“غلطة بورطة”، و”غلطة الشاطر بألف”، أمثلة تزخر بها الثقافة الشعبية الفلسطينية، ويوم التاسع عشر من شهر يناير/كانون الثاني الماضي كان يوم الورطة بالنسبة لضابط المخابرات الفلسطيني المخضرم السيد ماجد فرج، رئيس جهاز المخابرات العامة الفلسطينية، حين بدأت تنهال على المواقع الإخبارية الإلكترونية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي الترجمة العربية لمقابلته مع مجلة “ديفنس نيوز”، والتي أجرتها معه المراسلة الأمنية والعسكرية Barbara Opall-Rome وقال فيها: إن أجهزته الأمنية عطلت أكثر من مئتي عملية فدائية واعتقلت نحو مئة مقاوم منذ بدء “انتفاضة القدس”، وتصريحات أخرى للسيد فرج (أبو بشار) في المقابلة نفسها تؤكد على استمرار”التنسيق الأمني” بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل.


لا جديد في التنسيق الأمني

بدايةً، من المفترض أن تكون التصريحات السابقة قد أتت في سياقها الطبيعي نظراً لشخصية قائلها الذي يرأس جهازًا أمنيًّا فلسطينيًّا تنفيذيًّا من مهامه الأولى، التنسيق الأمني مع الاحتلال الصهيوني، وهذا شيء معلن وموجود بالاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير والكيان الاحتلالي الصهيوني؛ بمعنى: نحن هنا لا نذيع سرًّا، ولا نقدم اكتشافًا جديدًا، ولم نسجل براءة اختراع، فالغالبية العظمى من جماهير الشعب الفلسطيني لا تجهل هذه الحقيقة، وهي لا تغفل عن الدور الأمني التعاوني الذي قامت وتقوم به الأجهزة الأمنية الفلسطينية وكيف أنها مسيرة لما أنشئت عليه في الأساس، وفقًا لمبادئ “اتفاقية أوسلو” – سيئة الصيت والسمعة – هي وملحقاتها.فهي أجهزة أمنية فلسطينية أُنشئت للتنسيق والتعاون لحماية أمن الاحتلال، ومنع أي فعل وعمل كفاحي مقاوم، منطلق من الأراضي التي تسيطر وتتحكم فيها هذه الأجهزة، سواءً كان هذا العمل مسلحًا أو كان مسيرات شعبية، أو اشتباكًا بالحجارة على الحواجز العسكرية لجنود الاحتلال ومستوطناته المنتشرة على مداخل وداخل وحول وبين المدن والبلدات الفلسطينية، وتتحكم بكل شاردة وواردة، وتعد الأنفاس والخطوات على الفلسطيني.


لماذا أصبح التنسيق الأمني فضيحة؟

إذن أين الغرابة؟، وأين المشكلة؟، ولماذا كل هذه الضجة؟، ولماذا كل هذا الاستغراب والاستهجان والصراخ والاستنكار لتصريحات القائد الأمني المخضرم فرج؟!.هنا لابد أن نشير إلى أن تصريحات المحترم ماجد فرج، ابن الشهيد الذي ذهب غدرًا على يد الاحتلال الصهيوني في انتفاضة الأقصى في 2002، أتت بعد قرارات صريحة للمجلس المركزي الفلسطيني في مارس/ آذار 2015، وأتت بعد قرارات اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في 14 نوفمبر 2015، والتي أجمعت على التحلل من قيود “اتفاقية أوسلو”، وفي مقدمتها وقف التنسيق والتعاون الأمني، وتوفير الحماية لشعبنا الفلسطيني من إرهاب جيش الاحتلال وقطعان مستوطنيه، لا أن يكون العكس. في هذه التصريحات “الورطة” و”الفضيحة” التي صرح بها السيد فرج للمجلة الأمريكية.

كانت السلطة الفلسطينية تروّج سابقًا أن «التنسيق الأمني» يتم بمقابل سياسي يتعلق بتقدم مسيرة المفاوضات، وقد سقطت هذه الحجج الآن مع تدهور مسارات التفاوض.

