لماذا علينا أن نفوز، وأن يكون الفوز مقنعًا أيضًا؟

هكذا اعتاد الهولندي ماركو فان باستن أن يسأل مديره الفني «أريجو ساكي» بعد أن يلقي عليه تعليمات تدور حول أهمية اللعب الممتع في فترة لعبه للميلان التاريخي، تلك الفترة التي وضعت ساكي ضمن أفضل مدربي كرة القدم عبر التاريخ وواحدًا ممن أثروا في كرة القدم.

ربما إجابة السؤال تكمن أولًا في نشأة الإيطالي أريجو ساكي والذي تعلق بكرة القدم إلا أنه لم يستطع أبدًا أن يلعبها بشكل احترافي، ربما ساعده هذا في الحفاظ على رؤية كرة القدم من منظور المشجع أولًا، ساكي كان يعرف أن مشجعي كرة القدم ينشدون المتعة أولًا ولا تكتمل المتعة إلا بالفوز.

وبينما كانت إيطاليا غارقة في تكتيكات الدفاع المختلفة، بين تكتيك الليبرو وتكتيك الدفاع اللصيق رجلاً لرجل، قرر الشاب الصغير المولود في مدينة «فوسينيانو» الصغيرة أن يحمل لإيطاليا وللعالم أجمع ما سيجعلهم بعد ذلك يؤمنون أن الأداء الجمالي ليس غريم النتائج الأبدي كما كانوا يعتقدون.


البدايات: ولد ليكون مدرب كرة قدم

لقد توقفت عن لعب كرة القدم وأنا في التاسعة عشر من عمري لأنني سرعان ما أدركت أنني لن أكون بطلًا أبدًا.
أريجو ساكي، متحدثًا لموقع الفيفا

توقف ساكي عن لعب كرة القدم وبقي يعمل داخل مصنع الأحذية الذي يمتلكه والده، إلا أنه لم يستطع أن يقاوم شغف كرة القدم الذي كان يتملكه يومًا تلو الآخر، كان دومًا يفكر في كرة القدم من النواحي التكتيكية، كان ببساطة لا يصلح لشيء مثل أن يكون مدرب كرة قدم.

ربما كونه مدرب كرة قدم غير ممارس للعبة بشكل احترافي كان يمثل عامل ضغط عليه، إلا أنه ساهم في تطوير الجوانب الشخصية عنده لتضاف إلى الجوانب التكتيكية لديه.

كنت في السادسة والعشرين من العمر، وحارس المرمى كان في التاسعة والثلاثين، ولاعب قلب الهجوم كان في الثانية والثلاثين، كان عليّ أن أكسبهم جانبي.
أريجو ساكي، ميلان، منتخب إيطاليا،
المدير الفني الإيطالي المعتزل «أريجو ساكي»

بدأ ساكي مشوار التدريب في عمرٍ صغير. وفي عامه الحادي والثلاثين استطاع أن يتولى تدريب «تشيزينيا» للشباب ثم فريق «ريميني» الأول ولمدة موسم واحد، أشرف على فريق فيورنتينا للشباب ثم انتقل لتدريب فريق بارما. في تلك الفترة التي بزغ فيها نجمه التدريبي، تواجد رجل آخر على رأس فريق ميلان الإيطالي، رجل ذو عين خبيرة وهي ميزته الأكبر كما سيثبت الزمن فيما بعد؛ هو «سيلفيو بيرلسكوني».

التقطت عين بيرلسكوني -التي لا تخطئ- التكتيك المختلف عن باقي إيطاليا آنذاك، وآمن به وبمثالية فكره والتي تتنافى مع طرق التكتيك الدفاعي المنتشرة في باقي أنحاء الدولة، والتي تبحث عن النتائج كأولوية مطلقة دون النظر لأي اعتبارات أخرى. تلاقى طموح الاثنين تمامًا وتولى ساكي تدريب الميلان عام 1987 لتبدأ مرحلة هامة في تاريخ ميلان وتاريخ كرة القدم من الناحية التكتيكية.

ما لم يساندني بيرلسكوني أمام الرأي العام واللاعبين معًا فلا أعتقد أنه كان بإمكاني النجاح، ولا أعرف إن كان اللاعبون سيستمعون إليّ أم لا، فعندما يحاول الإنسان أن يعمل شيئًا جيدًا ومختلفًا يحتاج لدعم هائل.

