ليس أضر ولا أبعث على الخجل بالنسبة إلى الراعي من أن يُربي ويُغذي، من أجل حماية قُطعانه، كلابًا تدفعهم شراستهم وجوعهم، أو أي عادة سيئة أخرى تعوّدوها، إلى التعرّض بالأذى للماشية، فيتحولون من كلابٍ إلى ما يشبه الذئاب.
أفلاطون – «جمهورية أفلاطون»

لأول مرة في تاريخها واجهت الولايات المتحدة تحديًا خطيرًا إبان الحرب الباردة؛ ففي ظل المعضلة الكورية، والتمدد السوفياتي، اضطرت الولايات المتحدة للاحتفاظ بقوات عسكرية كبيرة لأول مرة في تاريخها خلال أوقات السلم، وكان الجنرال دوغلاس ماكارثر على خلافٍ معلن مع استراتيجية الرئيس ترومان، ماكارثر صاحب الشعبية الجارفة، المتيم بإلقاء الخطب والاستعراض، تمرد على أوامر قائده، واختلف معه في نظريته للحرب المحدودة.

لأول مرة كانت الولايات المتحدة على بعد خطوة واحدة من مصير الإمبراطورية الرومانية، قائد عسكري قوي يتحدى الزعيم السياسي للبلاد، يتمثل ماكارثر دور يوليوس قيصر، غير أن ترومان عاجله بكسب ود رؤسائه من القادة العسكريين ومن ثم طرده من الخدمة.[1] مثلت تلك اللحظة بداية التساؤل الجاد حول العلاقات المدنية العسكرية في أمريكا، ومن أبرز من نظروا لهذه العلاقات، عالِم السياسة الأمريكي صامويل هنتنغتون.

يشكل الضباط – في تنظير صامويل هنتنغتون للعلاقات المدنية العسكرية- مهنة، شأنهم شأن المحامين والأطباء، والمهنة ليست عكس الهواية كما هو دارج، إنما هي اصطلاح يعبّر عن انتماء لمهنة تقوم على مجموعة من القواعد والأخلاقيات، يلخصها هنتنغتون في ثلاثة مكونات؛ الخبرة والمسؤولية والكوربوراتية (التعاضد، أو الجسد الواحد).

يرى هنتنغتون أن احتراف المهنة يؤدي إلى نشوء أخلاقيات مهنية، مشتقة من طبيعة الوظيفة، بغض النظر عن أخلاقيات الأفراد وخلفياتهم وميولهم، وفي حالة المهنة العسكرية تضم هذه الأخلاقيات الطاعة والانضباط وتقديم الجماعة على الأفراد ورفع مصالح الدولة فوق مصالح الجماعات واحترام التراتبية، وبهذه القواعد يتحتم على محترف العسكرية أن يسحق ذاته للصالح العام، مما يعني اتباع نمط واقعي محافظ، هو عكس الأيديولوجيا الليبرالية السائدة في الولايات المتحدة.

هذا التضاد بين النمطين، استوجب الحفاظ على القواعد العسكرية بعيدًا عن الحياة المدنية والسياسية، والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك أن يُمنع العساكر عن التدخل في السياسة، ويُمنح الجيش استقلاليته ليدير شؤونه، والهدف من وراء هذا الفصل بين المدني والعسكري الحفاظ على العسكري، يرى عزمي بشارة في هذا حفاظًا على المدني أيضًا كما العسكري.[2]

هذا النمط النموذجي الذي صاغه هنتنغتون، في كتابه «الجندي والدولة، نظرية العلاقات المدنية العسكرية وسياستها»، ينطوي على إشارات مهمة؛ أبرزها اعتبار الجيش طبقة مهنية، تعي مصالحها وموقعها من الطبقات الأخرى، وبالتالي هي واحدة من جماعات الضغط داخل الدولة الأمريكية، ومُقدمة على غيرها بما في يدها من القوة المادية.


