ربما لم يدر بخلد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وهو يعطي إشارة البدء بغزو الأراضي الأوكرانية في فبراير/شباط 2022 أن حربه هذه ستكون مقدمة لظهور معارضة مسلحة داخل أراضيه.

مؤخرًا ظهرت مجموعتان تطلقان على أنفسهما «فيلق الحرية الروسي» و«فيلق المتطوعين الروسي»، وتزعمان أنهما تتألفان من مواطنين روس يقاتلون؛ لتحرير بلادهم من نظام بوتين.

عبر أفراد المعارضة الروسية المسلحة الحدود من شمال أوكرانيا إلى منطقة بيلغورود الروسية، وواجهوا مقاومة ضعيفة في بعض نقاط الحدود، واستولوا على القرى في طريقهم، حيث تخلت معظم وحدات الجيش الروسي منذ فترة طويلة عن مناطق الحدود الشمالية، واتجهت إلى شرق وجنوب أوكرانيا، حيث يقبع الجزء الأكبر من الجيش في انتظار الزخم الرئيس للهجوم المضاد المتوقع لأوكرانيا.

وكلتا المجموعتين المسلحتين حديثة التأسيس؛ فقد تأسس فيلق المتطوعين على يد مواطن روسي يميني متطرف في أغسطس/آب الماضي، ويضم روسًا يقاتلون في أوكرانيا ضد الجيش النظامي الروسي، وأعلن الفيلق عن نجاحه في أسر عدة جنود، وتنفيذ توغلات عسكرية في مارس/آذار وأبريل/ نيسان الماضيين.

وقال دينيس كابوستين، الذي عرّف نفسه بأنه قائد الفيلق، إن المجموعة ستشن المزيد من الغارات، وذلك عندما تحدث إلى الصحفيين على الجانب الأوكراني من الحدود في 24 مايو/ أيار، وحينها سأله الصحفيون مرارًا عن تقارير وسائل الإعلام الغربية بأن ميليشياته استخدمت معدات عسكرية أمريكية كان من المفترض أن تساعد أوكرانيا في الدفاع عن نفسها ضد الغزو الروسي، لكنه امتنع عن الرد مباشرة.

ويُوصف كابوستين بأنه «نازي جديد روسي عاش في ألمانيا لسنوات عديدة».

أما فيلق حرية روسيا فتم تشكيله في ربيع عام 2022 «من منطلق رغبة الروس في القتال في صفوف القوات المسلحة الأوكرانية ضد عصابة بوتين المسلحة» وفقًا لقولهم، وتقول الجماعة إنها تتعاون مع القوات المسلحة الأوكرانية وتعمل تحت قيادة أوكرانية، ومسؤولة عن مهاجمة منطقة بيلغورود الروسية الشهر الماضي وإنها تقاتل في شرق أوكرانيا.

وقالت المخابرات العسكرية الأوكرانية إن الهجمات في بيلغورود تهدف إلى إنشاء «منطقة أمنية»؛ لحماية المدنيين الأوكرانيين، وقد تخلت القوات الروسية فعليًا عن عدد من البلدات والقرى الحدودية، مثل منطقة بيلغورود الروسية، حيث شنت الجماعات المتمردة الروسية المسلحة من شن غارات عبر الحدود، وتمكنت من الاستيلاء على أراضٍ داخل روسيا.

كما تعرضت بلدة شيبكينو الروسية البالغ سكانها حوالي 45 ألف نسمة لقصف عنيف، وفرّ جميع السكان باستثناء 500 شخص من تلك المنطقة الحدودية، معبرين عن شعورهم بأن لا أحد يحميهم، وأنهم منسيون في ظل غياب السلطات عن عمليات الإجلاء، ووجد المواطنون أنفسهم مجبرين على الاعتماد على جهودهم الذاتية للتصرف.