ساكي ميلان: الثورة وما بعدها

كان النقد لاذعًا في البداية، فالميلان الذي كان يحاول إعادة هيبته المحلية بعد هبوطه للدرجة الثانية عام 1980 نتيجة لفضيحة «توتونيرو المعروفة» والذي لم يحصل على لقب دوري منذ عشرين عامًا لن ينقذه مدرب لم يلعب كرة قدم في حياته أبدًا.

وكان رد ساكي لاذعًا أيضًا حيث أطلق تصريحه الشهير:

لم أكن أعرف أنه إذا أردت أن تكون فارسًا جيدًا فعليك أن تولد حصانًا.
التصريح الأشهر لأريجو ساكي

استطاع بيرلسكوني أن ينتدب «رود خولييت» من أيندهوفن و«ماركو فان باستن» من أياكس لتبدأ ثورة ميلان في إيطاليا: أداء هجومي وكرة قدم تمتاز بالضغط المتقدم، هما السمات الأساسية للـ«روسونيري» في تعريف اللعبة من جديد واستطاعوا الفوز بالـ«اسكوديتو» بعد غياب عشرين عامًا.

في الموسم التالي التحق هولندي ثالث، وهو «فرانك ريكارد»، للتشكيل الإيطالي الذي كان يضم مالديني وكوستاكورتا وباريزي ودونادوني وانشيلوتي لينفجر الميلان أوروبيًا ويثبت مدى فاعلية التكتيك الجديد بشكل قاطع، حيث استطاع مقاتلو «سان سييرو» أن يحصلوا على لقبهم الأوروبي الغائب منذ عشرين عامًا ثم حافظوا على هذا اللقب في الموسم التالي بفضل الأداء الذي كان لا يمكن وصفه إلا بالمذهل تمامًا، مثالي لأبعد الحدود، لقاءات مثل التي كانت ضد ريال مدريد في نصف نهائي البطولة الأوروبية، والتي انتهت بفوز ساحق بخماسية دون رد، ستظل عالقة في الأذهان للأبد.

لكن القصة، كغيرها، لم يكتب لها الدوام. ضربت الإصابات الفريق، وعانى ريكارد من إصابات متتالية، كما دب الخلاف بين باستن وساكي ليبهت أداء الميلان تدريجيًا، وهو ما تزامن مع الأصوات التي تطالب بوجود المدرب الإيطالي على رأس الجهاز الفني للمنتخب الأتزوري، وهو ما تم رسميًا في النهاية عام 1991.

إلا أن الطريقة التكتيكية خاصة أريجو بدت وكأنها لم تكن مناسبة للمنتخبات الوطنية. تكتيك يحتاج لتدريب يومي وتناغم تام بين اللاعبين وهو ما يصعب تحقيقه في ظل معسكرات قصيرة ومقتضبة بكل تأكيد، كما لاحت في الأفق بعض المشاكل بينه وبين نجم إيطاليا آنذاك روبيرتو باجيو. فكما هو معروف عن ساكي أنه لا يعترف بلاعب كرة قدم كونه عظيمًا إلا إذا ما قدم كل مهاراته وإمكاناته لخدمة الفريق، فالقوة والفنيات واللياقة البدنية جميعها وسائل في عقل الأقرع لتحقيق غاية انتصار الفريق ولكنها ليست غاية في حد ذاتها.

بالرغم من ذلك، استطاع المنتخب الإيطالي تحت ولايته أن يصل إلى نهائي كأس العالم 1994، لكنه خسره بالركلات الترجيحية لصالح البرازيل. فما كان هناك مفر من العودة إلى الميلان مرة أخرى، ولكن هذه المرة دون نجاح يذكر، ليرحل لأتلتيكو مدريد ثم بارما ليعتزل التدريب عام 2001. ويقول ساكي عن هذه الفترة:


ما نعتبره بديهي الآن لم يكن كذلك

الفرق بين الميلان وغيره أنك في الميلان لديك لاعبون متميزون، أما في أندية أخرى فهم غير ذلك. ولا يمكنك أن تفعل ذلك إلا إذا كان هناك نادٍ كبير يقف وراءك.
أبهرتني هولندا في السبعينيات، وكانت لغزًا بالنسبة إلي. كان التليفزيون صغيرًا فشعرت أني بحاجة لرؤية الملعب بأكمله حتى أفهم طريقة لعبهم.