انحياز المؤسسة العسكرية شرط لنجاح الثورة

لا يمكن لثورة أن تفوز على جيش حديث، إذا ما حاول الجيش إخمادها بكامل قوته
كاثرين شورلي – من كتاب «كيف تستجيب الجيوش للثورات ولماذا؟»

يناير/ كانون الثاني 1959، بشكلٍ درامي هرب فولغينسيو باتستا من العاصمة الكوبية هافانا، معلنًا بهروبه نجاح واحدة من أهم الثورات الشعبية في التاريخ الحديث، وأكثرهم إلهامًا وتأثيرًا. أدهشت الثورة الكوبية العالم، وسرعان ما هرع المثقفون والطلاب والصحافيون الأجانب إلى كوبا، يبغون دراستها والاطلاع على تجربتها.

من بين هؤلاء كريستيان رايت ميلز، عالم الاجتماع الأمريكي «الراديكالي» في جامعة كولومبيا، وصاحب عدد من الإسهامات الكلاسيكية في علم الاجتماع؛ أصحاب الياقات البيضاء «White Collar»، ونخبة السلطة «The power elite».

تأثر ميلز بالثورة الوليدة، ولأسبوعين في أغسطس/ آب 1960 جاب البلاد شرقًا وغربًا – بعضها كان بصحبة عقل الثورة فيديل كاسترو- على أمل أن يكتب عنها كتابًا، يعمد من خلاله إلى تشريحها والوقوف على أبرز محطاتها الفكرية والحركية.

في كتابه نخبة السلطة، يرى ميلز أن هرم السلطة في المجتمع الأمريكي يتشكل من أضلاع ثلاثة، مؤسسات الدولة، والمؤسسات الرأسمالية التي تتحكم في الاقتصاد الأمريكي وأخيرًا المؤسسة العسكرية، لكنه ومع ذلك في تشريحه للثورة الكوبية – في كتابه- خلص إلى هذه النتيجة: [3]

إن المجموعات الثورية التي يقودها رجال من ذوي العزائم، يقف الفلاحون بجوارهم، ويتحصنون بجبل قريب، تستطيع هزيمة كتائب الطاغية المنظمة جيدة التسليح، حتى لو امتلكت الأخيرة قنلة نووية.

لا يرى ميلز إذن من خلال هذه الكلمات أن انحياز المؤسسة العسكرية للثورة عامل أساسي ومُلح لإنجاحها، يوافقه في هذا المؤرخ البريطاني الشهير إيريك هوبسباوم، وكلاهما يستند في هذه الخلاصة إلى الثورة الكوبية (1959) ونظيرتها الصينية (1949)، لكن ما لا يفطن إليه ميلز وهوبسباوم أن الثورتين، كلتيهما، وقع بعد الحرب العالمية الثانية – في أتون الحرب الباردة- وكلتيهما كان نتاجًا لعمل مسلح وحرب أهلية استمرت سنوات ودعمتها دول كبرى كالاتحاد السوفيتي، فلا يصح الاعتماد عليهما في التنظير للثورة، في العلاقات المدنية – العسكرية بالذات.

أعطى الربيع العربي درسًا قاسيًا لرايت ميلز وهوبسباوم، حين تأطرت ثوراته وفق تصورات جيوش الدول التي قامت فيها الثورات. فتونس مثلًا، لما قرر الجيش أنه لن يتدخل لحماية نظام ابن علي، ورفض الفريق أول رشيد عمار قائد أركان جيش البر الامتثال لأوامر الرئيس بالتصدي للتظاهرات وقمعها، حققت الثورة مأربها، وفي مصر بصورة مماثلة لم تكن انتفاضة يناير 2011 لتنجح لولا انحياز الجيش الواضح لها، لما نزلت دبابابته ميدان التحرير يوم 28 يناير (جمعة الغضب) وبدا واضحًا أن الجيش يرفض أو يتململ حيال إنقاذ الرئيس مبارك، لولا هذا الانحياز، لاستطاعت الأجهزة القمعية الأخرى (الشرطة وعدد من المأجورين، يسميهم ماركس البروليتاريا الرثة) القضاء على الانتفاضة، وذلك بدا واضحًا فيما أعقب ذلك من تحركات، سواء أحداث محمد محمود أو أحداث رابعة والنهضة، وغيرهما الكثير. وخلافًا للنموذجين التونسي والمصري، فإن لدينا نماذج أكثر سوداوية، كالسوري والليبي واليمني.

