في لحظة رَوَقان، سأل «حنفي»، خبير الذرات، «الواد مزيكا»، صبي الجزار: «بتفهم في السياسة يا واد يا مزيكا؟»، فأجابه «مزيكا» واثقًا: «أفهم ف السياسة! هأو؛ أنا الشعب»

ما زالت عبارة «مزيكا» الخالدة، «أنا الشعب»، ترن في أذني حتى يومنا هذا. فها هو صبي المعلم «طربأها» الجزار، ومتعهد الأفراح في أوقات الفراغ، يجيب على السؤال الذي تنازع على إجابته كل الفلاسفة السياسيين، من «توماس هوبز» إلى «حنا أرندت».


ماهو الشعب؟

الشعب، وفقًا لمزيكا، يتجسد في ذاته، أي في الشخص الفهلوي الجدع، الخدوم لكن الملاوع، الظريف لكن الذي يحمل سكاكين تحت جلبابه، الشريف لكن الذي لا يمانع في سبوبة هنا أو نحتاية هناك.

لا تظن أن السطور السابقة محاولة للاستظراف. فأنا بالفعل جاد كل الجدية. فكل محاولات تعريف كلمة «شعب»، كمفهوم علمي يمكن التعويل عليه، تنطوي اختزال حقائق التاريخ والجغرافيا، البشر والحجر، إلى «واد مزيكا» من نوع أو آخر.

«السكان» مفهوم يشير إلى كتلة خاملة من البشر، بينما «الشعب» مفهوم يشير إلى كيان فاعل وصاحب سيادة

لا تنس أن كلمة «شعب» تأتي بالضبط في مواجهة كلمة «سكان». ففي حين أن «السكان» مفهوم يشير إلى كتلة خاملة من البشر ممن يقطنون مساحة جغرافية معينة، فإن «الشعب» كمفهوم يشير إلى تلك الكتلة ذاتها بعد أن دبت فيها الحياة لتصبح كيانًا فاعلًا؛ معلّمًا كما يقول الناصريون، أو صاحب سيادة كما تقول الدساتير الحديثة.

يقدم مفهوم «الشعب» لنا الكتلة السكانية كفاعل تاريخي، صاحب رأي ورؤية، ينبغي الإنصات له والرضوخ، وهو ما يفترض، أو بالأحرى يتوهم، أن «الشعب» كيان متجانس له صفات كصفات «الواد مزيكا» أو غيره من الصبيان (وليس البنات بالقطع). مثلًا: هذا شعب ثائر بطبعه، وذاك شعب وسطي حليم؛ هذا شعب يعشق العبودية، وذاك شعب محب للحرية.

وحتى لو تكرم هذا العالم السياسي أو ذاك ومنح الشعب بعضًا من الحيوية التاريخية، وهو أمر محمود على كل حال، فإن المشكلة تظل قائمة. إذ تتم أنسنة «الشعب» (أي تشبيهه بالإنسان)، بحيث يتطور كفاعل تاريخي، من طور إلى طور، بحسب الخبرة ومرور الزمن. فهذا الشعب كان ثائرًا ثم أصبح خانعًا، وذاك الشعب كان وسطيًا فأصبح متطرفًا.

هذا بالضبط ما يشرح لنا لماذا تحول الرأي العام الثوري من تمجيد الشعب المصري الحر الأبيّ صانع ثورة يناير العظيمة، إلى إنزال اللعنات عليه بعد أن اكتشف/نا أنه شعب خانع بطبعه لا يمكن حكمه إلا بالبيادة والكرباج.

فطالما «الشعب» فاعل متجانس، فمن حقـنا تمجيده أو سبه، بل ومن حقنا كذلك التقاط صورة فوتوغرافية لشخص واحد، من ملايين الأشخاص المكونين للشعب، يضع فوق رأسه، مثلًا، بيادة، ثم نقول معلقين عليها «هذا هو الشعب المصري عاشق البيادة». فطالما اختزلنا الملايين في فاعل واحد وهمي اسمه «الشعب»، فلنا الحق بالتالي أن ننتخب واحدًا من تلك الملايين بصفته ممثلًا أمينًا للجموع، وليكن «الواد مزيكا»، أو «رافع البيادة على الرأس».

إشكالية «الواد مزيكا» إذن أكبر بكثير من شخص مزيكا المتواضع. هي، بلا أدنى شك، رمز وتلخيص لأكثر الأساطير الفكرية تأثيرًا في عصرنا الحديث: أسطورة هذا الكيان الهلامي، الفاعل الأهم والأكبر في حياتنا السياسية، الذي يسمى «الشعب».

ولأن «الشعب» أسطورة مراوغة، لا يمكن إثباتها، فإنه أحيانًا -ليست بالقليلة- يقوم بدور محلل الطغيان. كلنا نعرف اللعبة الأثيرة لحكامنا الديكتاتوريين، الذين لم يحسن إليهم زمانهم بإعطائهم منحة الحكم بالحق الإلهي، أو بالوراثة وصلة الدم، فاخترعوا ذريعة متناسبة مع عصرنا الحديث للبطش بلا حساب، أو بحساب، اسمها «سيادة الشعب».