أبدى ساكي إعجابه بالكرة الشاملة الهولندية التي ظهرت في بداية السبعينيات، وهو ما أثر في تكتيكه الخاص بالطبع، ويتضح ذلك جدًا في إدراك أهمية تحرك اللاعب دون الكرة. كما أنه كان مشجعًا للكرة الهجومية. ذلك بالطبع كان عكس التكتيك السائد في إيطاليا والذي كان يتمحور في عنصرين: أولهما منظومة دفاعية محكمة سواء بنمط الليبرو والدفاع اللصيق «رجل لرجل» أو غيرها، والعنصر الآخر هو اللمحات الهجومية التي تعتمد على الإمكانيات الفردية للمهاجمين، وهو ما لم يستطع أحد تغييره في إيطاليا حتى بقدوم مديرين فنيين مختلفين في أساليبهم. كان الجميع ينصاع للأسلوب الإيطالي الدفاعي العتيق حتى قدوم ساكي.

مفتاح كل شيء هو الفريق القصير.

هكذا يتحدث ساكي لإيضاح تكتيكه المميز، وقتها لم يكن ذلك طبيعيًا أو منتشرًا، لكننا الآن نعتبر أنه من البديهي ضرورة تقارب الخطوط في الملعب. كما تمكن الإيطالي من تدريب فريقه ميلان لاستخدام مصيدة التسلل بشكل مثالي تمامًا، ومع تقارب الخطوط وإحكام مصيدة التسلل أصبح ميلان ساكي لا يهزم.

اعتدت أن أقول للاعبي فريقي: إذا لعبنا في 25 مترًا بداية من المدافع الأخير حتى لاعب قلب الهجوم فلن يستطيع أحد أن يهزمنا، وهكذا كان على الفريق أن يتحرك وحدة واحدة تقدمًا وتراجعًا في الملعب.

ربما أهم ما يميز فترة ساكي هو تكتيك إدراك أهمية مكان اللاعب في الملعب، وأهمية تحركه ليتناسب مع تحرك زملائه وتحركات الخصم، ومكان تواجد الكرة وهو ما يتحدث عنه ساكي قائلًا:

كان لجميع لاعبينا دائمًا 4 نقاط مرجعية: الكرة، والمساحة، والخصم، وزملاء الفريق. ولكل تحرك وظيفة من تلك النقاط المرجعية الأربع، وكان على كل لاعب أن أيًا من النقاط المرجعية الأربع ينبغي أن تحدد حركته.

عوضًا عن استخدام التكتيكات الدفاعية القديمة مثل الليبرو والرقابة اللصيقة، طور ساكي فكرة دفاع المنطقة والذي يقتضي الاعتماد على نظام دفاعي ذي ضغط متكامل.

ربما لم تمتد مسيرة ساكي للعديد من السنوات لشيء آخر في تكتيكه أيضًا وهو أنه يرى اللاعب ليس محور كرة القدم، فاللاعب يعبر عن نفسه ضمن سيناريو محكم يضعه المدير الفني، وهو بالطبع ما سيجد صعوبة لتطبيقه على أرض الملعب إلا بتواجد لاعبين متفهمين لذلك و إدارة داعمة وهو ما تحقق في فترة ساكي مع الميلان.

رد ساكي على سؤال فان باستن الذي بدأنا به الحديث عندما أعلنت مجلتا فرانس فوتبول ووورلد سوكر عن أهم فرق كرة القدم في التاريخ، حيث تواجد فريق ميلان ساكي في القائمتين، فأخذ تلك المجلات وقال لماركو:

هذا هو السبب في حاجة للفوز وبأداء مقنع أيضًا، أنا لم أفعل ذلك لأنني أردت أن أكتب التاريخ، بل فعلت ذلك لأنني أردت أن أعطي للناس تسعين دقيقة من الابتهاج.

يبقي ساكي أحد أهم مدربي كرة القدم في تاريخها، يبقى هو الرجل الذي قدم فترة وإن كانت قصيرة إلا أنها مليئة بالتفاصيل التي أثرت كرة القدم على الجوانب الفنية والتكتيكية كثيرًا. حتى الآن يؤكد الكثير من جماهير كرة القدم أنه لم يلعب فريق بهذا التناغم الذي لعب به ميلان ساكي، لم يحدث ذلك أبدًا والفضل لقائد الأوركسترا صانع هذا التناغم.

إن أعظم مجاملة تلقيتها عندما قال الناس إن كرة القدم التي أقدمها كانت مثل الموسيقى.