ميدان التحرير, ثورة 25 يناير, مصر, الشباب
صلاة المغرب في ميدان التحرير أثناء ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011

يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة تكساس، زولتان باراني، إن جُل الدراسات المعنية بدراسة الثورة لم تتطرق لتفاعلات الجيش مع الثورة إلا في أُطر محددة، كأنْ تحدو الثورة بالبلاد إلى تغيرات جذرية مؤداها الحرب، أو كما في حالة التمرد المسلح، يكون الجيش يد النظام التي يضرب بها، لكن قليلاً من الدراسات اهتمت بدور الجيوش في إنجاح الثورات، والحالة التي عليها السودان والجزائر اليوم تستدعي منا الاهتمام بهذا الجانب، لما تبديه المؤسسة العسكرية في كلا البلدين من تململ تجاه الانتفاضة الحالية، ففي السودان اعتصم المتظاهرون أمام القيادة العامة للجيش السوداني، وكان مفاجئًا تدخل بعض أفراد الجيش لحماية المتظاهرين من رصاص الشرطة [4]، كذلك في الجزائر فإن الجيش سكت عن التظاهرات ولم يتدخل لقمعها، مع بعض التصريحات المؤيدة لها ولأهدافها.

في كتابه، يوضح زولتان أن أبرز من تبنّوا حتمية انحياز الجيش أو فريق منه للثورة كضمان لنجاحها، كاثرين شورلي في كتابها «الجيوش وفن الثورة» الصادر عام 1943، وديانا راسل في كتابها «التمرد والثورة والقوة المسلحة»، صحيح أنه ليس دعم المؤسسات العسكرية هو ما يجعل الثورة ناجحة، لكن الثورة لن تنجحه إلا به [5].

وخلاصة هذا الكلام، أن الثورة لكي تنجح لابد لها من دعم أحد الأطراف القوية من داخل النظام، ليكون قادرًا – في المقام الأول- على تثبيت باقي الأطراف من داخل النظام أو نخبة السلطة -على حد تعبير رايت ميلز- وأقوى هذه الأطراف (من الناحية المعنوية لما له من مراتب الشرف والوطنية، ومن الناحية المادية لما بيده من أسباب القوة الحقيقية) هو الطرف المسلح (الجيش).


الجيوش والربيع العربي

محمد حسني مبارك, شهادة مبارك أمام المحكمة, مصر, غزة
صورة أرشيفية: الرئيس المصري الأسبق «محمد حسني مبارك»

في ورقة بعنوان «مقارنة بين الثورات العربية من حيث دور المؤسسة العسكرية»، نُشرت في 2011، فصّل زولتان مواقف الجيوش العربية من الثورات العربية الست: تونس ومصر والبحرين واليمن وسوريا وليبيا، وكيف أن العامل الحاسم في نجاح بعضها وفشل الأخرى تمحور حول رد فعل المؤسسة العسكرية، لا يتعلق الأمر بما طلبه الرئيس من الجيش، بل بما أجابه الجيش.

في مصر وتونس انحازت المؤسسة العسكرية لصف الثوار، وفي ليبيا واليمن كان الانقسام هو رد المؤسسة، لكن في البحرين وسوريا حسم الجيش موقفه بالاصطفاف إلى جانب السلطة السياسية، وأدار بنادقه في صدور المحتجين، بشيء من الإيجاز نحاول عرض مقارنات بين الحالات الست.

إذا قمنا بتشريح الحالة المدنية العسكرية في مصر، كمثال، فإن الدولة التي تأسست عام 1952 إنما تأسست على يد ضباط من الجيش «الضباط الأحرار»، وبذلك كانت نخبة السلطة جميعها متركزة في المؤسسة العسكرية، ثم تضاءل دور الجيش رويدًا في ظل حكم السادات، الذي عمد إلى الانفتاح الاقتصادي وسمح بتكون طبقة من البرجوازيين (برجوازية الدولة وبرجوازية السوق) ليبدأ مثلث نخبة السلطة – كما يُعرفه رايت ميلز- في التشكل؛ الجيش، والرئيس، والطبقة الرأسمالية حديثة التشكّل، حتى أن السادات اضطر مع تغيير النمط الاقتصادي من اشتراكية عبدالناصر إلى النيوليبرالية، اضطر، للتصدي إلى قمم الأجهزة السيادية من موروثات سلفه، وبالفعل قام بتصفيتهم فيما عُرف بـ«ثورة التصحيح» مايو/ آيار 1971[6].