كما يفترض بهذا أن يكون مفهومًا ومستوعبًا منذ قدوم السلطة الفلسطينية بوظيفتها الأمنية وحتى انتفاضة الأقصى 2000 حين بقيت الأمور سياسيًّا تتراوح بين أخذ ورد، ومفاوضات اليوم وغدًا، وبين آمال ووعود. لكن أن تكون هذه التصريحات “الورطة” و”الفضيحة” بعد تأكيدات غالبية إن لم يكن كل أقطاب السلطة الفلسطينية وأجهزتها المختلفة الأمنية والسياسية بمن فيهم السيد فرج نفسه عن انسداد الأفق في أي حل سياسي، مع هذا الاحتلال وحكومته الفاشية، وما يستدعيه هذا من وقف للتنسيق الأمني.فجزء مما تم ترويجه من أقطاب السلطة الفلسطينية وحركة “فتح” – حاضنة مشروع السلطة – هو أن هذا التنسيق الأمني فيما مضى كان بـ “مقابل سياسي”. فأين هو المقابل السياسي لهذه التصريحات؟، ثم كيف يكون هذا ونحن نشهد حالة حراك متصاعدة ضد الاحتلال وقطعان مستوطنيه في “انتفاضة القدس”، الحالية المستمرة حتى هذا اليوم وبتصعيد نوعي يومًا بعد يوم، والذي كانت أحد تجلياته عملية الشبان الثلاثة المنظمة، حينما انطلقوا من بلدة قباطية في مدينة جنين شمال الضفة الغربية المحتلة ووصلوا جنوبًا إلى مدينة القدس ونفذوا عمليتهم البطولية.


أمجد «المقاوم»

في خضم هذه الحالة من الجدل السياسي الفلسطيني وملحقاتها حول تصريحات “الفضيحة” و”الورطة” للسيد فرج، ابتهج الشارع الفلسطيني بالبطل الثائر، قام كادر الأمن الفلسطيني “أمجد السكري” – الذي لا ريب أنه شعر بالحنق والإهانة من تصريحات قائده الأمني ماجد – بتنفيذ عملية بطولية بإطلاقه النار على حاجز عسكري “إسرائيلي” مُعَدّ لمرور الشخصيات “الرفيعة” في “سلطة رام الله” (VIP)، قرب حاجز مستوطنة “بيت إيل” شمالي مدينة البيرة وسط الضفة المحتلة، وهي العملية التي أدت لإصابة ثلاثة عسكريين صهاينة، وارتقى بعدها أمجد لربه شهيدًا، موجهًا بذلك ضربة مزلزلة – حتى وإن كانت ضربة معنوية – لهرطقة “التنسيق الأمني” بين الجلاد (الاحتلال) والضحية (الفلسطينيين)، وتاركًا وراءه ارتدادات ومدلولات ومعاني كبيرة التقطها الشارع الفلسطيني، فكان ترحيبه المضاعف والكبير بالثائر أمجد.

لن يكون أمجد السكري رجل الأمن الأخير الذي يقوم بعملية ضد قوات الاحتلال، كما أنه لم يكن الأول خلال «انتفاضة القدس»، وإن كان الأشهر.

لقد شعر رجل الشارع الفلسطيني والعربي البسيط قبل رجل السياسة والتحليل الضليع بجوهر هذه العملية، فكان الرونق الخاص لعملية الثائر أمجد النوعية لخلفية منفذها الأمنية والسياسية والاجتماعية. نعم، ابتهج رجل الشارع الفلسطيني البسيط كما لم يبتهج من قبل بعملية الثائر أمجد؛ لأنها أتت مصاحبة لتصريحات ماجد “الورطة” و”الفضيحة”. وهنا ثارت الأسئلة: هل سقطت منظومة “التنسيق الأمني” بين السلطة والاحتلال برصاصات أمجد؟ هل أسقط أمجد “المقاوم”، ماجد (التنسيق الأمني)،”المساوم”؟، وهل سيكون ” أمجد السكري” ضابط أو عنصر الأمن الفلسطيني الأخير الذي سينفذ عملية بطولية ضد الاحتلال وقطعان مستوطنيه؟.


