زُلزلت الأرض بفوز منتخب الأرجنتين بنجمته الثالثة في مونديال قطر 2022، واحتشدت الأرجنتين بكاملها للاحتقال بهذا الإنجاز التاريخي. نظرة مقربة على صور الاحتفالات ووجوه المواطنين تخبرك أن خلف هذه الفرحة العابرة قلقُ مقيم، وأزمة مزمنة يعلمون أنهم سيعودون إليها بعد ساعات قلائل من الاحتفال بمنتخب بلادهم. أزمة الاقتصاد الهش، والتضخم الذي سيبلغ 100% في فترة قليلة.

ربما ينقذهم الفوز بكأس العالم لمدة مؤقتة، فالملاحظة تخبرنا أن للفوز بكأس العالم تأثيرًا إيجابيًا على اقتصادات البلدان الفائزة به. ويرتبط بشكل كبير بزيادة الإنتاج المحلي بخاصة في العام التالي للفوز بالبطولة. فنجد أن البرازيل مثلًا قد حققت عام 1994 نموًا بلغ 6%، أي بزيادة أكبر من العامين السابقين لفوزها بالكأس، وكذلك أكبر من العامين اللاحقين لفوزها به. وفي عام 2010 انتعش الاقتصاد الإسباني بعد فوزها بالبطولة، رغم أنه كان يعاني من فترة ركود طويلة ومخيفة.

واليوم يأتي دور الأرجنتين مرة أخرى، فالبلد غارق في فوضى اقتصادية عميقة ومزمنة. وبلغ التضخم، عشيّة الفوز بالكأس 92.4%، لكن يتوقع الاقتصاديون أن يستمر في الارتفاع حتى تتضاعف الأسعار ويوّدع الأرجنتينيّون عام 2022 بنسبة تضخم 100%. لم تتغير تلك التوقعات حتى بعد الفوز بالكأس الأخيرة، فربما تنتعش السياحة قليلًا، لكن الوضع وصل لمرحلة مأزومة، وأصبحت المعضلة الاقتصادية جزءًا من هيكل الدولة، تحتاج لتغيّرات مستدامة وجذرية.

دائرة الانتعاش والانتكاس

خلال السنوات الماضية اعتمدت البلد على عدة برامج للإصلاح الاقتصادي. تريد انتشال نفسها من الركود التضخمي والبطالة والفقر وانهيار قيمة العملة المحلية. لكن مع تقدّم طفيف ما تلبث الأمور أن تعود للمربع صفر من جديد. في عام 2015 تولى ماوريسيو ماكري رئاسة البلاد، خلفًا لكريستينيا فرنانديز التي حكمت البلاد لثمانية أعوام. في نفس شهر تولي الرجل للسلطة قرر تحرير سعر الصرف، كخطوة أولى في خطوات برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي وضعه.

كانت الأرجنتين قد وصلت لحافة الانهيار، وتجلّى ذلك في عجزها عن سداد ديونها عام 2014، للمرة الثانية في 13 عامًا. ماكري وصل لتسوية معقولة مع الدائنين، واستطاع الرجل أن يخفض عجز الموازنة ومعدل التضخم. كما نما الاقتصاد الأرجنتيني عام 2017، ثالث أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية، بنسبة 2.8%. لكن هذا التحسن لم يستمر، وعادت البلاد للانتكاس.

بعد عام واحد فقط عانت البلاد مرة أخرى من الركود التضخمي، نسبة التضخم بلغت 47%، وانخفض الناتج المحلي بنسبة 2.5%. وعادت البطالة للارتفاع، وازداد معدل الفقر. الأمر الذي يطرح سؤالًا ملحًا، إذا كانت هناك رغبة سياسية حقيقية في الإصلاح، ونجحت الإصلاحات لبعض من الوقت، فلماذا لا يستمر هذا النجاح؟

الإجابة في النموذج الأرجنتيني تتلخص، بشكل مُخلّ، في عاملين. الأول هو سياسي في الأساس، فالبلاد مشهورة بالصراعات السياسية الداخلية. ومع وجود التقشف كعامل مشترك في غالبية برامج الإصلاح، فإن المعارضة السياسية تستغل هذا التقشف للتلميح بعجز الحكومة، كما يخرج الآلاف بشكل شبه مستمر للشوارع احتجاجًا على زيادة أسعار الغاز والكهرباء، ما يجعل الحكومة في معظم الأحيان تتراجع عن خطتها بعد فترة وجيزة.