في عهد مبارك اتسع الخرق على الراتق، وتكونت طبقة واسعة من برجوازية السوق، صارت أقرب إلى عائلة مبارك من الجيش، الذي أخذ دوره في التضاؤل، فما إن قامت الثورة على نظام مبارك، إلا واستفادت من تناقضات هذه النخبة، فوجد فيها الجيش مأربه بالتخلص من الطبقة المدنية الحاكمة، ولا يتعارض أبدًا كونها مدنية مع كونها كانت فاسدة، لكن الجيش المصري اليوم قام بتوسيع نشاطه الاقتصادي، بما يؤكد وعي قادته الكامل بتلك التوازنات، وتأثيراتها على قوة النظام وفرص إسقاطه أو تحجيم سلطته.

في تونس، دفع الفريق أول رشيد عمار، قائد أركان جيش البر التونسي، بقواته للفصل بين القوات الشرطية والبلطجية من ناحية والمتظاهرين من ناحية أخرى، بعدما رفض أوامر زين العابدين بن علي بالدفع عن النظام في وجه الاحتجاجات، وفُهم هذا التصرف على أنه حماية للثورة والثوار، فما الذي دفع الرجل إلى هذا الانحياز؟

يقول زولتان إن سَلَف الرئيس ابن علي، الحبيب بورقيبة، عمد إلى تحجيم الجيش وإبعاده تمامًا عن العملية السياسية، وهي المكانة التي ارتضاها الجيش لنفسه، فلم يتدخل في السلطة طيلة ثلاثين عامًا (1957 – 87)، اللهم إلا تدخله لقمع احتجاجات شعبية اندلعت بين الشغيلة ونظام الرئيس بورقيبة في الفترة ما بين (1978 – 84)، ولم يتململ الجيش إزاء العودة إلى الثكنات بعدما هدأت الأمور، ويُذكر أن الجيش التونسي هو الجيش الوحيد في شمال أفريقيا الذي لم يحاول الانقلاب على السلطة السياسية ولم ينازعها الأمر.

انقلب ابن علي، وكان وزيرًا للداخلية ثم رئيسًا للوزراء، على الرئيس بورقيبة سنة 1987، وحافظ على وضعية الجيش خارج المسار السياسي، فلم يمكّن الجيش من أدوات السياسة أو الاقتصاد، وبدلًا من ذلك عمد إلى موازنة العلاقة الحميمية بين ضباط الجيش ونظرائهم الفرنسيين فأرسل بهم إلى الولايات المتحدة، في بعثات تدريبية بعضها اشتملت على برامج للعلاقات المدنية العسكرية في ظل النظام الديمقراطي الأمريكي.[7]

ولما كانت الثورة على نظام بن علي في أواخر 2010، لم يجد الجيش ما يدفعه للتدخل في أتون تلك المعركة، لا سيما وأن كبار ضباطه قد ضاقوا ذرعًا بفساد حاشية ابن علي، فلم يستجيبوا لنداءاته، وبدلًا من ذلك تدخلوا لحماية الثوار من بطش نظامه الشُرطي.

ما نريد قوله، إنه في النموذجين المصري والتونسي، تدخل الجيش لدعم الثورة، مدفوعًا بأهداف متباينة، وفي ظل ظروف متناقضة؛ المهم أن الثوار المدنيين في كلتا الحالتين استفادوا من تضارب المصالح بين الجيش ومؤسسة الرئاسة.


لماذا تتحرك الجيوش لدعم الثورات؟

من المهم قبل الإجابة على هذا السؤال، الوقوف على تعريف الثورة. وتعريفها يقتضي ذكر تلك الليلة الحالكة، ليلة الـ14 من يوليو/ تموز 1789، عندما سمع لويس السادس عشر – آخر ملوك فرنسا قبل الثورة- بسقوط الباستيل[8]، وتمرد القوات الملكية، فصاح لويس: «إنه تمرّد»، فرد عليه أحد معاونيه -يُعتقد أنه قائد جيشه: «كلا يا صاحب الجلالة، إنها ثورة» [9].