وفي منطقة كالوغا الروسية – المتاخمة للمناطق الجنوبية حول موسكو – قال الحاكم فلاديسلاف شابشا إن طائرتين من دون طيار سقطتا على طريق رئيسي، وأعلن فيلق المتطوعين عن سيطرته أيضًا على بلدة نوفايا تافولجانكا، إحدى أكبر القرى في المنطقة، واعترف فياتشيسلاف جلادكوف، حاكم المنطقة، بأن القوات الروسية «لا تستطيع الوصول إلى القرية» وفقدت السيطرة عليها.

ووصف المراسلون الصحفيون في شيبكينو ظروفًا مشابهة لتلك الموجودة في مدن المواجهة في أوكرانيا التي تحتلها روسيا، وقالت الصحفية المؤيدة لبوتين، ماريانا نوموفا، بعد زيارتها لشيبيكينو: «من غير المعتاد أن أكون مرتدية سترة واقية من الرصاص وخوذة داخل روسيا القديمة».

حاول الإعلاميون الحكوميون تهدئة السكان، ووصفت مارغريتا سيمونيان، رئيسة شركة RT التي تمولها الدولة، الغارات عبر الحدود بأنها تهدف إلى بث الذعر وتصوير أن الحرب موجودة بالفعل على أراضي روسيا، لكنها عندما سُئلت عن سبب عدم قيام الجيش بعد بشن هجوم مضاد، قالت: «لا أعرف متى، أنا لست جيشنا، كل ما يمكنني فعله هو الصلاة».

وأعلن فيلق الحرية الروسي Liberty of Russia Legion (FRL) في بيان مشترك مع فيلق المتطوعين الروسي The Russian Volunteer Corps (RDK)، عن أسر بعض الجنود الروس في بيلغورود، وأعلن كبير مسؤولي بيلغورود، فياتشيسلاف جلادكوف، بالقول إنه وافق على مقابلة الخاطفين إذا كان الجنود لا يزالون على قيد الحياة، لكن المقاتلين المعارضين قالوا في وقت لاحق إن جلادكوف «لم يجد الشجاعة» لمقابلتهم وإنهم سيسلمون أسراهم إلى أوكرانيا، وأصدرت مجموعتا المقاتلين سلسلة من مقاطع الفيديو تظهرهم داخل روسيا وتعهدوا بأنهم سيتحررون من حكم فلاديمير بوتين.

وألقت روسيا باللوم على أوكرانيا في الهجمات الأخيرة على أراضيها الحدودية، لكن كييف تنفي تورطها المباشر، وتدعي أنها لا تسيطر على المقاتلين الروس، في تقليد ساخر للادعاءات التي أطلقتها روسيا نفسها بشأن مجموعات المسلحين الأوكرانيين الانفصاليين الذين استولوا على منطقة دونباس الأوكرانية في ربيع عام 2014، بدعم من موسكو على الرغم من نفيها ذلك رسميًا.

ولإضفاء مزيد من الإهانة، أعلن مستخدمو تويتر الأوكرانيون عن تأييدهم لإعلان «جمهورية بيلهورود (الاسم الأوكراني لبيلغورود) الشعبية»، وقال بعضهم مازحًا إن أكثر من 100% من سكان المنطقة الروس قد صوتوا بالفعل في استفتاء على إنشاء الجمهورية، في تقليد ساخر أيضًا من إعلان روسيا قبل ذلك عن إنشاء دولتين مستقلتين في منطقتي لوجانسك ودونيتسك قبل ذلك.

نزع هيبة الحدود

يعد ما حدث غرب روسيا نتيجة للتطورات الميدانية والسياسية الأخيرة، فقد أدى غزو أوكرانيا إلى نزع هيبة الحدود الروسية ففُتحت حدود البلدين المتجاورين، وتم منح السكان الأوكرانيين الجنسية الروسية، وصارت للحدود طبيعة ديناميكية غير معتادة، فخريطة روسيا الرسمية طالتها عدة تغييرات حتى وصلت إلى شكلها الحالي الذي يشمل خمسة أجزاء من جارتها الغربية هي دونيتسك ولوجانسك وزابوروجيا وخيرسون والقِرم.