مستقبل التنسيق الأمني

تؤكد كافة المؤشرات بأن أمجد “الثائر الأمني” لن يكون الأخير، وبالمناسبة أمجد لم يكن هو الأول في “انتفاضة القدس”، هو الأشهر حتى الآن؛ لكن أمجد رجل الأمن الثالث الذي ينفذ عملية بطولية، ضد الاحتلال وقطعان مستوطنيه، إذ سبقه من قبل ضابط الاستخبارات العامة الذي أطلق النار على قوات جيش الاحتلال في جنوب رام الله قبل حوالي الشهرين، كما كانت هناك محاولة لشرطي فلسطيني همّ بإطلاق النار على جنود صهاينة في بداية الانتفاضة وفشل في ذلك وتم اعتقاله من قبل أمن السلطة الفلسطينية. وفي حالات أخرى اعتقلت قوات الاحتلال الصهيوني كوادر عاملة في صفوف أجهزة السلطة الفلسطينية، وتم توجيه لوائح اتهام لهم بالمساعدة اللوجستية للمقاومين، أو المشاركة المباشرة في التخطيط لعمليات المقاومة.ما يعنينا هنا بالمقام الأول هو ما أضفته وأضافته عملية “الثائر” و”المقاوم” أمجد السكري، والتي تقول إن الروح الكفاحية عند كل أبناء الشعب الفلسطيني بكل قواهم وتياراتهم السياسية والفكرية، وعلى رأسهم أبناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية الثائرين الأحرار، الذين يحاصرون نصل خنجر “التنسيق الأمني” والذين يكنزون في قلوبهم وبين ضلوعهم حُبًّا كبيرًا لوطنهم وأرضهم فلسطين المغتصبة والمُحاصَرة بقطعان المستوطنين، ستبقى مُتّقدة وهّاجة، نرقبهم وهم يتحيّنون الوقت المناسب للتعبير عن معدنهم وجوهرهم الفلسطيني الأصيل، كما كان جوهر ومعدن “الثائر الأمني” أمجد، الذي كتب على صفحته قبل ارتقائه إلى ربه شهيدًا، بساعتين فقط من تنفيذه العملية:

على هذه الأرض ما يستحق الحياة، بس للأسف مش شايف شي يستحق الحياة ما دام الاحتلال يكتم على أنفاسنا ويقتل إخواننا وأخواتنا. اللهم ارحم شهداءنا واشف جرحانا وفك قيد أسرانا، أنتم السابقون ونحن بإذن الله بكم لاحقون.

إذن، معادلة الشهيد أمجد واضحة وترسم معالم الطريق بوضوح متجدد، بأن أبناءنا في الأجهزة الأمنية الفلسطينية يعرفون طريقهم جيدًا، مهما شدّد قادة الكيان وضغطوا على السلطة الفلسطينية بضرورة الحفاظ على ما أسموه “التنسيق الأمني المتطور” معها، لا سيما ضد خلايا “حماس” و”الجهاد” في الضفة الغربية. أمجد ورفاقه من قبل ومن بعد يقولون لهؤلاء: إن هذا التنسيق الأمني “المتطور” أو “المقدس” سيبقى مولودًا مشوهًا، منبوذًا، من الشعب الفلسطيني وقواه الحية، ومن كوادر وعناصر وضباط الأجهزة الأمنية أنفسهم.وأصبح من الطبيعي أن نشهد في قادم الأيام انضمامًا أكبر لأشخاص من أجهزة الأمن الفلسطينية وإلى جانبهم مقاومون مسلحون من تنظيم “فتح”، إلى دائرة المواجهة والفعل، وحين ينضم مقاومو “فتح” بقضّهم وقضيضهم سنرى العجب العجاب من “حماس” و”الجهاد” و”الجبهات”، فحينها سيكون التنافس المحمود بينهم: من سيُثخِن أكثر عدونا الأبدي الصهيوني؟.وهذا هو السيناريو المرعب الذي لا تتمناه “إسرائيل”؛ إذ حينها سيتأكد المؤكد لها بأن كل محاولاتها وتجاربها في كي وعي الفلسطيني ذهبت أدراج الرياح. فمشروع “الفلسطيني الجديد”، الذي ينتظر الراتب والعلاوات والنثريات آخر الشهر (رغم أنها حق طبيعي للفلسطيني، ولا تعارض بينها وبين حقه بالمقاومة ورفضه للمحتل مغتصبِ أرضه)، والذي راهنت عليه “إسرائيل” عبر خرافة “مشروع السلام الاقتصادي والأمني”، وبشّر به البعض منا، لم يخلق مثل هذا الجيل المرجو والمنشود والموعود للمحتل داخل فلسطين، فانتفاضة الشباب الفلسطيني وعملياتهم وإستراتيجياتهم في تصاعد نوعي وكمّي، وسنشهد في قادم الأيام تصعيدًا أكبر سيربك المشهد الأمني الإسرائيلي بصورة أكبر. فرسالة أمجد والمقاومين تؤكد من جديد المؤكد لكل فلسطيني وعربي وحر في هذا العالم، بأن ليل الاحتلال في فلسطين زائل، طال الزمن أم قصر، هذا وعد الله.