ورغم وضوح دلالة اللفظ في ذلك المقام، فإنه أعجز علماء الاجتماع فلم يتفقوا على تعريف واضح لمعنى الثورة، غير أننا نختار من بين التعريفات الكثيرة، تعريف ستيفن والت – أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد الأمريكية:

الثورة هي تدمير الدولة القائمة على يد أفراد من مجتمعها، متبوعة بإقامة نظام سياسي جديد.

فوفق هذا التعريف البسيط، فإن الثورة هي أي فعل فجائي مكون من شقين، الهدم والبناء. وعنصر المفاجأة يجعل التنبؤ بالثورة من المستحيلات، غير أن التنبؤ بنجاحها أو فشلها يخضع لعدد من المعايير، من هذه المعايير – كما يميل أستاذ العلوم السياسية في جامعة تكساس زولتان باراني- انحياز الجيش أو جزء منه إلى جهة الثوار.

فما الذي يجعل جيشًا ينحاز للثورة وآخر للنظام؟تحتاج الإجابة على هذا التساؤل إدراك عدد من العوامل المؤثرة في العلاقات المدنية العسكرية، يخلُص زولتان بتأطيرها في أربعة أعمدة رئيسية؛ تأتي في المرتبة الأولى العوامل العسكرية، وتاليًا عوامل تتعلق بالدولة والمجتمع وأخيرًا تلك التي تتعلق بالظروف الخارجية.[10]

أولًا: العوامل العسكرية

يركز علماء الاجتماع كثيرًا حينما يتعرضون للعلاقات المدنية العسكرية على مدى احترافية الجيش، فالجيوش الأكثر احترافية والتي تحكمها قوانين المؤسسة لا تكون أكثر ميلًا لدعم الأنظمة المستبدة، على العكس، هذا مفترض دائمًا في الجيوش التي يحكمها المنطق الأبوي «patrimonialism»، لكن هذه النظرية أثبتت قصورًا شديدًا في بلدان الشرق الأوروبي، بلدان الكتلة الشيوعية، فكانت على درجة عالية من الكفاءة والاحترافية، لكنها ومع ذلك دعمت أنظمة شديدة التسلط والقسوة.

يمثل تماسك البناء الداخلي للجيش أحد أهم العوامل المؤثرة في موقفه من الثورة، لأنه بهذا التماسك يمكن إقناع الضباط، كبارهم وصغارهم، بقرار المؤسسة ودفعهم لتبنيه، وأهم ما يؤثر في هذا التماسك، الاختلافات الإثنية والدينية والجهوية، والثورة الليبية خير دليل على هذا. كذلك يمكن أن تؤثر الاختلافات الجيلية والاختلافات بين الضباط وضباط الصف والمجندين، في درجة تماسك الجيش. أضف إليها ما يمكن أن تحدثه وحدات النخبة في درجة تماسك الجيش، لما لها من أفضلية في المهام والامتيازات الخاصة بها على باقي الجيش.

من أهم الفرضيات التي على أساسها يمكن توقّع موقف الجيش من الثورة على الإطلاق؛ رؤية الجيش للنظام من حيث الشرعية. والشرعية السياسية للنظام بشكل عام تُستمد من مدى رضا الشعب عن الفئة الحاكمة. في الأنظمة الديمقراطية تتكفل الانتخابات النزيهة بهذه المهمة، لكن في ظل أنظمة شمولية وديكتاتورية كأغلب الأنظمة العربية يظل تململ الفئة العريضة من الشعب هو المحدد الأكثر وضوحًا، وتكون الثورات هي الأفق الوحيد للتغيير.

أحد أهم المحددات التي يُتوقع من خلالها موقف الجيش من الثورة أيضًا، السمعة العسكرية، فالجيوش التي تتمتع بسمعة عسكرية سيئة تميل في الغالب لدعم الأنظمة على حساب الثورات، لأنها تكون والنظام في خندق واحد، ومثال على ذلك الحالة السورية.[11]

ثانيًا، عوامل تتعلق بالدولة

تعد نظرة الدولة للجيش واحدة من أهم العوامل الحاسمة لولاء الأخير في أوقات الاضطرابات؛ الاهتمام بالوضع المادي للأفراد وضمان رفاهية الضباط وعوائلهم، وأيضًا المهام المنوطة بالجيش فلا تورطه الدولة في حروب لا ناقة له فيها ولا جمل، أو توكل إليه مهام لا تكافئ جهوزيته القتالية، لأن مثل هذه المهام تبعث على التململ داخل صفوف الجيش.