وعمليًا لم يستطع بوتين فرض سيطرته على كل تلك الأراضي على الرغم من محاولاته المستمرة، مما أفضى إلى إخراج مشهد نرى فيه أراضي تعدها موسكو من إقليمها لكنها تخضع لسيطرة جيش آخر لا قِبل للروس على انتزاعها منه، وأثار هذا شهية المعارضين لنظام بوتين ليكرروا التجربة في مناطق روسية متاخمة لأوكرانيا مستغلين إنهاك الجيش وانشغاله بالجبهات المشتعلة في قلب أوكرانيا التي صارت أولوية على ما عداها.

كما أسقطت الحرب هيبة الجيش الذي يحل في المرتبة الثانية في قائمة أقوى جيوش العالم بعد الولايات المتحدة مباشرة، لكنه عجز عن حسم معركته مع جيش أوكرانيا الأضعف منه بكثير؛ بسبب دعم الغرب له؛ أي أن الجيش الروسي أظهر ضعفًا شديدًا يتمثل في عدم قدرته على بسط سيطرته على أراضٍ يعتبرها داخل إقليمه السيادي.

وبعبارة أخرى فإن قرار الكريملين بضم أقاليم دونيتسك ولوجانسك وزابوروجيا وخيرسون في أكتوبر/تشرين الأول الماضي كان له أثر عكسي تمثل في إجبار الجيش الروسي على الاستمرار في معركة لا يمكنه التراجع عنها، وأيضًا لا يمكنه حسمها، مما يعني استنزافه، وهو هدف غربي ساعد بوتين في تحقيقه بقراراته الانفعالية.

فالحرب وفق تعريف بوتين تقع داخل حدود روسيا، ولذلك لا يستطيع التخلي عن هذه المعركة إلا بتحمل إهانة بالغة، بعد أن أعلن أن «سكان أقاليم دونيتسك ولوجانسك وخيرسون وزابوروجيا سيظلون من المواطنين الروس إلى الأبد»، وحذر من أنه في حالة وقوع أي هجوم على تلك الأقاليم بعد ضمها، فسيتم اعتبار الهجوم حربًا على أراضٍ روسية وهو ما تعتبره موسكو مبررًا لاستخدام السلاح النووي، لكن كييف أكدت عدم اعترافها بقرار الضم واستمرت الهجمات ولم تنفذ موسكو تهديداتها.

وأصبح من الواضح الآن أن الحرب في أوكرانيا وصلت إلى مرحلة التوازن، حيث يبدو أن القوات الروسية غير قادرة على الدفاع عن بلادها واحتلال أوكرانيا في نفس الوقت.

وتأتي هذه الحوادث في وقت توقف فيه الهجوم الروسي في أوكرانيا، وبدأت كييف سلسلة من الهجمات في الشرق والجنوب، مع قصف أهداف روسية خلف الخطوط، باستخدام صواريخ غربية جديدة بعيدة المدى، كما شن الأوكرانيون هجمات بطائرات من دون طيار على مصافي النفط والمطارات والمواقع الحيوية الأخرى في عمق روسيا.

صعود الميليشيات

أتى ظهور المعارضة الروسية المسلحة في وقت تخوض فيه الميليشيات المدعومة من بوتين مثل فاجنر صراعًا طويل الأمد مع الجيش، وتتحدى القيادة العسكرية الروسية العليا علنًا، فزعيم الميليشيا، يفغيني بريغوجين، وجه اتهامات لوزير الدفاع ورئيس الأركان الروسيين بمحاولة تدمير مرتزقته، ووصف سلوكهما بالخيانة العظمى، وحذر من أن الخطوط الروسية ستنهار إن انسحب رجاله.