ربما يمكننا الاستفادة من هذا الدرس وتوضيح أن التآزر السياسي هو أول مقوّم للنجاح الاقتصادي، وعلى الحكومات أن تُشرك المعارضة، وشعبها، في خططها. أما العامل الثاني الذي يرد البلاد للمربع الأول في نهاية المطاف فهو عامل اقتصادي، الديون. خصوصًا أن تلك الديون دائمًا ما تكون مقوّمة بالعملات الأجنبية التي ينخفض أمامها البيزو باستمرار، لذا فخدمة الدين تلتهم كثيرًا من ثمار البرامج الإصلاحية، ومن عرق الشعب المنهك.

الوزير ليس ساحرًا

ترك ماكري السلطة لألبرتو فرنانديز، يسار وسط، عام 2020، ليبدأ الرجل الجديد في محاولة حل المعضلات المتراكمة من جديد. لكن وصلت ديون البلد إلى 315 مليار دولار، أي 100% من الناتج المحلي للبلد يجب أن يذهب لخدمة الديون. لأجل ذلك بدأ ألبرتو حكمه بقانون الضرائب الطارئة. ينص القانون على زيادة الضرائب على الطبقات المتوسطة والعليا، ومنح مساعدات اجتماعية للطبقات الأكثر فقرًا. كما فرضت رسوم 30% على شراء الدولار، والعملات الأجنبية، وهو سلوك معتاد في الأرجنتين لتأمين مدخراتهم ضد انخفاض العملة المستمر.

كما زاد البنك المركزي الأرجنتيني الفائدة على المدخرات بالعملة المحلية إلى 63%، أكبر نسبة فائدة في العالم، لإنقاذ العملة المحلية التي تنهار يوميًا أمام الدولار. لكن رغم ذلك لا يتوقع البنك أي تحسن في الاقتصاد، بل يميل لانخفاض الناتج المحلي بنسبة 1.1%. لكن الرهان الحالي قائم على التفاوض المستمر مع صندوق النقد الدولي، وحائزي السندات الدولية، لتمديد آجال تسديد الديون.

لكن لا تمضي الأمور بالسلاسة المتوقعة. ففي أغسطس/ آب عام 2022  أدى سيرجيو ماسا اليمين الدستورية كوزير للاقتصاد. الرجل هو ثالث وزير للاقتصاد في شهر واحد. كان أول تصريح له بعد اليمين أنه لا يملك إجراءات عميقة يمكن أن يعلن عنها في يوم لتغيّر مسار الاقتصاد المتدهور فورًا. وصدم الجميع بالحقيقة قائلًا إنه ليس رجلًا خارقًا، ولا منقذًا ولا ساحرًا. ينفي الرجل بذلك العناوين الصحفية التي تحدثت عن كونه خارقًا لأن الرجل وحده مُنح إدارة ثلاث وزارات مستقلة، الإنتاج والزراعة والاقتصاد.

في تصريح آخر قال ماسا، إن فريقه الاقتصادي سيعطي إجابات للشعب، لكنها لن تأتي في يوم أو يومين. واستطرد قائلًا السحر غير موجود. قد يبدو الرجل جافًا في تصريحاته، لكنها الحقيقة لحالة الأرجنتين. فكل الأزمات السابقة، والاضطرابات الاجتماعية، والعقدان الماضيان من التقشف، كل هؤلاء قد تركوا ندوبًا في الجسد الأرجنتيني لم تزل آثارها جليّة، ولا يتوقع أن تختفي في القريب العاجل.

حد أقصى للسحب

فقد كانت صدمة الشعب كبيرة حين انهارت نظرية التحويل، واحد مقابل واحد، التي تبناها البيروني المحافظ  كارلوس منعم. استمرت تلك السياسة في التحويل بين البيزو والدولار لمدة عقد، 1989 إلى 1999، وكان قيمة البيزو مبالغًا فيها. فأفاق الأرجنتينيون على انهيار مفزع. فهشمّوا واجهات المحال والمصارف، وتدخلت الشرطة وقتلت الكثير، وفرّ الرئيس بهليكوبتر خارجًا من الجحيم الذي أشعله الناس.