ومن أهم ما يؤثر في قرار الجيش لحظة الاضطرابات، حاجته لأن يتلقى أوامر واضحة من قيادة حازمة، فلا يفضل العسكريون الأوامر الغامضة في الأوقات العصيبة، وخير مثال على هذا، تصرف الجيش الإمبراطوري الروسي في ثورة 1905[12] ثم نقيض ذلك في ثورة 1917، التي نجحت في الإطاحة بالنظام القيصري.

ثالثًا: العوامل المجتمعية

خلافًا للعوامل المتعلقة بالنظام العسكري والسياسي في البلد، فإن طبيعة التظاهرات (حجمها، وتكوينها، وماهية مطالبها) نفسها قد تكون الفارق في استجابة الجيش للثورة، فمثلًا في انتفاضة البحرين 2011، كون التظاهرات عبّرت عن مكوّن واحد من مكونات المجتمع – أو هكذا جرى تصوريها للقيادة العسكرية- ساعد ذلك الجيش البحريني على حسم قراره بقمعها والانحياز إلى السلطة الملكية في البلاد.

ربما أيضًا تكون هناك علاقة بين حجم التظاهرات ومكانتها من العاطفة الشعبية وانحياز المؤسسة العسكرية لها أو عليها، فكلما كانت التظاهرات أكبر من حيث الحجم كان انحياز الجيش لها أقرب.

رابعًا وأخيرًا: العوامل الخارجية

وهذه يمكن حصرها في اثنين من المتغيرات ذات الصلة، فعندما تخشى المؤسسة العسكرية تدخلًا خارجيًا ذا طابع عسكري معاد يكون حرصها على استقرار البلاد من الداخل أكثر من دعمها تحركات الشارع، ويكون ذلك عادةً في الدول التي تخشى عداءً وجوديًا، كما في البلدان حديثة العهد بالتحرر من الاستعمار، وخير مثال ما فعله الجيش المصري لما استعان به النظام الساداتي لقمع انتفاضة الخبز 1977 [13]، بعدما روج لمحاولات شيوعية مدعومة من الاتحاد السوفيتي تعمل على قلب نظام الحكم وتعطيل مسيرة الانفتاح المصري على عالم السوق الحرة [14]. وما يفعله الجيش السعودي في المنطقة الشرقية حيال مظالم الأقلية الشيعية مثال آخر أكثر وضوحًا. [15]

المتغير الثاني، هو المتغير المباشر بتدخل خارجي مباشر في فعل الثورة نفسها، ولدينا مثالان متضادان، في أتون الثورة الليبية ساعد تدخل حلف الناتو العسكري في إحداث انقسام في الجيش حول شخصية القذافي، وفي البحرين كان تدخل قوات درع الجزيرة دافعًا للقمع الدموي من قبل الجيش البحريني للثورة. والتضاد في المثالين السابقين إن كانت له دلالة، فهي أن التدخل الخارجي ليس بالعامل الحاسم في مصير الثورات بقدر ما هي رغبة المؤسسة العسكرية ومدى صلتها بمؤسسة الرئاسة وشخص الرئيس.


الجيش والسياسة في السودان

احتجاجات السودان (ديسمبر/ كانون الأول 2018)

انحاز الجيش أخيرًا للثورة السودانية، مزيحًا نظام عمر البشير، وحقق الثوار المعادلة مستفيدين بتصدع النظام من داخله وانقسامه على نفسه.

لم تعرف السودان دولة واحدة قبل غزو محمد علي 1819، وكان قبله دولًا متفرقة، يغير بعضها على بعض، بُغية توطيد الحكم وتوسيع النفوذ، وحده محمد علي وضمه لبلاده، التي توسعت شرقًا وغربًا.

سرعان ما ضاق السودانيون ذرعًا بهذا الحكم، للغلو في الضرائب، وكثرة المظالم، فقامت الثورة المهدية عام 1881، أحكمت قبضتها على الخرطوم 1885، وتأسست بهذا دولة لم تدم سوى 14 عامًا (الدولة المهدية 1885 – 1899). استعادت قوة مشتركة من الجيشين المصري والإنجليزي (كانت مصر حينها تحت الانتداب البريطاني) السيطرة على السودان، وظل الحكم عسكريًا في تلك الفترة، لضمان استتباب النظام والقضاء على أي ثورة في مهدها، حتى عام 1926.