وبعد استيلاء فيلق المتطوعين وفيلق الحرية على المناطق الحدودية، أصبح السكان المحليون يائسين لدرجة أن الكثيرين بدؤوا في دعوة بريغوجين للدفاع عنهم، فاستغل الموقف وقال في رسالة صوتية نشرتها خدمته الصحفية: «إذا لم توقف وزارة الدفاع ما يحدث في منطقة بيلغورود … حيث يتم احتلال الأراضي الروسية ، فمن الواضح أننا سنصل.. سندافع عن … الشعب الروسي وكل من يعيش هناك».

وفي أكبر علامة على الانقسام، قامت قوات فاجنر بضرب وإهانة ضابط روسي نظامي بزعم أنه أمر جنوده بإطلاق النار على عناصر الميليشيا شبه الحكومية، ونشر بريغوجين مقطع فيديو يظهر الضابط برتبة مقدم بينما يتم استجوابه من قبل مرتزقة فاجنر أمام الكاميرا، وهو يعترف بأنه أمر قواته بإطلاق النار على وحدة تابعة لهم.

ونمت الخلافات في آلة الحرب الروسية مع انسحاب فاجنر من بعض مواقعها، تاركة القوات النظامية لحراسة الخطوط الأمامية، ومن المتوقع أن يسعى مرتزقة فاجنر بعد ذلك إلى تجنب الضربات الافتتاحية للهجوم المضاد القادم لأوكرانيا، فوفقًا لمارات جابيدولين، أحد الذين قاتلوا في صفوف فاجنر: «سيتم اختبار الجيش الروسي بشكل حقيقي، ولن يتمكنوا من الاختباء خلف فاجنر».

وقد نصب بريغوجين نفسه كزعيم للأغلبية الصامتة التي لا يسمعها أحد، وبات كثيرون يثقون به أكثر من وزارة الدفاع، ويرونه منقذهم، ويعني توجه سكان المناطق التي احتلتها المعارضة الروسية المسلحة إلى الاستغاثة بفاجنر تكريسًا واقع عجز الدولة الروسية عن ضبط الأوضاع داخل أراضيها، وانهيار معنويات الجيش وتخليه عن مهمة حراسة الحدود، فالسكان باتوا يستنجدون بميليشيا ضد ميليشيا أخرى مما يعكس مدى سوء الأوضاع الأمنية هناك.

وانعكست أوضاع الميدان على وسائل الإعلام فأصبح المزاج السائد في البرامج الحوارية الدعائية على التلفزيون الحكومي يميل مؤخرًا نحو الانهزامية، فقد استحضرت رئيسة تحرير RT مارغريتا سيمونيان شبح الحرب العالمية الأولى عندما هزم الألمان والنمساويون الجيش الإمبراطوري الروسي، وتمرد الجنود، وانهار النظام، وفي مطلع يونيو/حزيران، ألقى عضو البرلمان عن حزب بوتين الروسي الموحد، كونستانتين زاتولين، بظلال من الشك على تقدم الحرب بصراحة غير عادية، واصفًا أهدافها بأنها «غير واقعية»، وسرعان ما أعلن حزبه أنه حوله إلى التحقيق.

ولم يعد بعض أعضاء اليمين القومي المتطرف في روسيا يكتفون بالإساءة إلى وزير الدفاع سيرجي شويغو، ورئيس الأركان العامة فاليري جيراسيموف، وغيرهم من كبار الضباط، بل بدؤوا في مهاجمة بوتين مباشرة بسبب تردده المفترض، وأصبح قادة التيار اليميني القومي عُرضة للخضوع للتحقيق بتهمة «تشويه سمعة الجيش» الأمر الذي يضع السلطات الروسية في مأزق؛ فإذا لم تقاضِ منتقدي بوتين سوف يُنظر إلى ذلك كعلامة على الضعف، ويمكن أن تمهد الطريق للمزيد من الاستياء المعلن، وإذا اتخذت ضدهم إجراءات عقابية فإنها تخاطر بإثارة المزيد من الغضب لدى هذا التيار الموالي، وبالتالي إثارة المزيد من السخط على النظام.