصرف الكثير من الأموال على اللاعبين الجُدد لمساعدتهم على العودة للدوري الممتاز مرة أخرى.
فيل جيلز، المدير الرياضي لبرنتفورد الإنجليزي.

بسبب نظام توزيع عوائد البث غير العادل بين درجات المنافسات الإنجليزية المختلفة، لا تعاقب الإدارات التي تفتقر للكفاءة على قراراتها الرياضية، بل على العكس تمامًا، تُكافأ بمنحة إضافية للمحاولة مرة أخرى، ما يجعل اللعب في البريميرليج أبعد ما يكون عن المخاطرة كما ادعينا في البداية، لأن الفشل في البقاء بين الكبار لا يعني كارثة مُحققة، بل عطلة مؤقتة، ثم عودة جديدة للعب مع الكبار، بشكل يجعلنا نتشكك إذا ما كانت بعض هذه الأندية ترمي المنديل مبكرًا خلال المنافسة داخل البريمييرليج.

يمكن القول إن لدينا 24 أو 25 ناديًا في الدوري الإنجليزي الممتاز. لكن بعضهم يأخذ عطلة في التشامبيونشيب قبل العودة من جديد.
كيران مجواير.