شعار «سيادة الشعب» الذي ظهر كشعار تحرر من العصور المظلمة في لحظة ما، تحول بفعل التاريخ إلي شعار عبودية في لحظة أخرى

لا تفهموني خطأ. فأنا لا أشك أبدًا في أن لحظة ميلاد «سيادة الشعب»، تلك اللحظة الثورية الممتدة، مع انقطاعات وتراجعات، بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، كانت لحظة فارقة في تاريخ الإنسانية. لا أشك أبدًا في أنها أسقطت أغلال قرون طويلة، ومهدت الطريق لتحرير البشر من عصور مظلمة. لكن ما أطرحه هو أن مكر التاريخ جعل ما كان شعار تحرر في لحظة ما يصبح شعار عبودية في لحظة أخرى.

فبعدما رُفع شعار «السيادة للشعب» كتعبيرعن ثورة «الرعايا» (أي البرجوازية وجموع معدمي المدن) على الملكية المطلقة والطبقة الأرستقراطية الحاكمة، في عصور الثورات البرجوازية، انحدر الشعار قبيل منتصف القرن العشرين ليصبح أداة رخيصة في يد حكام، ومواطنين، يريدون أن يطمسوا حقيقة أساسية علمتها إياها ثورة يناير: أن الشعب ليس كيانًا متجانسًا، بل كتلة متناقضة متصارعة، متكونة من فئات وطبقات وقوى وجماعات متباينة، أو حتى متناقضة، المصالح.

المسألة هنا أن تفكيك «الشعب» إلى قواه المتناقضة ينهي الأسطورة التي بنى الطغاة عليها عروشهم، ويمنع الثوريين من أن يتنطعوا واصمين الشعب كله، عن بكرة أبيه، بالثورية أو الخنوع. تفكيك الشعب إلى قواه المتناقضة يمكن أن يزرع الأمل في قلوبنا حين نفهم مثلًا أن أسطورة التأييد «الشعبي» الجارف للسيسي ليست أكثر من وهم مصنوع بحرفية؛ وهم يصوّر شَلل، ومن ثم صمت ودفاعية، قوى اجتماعية واسعة آمنت بالثورة ودافعت عنها، ثم انهزمت أمام ثورة مضادة جامحة، على أنه تأييد، في حين أنه يأس يأخذ شكل التسليم بقدر لا فكاك منه.

والحقيقة أن هذا التنين المسمى بـ«الشعب» يدور وجودًا وعدمًا، صعودًا وهبوطًا، مع انتصار وهزيمة القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير. فكلما دخلت الطبقات المظلومة والخاضعة في طور ضعف وكمون، طور انهيار في الهيمنة كما يقول المنظّر الشيوعي «أنطونيو جرامشي»، كلما فقدت صوتها وقدرتها على التعبير عن نفسها باستقلالية، وهو بالضبط ما يسمح للطبقات المسيطرة بترويج أسطورة الشعب الواحد المتجانس. وكلما دخلت تلك الطبقات في طور ثورة وفوران، كلما بدا وجودها كقوة مستقلة تاريخيًا واضحًا للعيان، وهو بالضبط ما يحرم الطبقات المسيطرة من فرصة تغذية وهم “الشعب” المنصهر في بوتقة واحدة.

لو كان لكل هذا من معنى فهو أن القضية الرئيسية للأبناء الشرعيين لثورة يناير، أولئك الذين يحملون إرثها القائم على التغيير الجذري من أسفل، ينبغي، في هذه المرحلة الصعبة، أن تكون دعم وتعزيز كل أشكال وصور «تفكيك الشعب»، أي كل أشكال وصور تحقيق الاستقلالية الفكرية والتنظيمية والعملية للقوى المظلومة والخاضعة التي مثلت الوقود الرئيسي لثورة يناير في أجمل لحظاتها.

نحن لا ينبغي أن نسعى إلى انصهار «الشعب» كله في بوتقة واحدة، نحن لا ينبغي أن نسعى إلى خلط الحابل بالنابل، ولا ينبغي أن نفرح بتمييع الخطوط الفاصلة بين الظالمين والمظلومين، بين من عادى الثورة ومن تبناها، ففي هذا، في أسطورة وحدة «الشعب»، يكمن الضعف الرئيسي لماكينة يناير الجبارة؛ تلك الماكينة التي عطلها وهم أن العدل يمكن أن يحققه رأسماليون كبار فاسدون لكن ذوي قلوب رحيمة، وأن الحرية يمكن أن يصونها من احتقر أولئك الذين لا يبدو على سمتهم المتواضع والفقير أنهم شباب ثورة يناير الشرعيين.

الثورة مفيهاش «مزيكا»، الثورة تبدأ حين يتفكك مزيكا، حين تتبدد أسطورة الشعب الواحد المتجانس، لتنطلق حركة تحرير للخاضعين تعرف جيدًا كيف تميز أصدقاءها من أعداءها.