كانت المملكة البريطانية في أوج اتساعها بعد الحرب العالمية الأولى، لكنها كانت قد أُثقلت بتكاليف الحرب، فعمدت إلى سحب الجزء الأكبر من جيشها بالسودان، وبدأ تأسيس الجيش السوداني فعليًا عام 1925، كان أشبه ما يكون بالانكشارية العثمانية والمماليك في مصر، شكل هؤلاء القسم الأكبر من الجيش، لكن من الرتب المتدنية، فكان الجيش السوداني في أعلى قمته إنجليز يليهم المصريون ثم السودانيون. وحتى السودانيون لم يكونوا مرتبة واحدة، فكانت الرتب الأعلى لأبناء العاصمة وجوارها من مدن الشمال، وأبناء الأقاليم والأطراف؛ جبال النوبة ودارفور والسودان الجنوبية.

في الحرب العالمية الثانية، حارب هذا الجيش إلى جوار الجيش البريطاني في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، واكتسب بعدها الاستقلال عام 1956؛ وهنا لابد من الإشارة إلى أن الجيش السوداني كان الجيش الوحيد الحديث والمحترف في الدول الأفريقية جنوب الصحراء، لما اكتسبه من ملازمة الجيش البريطاني قبل الاستقلال.

تشكلت أول حكومة بعد الاستقلال بقيادة مدنية، من حزبي الأمة والأشقاء (الحزب الوطني الاتحادي لاحقًا)، لكنها فشلت في تسوية النزاعات بين مختلف التيارات وفشلت معها أول تجربة مدنية في الحكم بعد الاستقلال، إذ انحاز الجيش بقيادة إبراهيم عبود لصفوف الجماهير، وانقلب على الحكومة المدنية سنة 1958. اهتم عبود بعدد من الإصلاحات الاقتصادية وعمليات التحديث لكن مجموعة من الضباط متأثرين بتجربة عبدالناصر في مصر، انحازوا لتظاهرات مناوئة لحكومة عبود سنة 1964، وأنهوا حكمه.

حكم مدني ضعيف وغير متوازن أعقب انقلاب 1964، لم يستمر إلا وأعقبه انقلاب النميري 1969.

من الأحداث المهمة في دلالتها، حاول مجموعة من الضباط الشيوعيين في يوليو/تموز 1971 الانقلاب على النميري بدعوى مقاومة سياسات النميري المؤيدة للانفتاح على الغرب، استمر نظامهم فقط ثلاثة أيام قبل أن تتدخل الشركة الإنجليزية العابرة للقارات، لونرهو، بشكل فعّال لإنقاذ نظام النميري، بالتنسيق مع النظام المصري الساداتي والليبي القذافي.

فيما بعد طورت دولة النميري العسكرية نظامًا عسكريًا اقتصاديًا، وقدّمت لنخبة رجال الجيش تسهيلات اقتصادية مكنتهم من السيطرة على قطاعات اقتصادية مهمة في البلاد، وزاوج الكثير منهم بين الانتماء العسكري ورأس المال، وتحول الجيش مع الوقت إلى مؤسسة اقتصادية، مستفيدين من أجواء الانفتاح الاقتصادي التي رعاها النميري.

مر نظام النميري بعدة تقلبات فبدأ وكأنه صنيعة يسارية، ثم ما لبث أن ضم رموزًا سياسية غير مؤدلجة إلى مركبه، وفي الأخير ضم إلى معسكره إسلاميين، وكانت إحدى أبرز مشكلاته تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية بداية من سبتمبر/ أيلول 1980.

أبريل/نيسان 1985، انقلب وزير الدفاع عبدالرحمن سوار الذهب على النميري، بعدما بلغ نظامه الديكتاتوري نهايته، وسلم سوار الذهب الحكم لحكومة مدنية، لم يلبث أن انقلب الجيش عليها في 1989، فيما يعرف بالانقلاب الإسلامي، الذي أفرز نظام الإنقاذ (نظام عمر البشير «1989 – 2019»). [16]

الخلاصة

احتجاجات السودان، مظاهرات، عمر البشير
احتجاجات السودان، مظاهرات، عمر البشير

تتركز فرضيتنا حول أهمية انحياز الجيش للثورة، وأكثر من ذلك أنه الأكثر قدرة على إدارة عملية انتقال سلس السلطة، بالتأكيد لا نقصد أنه ضامن لعملية التحول الديمقراطي، لأن الديمقراطية في الأساس لا تتوافق مع شروط المهنة العسكرية، كما أوضحنا في تقدمة هنتنغتون.