أتى عام 2001 بخطط جديدة للإصلاح أقرّها الرئيس فرناندو دي لاروا، لكنه أمر بتجميد الودائع وتحديد السحب بـ250 بيزو في الأسبوع. غضب الشعب وبدأت ثورة صامته، لكن الرئيس قرر فرض حصار على الغاضبين. ذكرّهم ذلك بسنوات الديكتاتورية، فتوّجه الآلاف إلى ساحة بلازا دي مايو، حيث يوجد البرلمان، وبدأوا في قرع الطبول والأواني احتجاجًا. لم يهدأ الصوت حتى بعد استقالة وزير المالية، وطالبوا برحيل الجميع.

فر فاندنو، خلفه أدولفو روديغيو أسبوعًا واحدًا في السلطة. لكن في ذلك الأسبوع أعلن الرجل عن أكبر تخلف للسداد في التاريخ، 100 مليار دولار. ليتحول بذلك الحلم إلى كابوس. بعد أن عاشت الأرجنتين عصرها الذهبي في التسعينيات، وحقق معدلات نمو هي الأكبر بين دول المنطقة بالكامل. لكن يبدو أن نبوءة كارل ماركس تعود للتحقق مرة أخرى، فكل الأحداث التاريخية العالمية تحدث مرتين، مرة كمأساة ومرة كمهزلة.

فقد وصلت البلاد إلى أزمة مالية جديدة بنفس الطرق القديمة. وعد بزيادة الإنفاق دون القدرة على زيادة الضرائب، ثم الاقتراض كي يتوقف السوق المحلي عن الاقتراض. ثم طباعة مجنونة للعملة المحلية لتغطية العجز، ثم يدرك المواطنون ذلك فيقررون عدم الاحتفاظ بالعملة المحلية، فتنهار قيمتها.

الشعب لا يثق في حكومته

الغريب في أزمة 2022 تحديدًا أن هبوط أسعار المنتجات الزراعية كان دائمًا سببًا أساسيًا في انهيار اقتصاد البلاد، لأنها من كبار المصدرين لتلك المنتجات. لكن سقطت البلاد في الأزمة الراهنة أن سعر تلك المنتجات بلغ أرقامًا قياسية، لكن أزمة الحرب الروسية الأوكرانية كان لها تأثير على منتجات الأرجنتين كذلك. كما أن الجفاف المحدق يهدد بخفض صادرات المحاصيل لعام 2023 أيضًا.

كما أن الجديد هذه المرة أن الأرجنتين كانت تعتمد على الاقتراض من الخارج، وتحدث المشكلة عندما يقرر الغرب التوقف عن الإقراض. لكن هذه المرة كان الأجانب من الأساس عازفين عن إقراض البلد، لهذا كانت الاقتراض داخليًا. فوزارة الخزانة تصدر السندات وبيعها داخليًا، لكن لأن السوق الداخلي متعثر، فقد كان البنك المركزي يطبع البيزو لإنعاشه. وحين يزداد البيزو في الأسواق، يحاول البنك اجتذابه مرة أخرى بطباعة سندات بآجال قصيرة لتشجيع الناس على شرائها.

لكن لأن البنك المركزي مملوك من وزارة الخزانة، فلا يجد المدخرون سببًا للاحتفاظ بتلك السندات المشكوك في أمرها. كل ذلك خلق حالة من العجز عن توفير العملة الأجنبية عجزت معها الشركات عن استيراد المدخلات أو قطع الغيار. نتيجة قديمة ومعروفة كذلك. والاختيارات المطروحة أمام الحكومة ليست جديدة أيضًا، فهي تدور بين خفض سعر الصرف الرسمي، وخصخصة القطاع العام.

لكن حتى تلك الطرق لم تفلح مؤخرًا، وأعلنت البلاد للمرة التاسعة في تاريخها عجزها عن سداد ديونها عام 2022. وانهار 40% من سكان البلد، البالغين 45 مليون نسمة، تحت خط الفقر. رغم أن معدل الأجور في البلاد يبلغ 66 ألف بيزو، لكنهم يعادلون 383 دولارًا فحسب. لكن البلد أصبحت مدينة لصندوق النقد بـ150 مليار دولار. بعد أن استطاعت الحكومة اليسارية عام 2005 جميع ديونها للصندوق، 10 مليارات دولار، دفعة واحدة كي تقطع العلاقات معه.

ويوشك العام الجديد أن يحمل مأساة جديدة للشعب كله، فهل تنجح الحكومة في إحراز أهداف التوازن الاقتصادي والانتعاش المالي، مثلما نجح ميسي ورفاقه في إحراز أهداف الفوز بالمونديال في مرمى خصومهم؟