فينبغي أن تتركز الاستراتيجية الثورية على مرحلتين؛ الاستعانة بالجيش لإزاحة الطغمة الحاكمة بأقل الخسائر الممكنة، استنادًا على التصدعات الداخلية البينية في الدولة وغيرها من العوامل – سالفة الذكر- التي تؤثر في قرار المؤسسة العسكرية، ثم بناء تيار مدني واسع وقوي يحيّد المؤسسة العسكرية ويفصلها تدريجيًا عن الحياة السياسية، فقط لحمايتها والحفاظ على احترافيتها، يحفظ نظامها «المحافظ» من الليبرالية السياسية المرجوة من وراء الثورة، ويحمي النظام السياسي من ديكتاتورية العساكر.

في التجربة السودانية وقع الشق الأول، وانحاز الجيش للثورة، فتمت إزاحة الرئيس البشير بأقل الخسائر الممكنة، وبقي أن يناضل الثوار لدمقرطة النظام السياسي بعيدًا عن وصاية الجيش.

المراجع
  1. «الصنم؛ صعود وسقوط الامبراطورية الأمريكية»، نيل فرجسون، ترجمة معين محمد الإمام، العبيكان ط1، الرياض 2007
  2. «الجيش والسياسة: إشكاليات نظرية ونماذج عربية»، عزمي بشارة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ط1، بيروت 2017
  3. «كيف تستجيب الجيوش للثورات ولماذا؟»، زولتان باراني، ترجمة عبدالرحمن عياش، الشبكة العربية للأبحاث والنشر ط1، بيروت 2017
  4. «تواصل الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش السوداني واتهامات للأمن بمحاولة فضه»، بي بي سي، 9 أبريل/ نيسان 2019
  5. «Comparing the Arab Revolts: The Role of the Military»، زولتان باراني، Journal Of Democracy، أكتوبر/ تشرين الأول 2011
  6. «الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية»، جلبير الأشقر، ترجمة عمر الشافعي، دار الساقي، ط1 بيروت 2013
  7. «Comparing the Arab Revolts: The Role of the Military»، مصدر سبق ذكره
  8. قلعة على أطراف باريس الشرقية بُنيت عام 1370 لصد العدوان الانجليزي عن المدينة، لكنها استخدمت فيما كسجن من قِبل الملوك المتعاقبين، ولها رمزية تاريخية في الثورة الفرنسية
  9. «ما هي الثورة؟»، الحوار المتمدن، مهند طلال الأخرس، يناير/ كانون الثاني 2018
  10. «كيف تستجيب الجيوش للثورات ولماذا؟»، مصدر سبق ذكره
  11. نفسه
  12. أججت هزيمة الامبراطورية الروسية في الحرب الروسية اليابانية (1904 – 1905) الغضب الشعبي تجاه القيصر، وأدركت الجموع حاجة البلاد للإصلاح السياسي أكثر من أي وقت مضى، ورغم أن هذه الثورة حققت بعض الإصلاحات في البناء السياسي (تشكل مجلس الدوما وصدر أول دستور في تاريخ روسيا 1906) إلا أنها قُمعت بواسطة الجيش الإمبراطوري
  13. «18 و19 يناير 1977.. دروس الانتفاضة»، بوابة الاشتراكي نقلًا عن مجلة الشرارة، ياسين طه، فبراير/ شباط 1997
  14. «الانتفاضة في صحافة السبعينات»، جريدة الوطن المصرية، محمد سعيد، يناير/ كانون الثاني 2017
  15. «الانتفاضة المنسية في شرق المملكة العربية السعودية»، مركز كارنيجي، فريدريك ويري، يونيو/ حزيران 2013
  16. «The Sudan Armed Forces And Prospects Of Change»، عطا البتهاني، أستاذ العلوم السياسي بجامعة الخرطوم، CMI INSIGHT، أبريل 2016