نختبر الجمال في حياتنا اليومية، ونربط الجمال بالفن، لكننا في مجتمعاتنا العربية الإسلامية ما زلنا ننظر لبعض مظاهر الفن على أنها «الجمال المحرم».

فمثلًا؛ يرفض الكثير من مشايخ الإسلام فن الموسيقى والنحت والتمثيل، وحين يتابع الإنسان المسلم أو على وجه أدق الإنسان العربي المسلم هذه الفنون يكون لديه إحساس جواني بحرمانيتها، لذلك ترفض الكثير من العائلات المسلمة دخول أبنائها عالم الفن والاشتغال به. ومن هنا ينبع السؤال: ما علاقة الفن بالإسلام؟

حاول «علي عزت بيجوفيتش» في كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب» إيجاد وحدة بين الفن والدين، لكنه في إيجاد هذه الوحدة اعتمد على مصادر جميعها أجنبية من العالم الذي كان مسيحيًا، وأعني بذلك أوروبا وأمريكا، ولم يأت لنا بأي شيء من عالمنا الإسلامي.

فإذا كان الغرب المسيحي قد كتب كل هذا عن علاقة الشعر والدراما والموسيقى بالدين، فماذا كتبنا نحن المسلمين في العالم العربي عن هذه العلاقة؟ وإذا كان اليهود قد أوجدوا نشيد الأناشيد ضمن التوراة (المتداولة) -كما يذكر الكاتب- واستخدم المسيحيون الآلة الموسيقية كالأورغان في كنائسهم، فماذا استخدم المسلمون من تلك الفنون؟

يذكر بيجوفيتش في جزء من فصل عنوانه «الفن والدين»، أن المسلمين قد اهتموا بمعمار المساجد وتفاصيلها الجمالية، وأنا أوافقه الرأي في هذا؛ فقد استخدم المسلمون طرازًا فنيًا ومعماريًا في المساجد، أصبح فيما بعد يسمى «الطراز الإسلامي». لكن الكاتب لا يذكر لنا أي علاقة أخرى غير المعمار بين الإسلام والفن.[1]

في أحد الأبحاث المنشورة على موقع مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق القطري، تقول كاتبة المقال إن هناك فنونًا ازدهرت مع ازدهار الإسلام، وهي فن الخط العربي وفن التجويد. إذن يمكننا الآن أن نجمع فن المعمار الإسلامي وفن الخط العربى وفن تجويد القرآن في بوتقة واحدة ونسميها: «فنونًا إسلامية».

ولعل هذه هي الصعوبة الأكبر التي واجهتني في البحث في هذا الموضوع، فأيما كتبت «الفن والإسلام» في شريط البحث على جوجل، يظهر لي أشياء تتعلق بالفن «الإسلامي»؛ فماذا عن الفنون الأخرى «غير الإسلامية»؟ هل يعترف الإسلام بها؟

هناك من حاول أن يذيب العوائق بين الفن والإسلام كالدكتور «محمد عمارة»، والذي حاول في كتابه «الإسلام والفنون الجميلة» أن يفند الأحاديث التي جاءت في شأن تحريم الغناء وفي مقابلها مشاهد من السيرة تصف أن الرسول أباح الغناء وكان يطرب لسماع الشعر. ويستشهد «عمارة» بـ«القرطبي»، فيقول إن الأخير قد أحلّ الغناء الذي ليس به مجون أو إثارة للغرائز الحيوانية الشهوانية أو الموظف لصرف الناس عن الإسلام. ويعرض أيضًا لقول «الغزالي»:

ومن لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره؛ فهو فاسد المزاج ليس له علاج. [2]

وبما أن تلك العلاقة بين دين الإسلام، الذي يدين به معظم عالمنا العربي، والفن، علاقة معقدة لم نستطع أن نفهمها فهمًا جليًا من خلال كتابات الباحثين والشيوخ، فقد حاولنا أن نعرف كي هي تلك العلاقة في أذهان نموذج من الشباب العربي المسلم.

ولهذا فقد قمتُ بعمل دراسة استطلاعية لمعرفة رأي الشباب المسلم في المجتمع الذي نعيش فيه، وهو المجتمع المصري، في شأن العلاقة بين الإسلام والفن وتصرفاتهم المبنية على فهمهم لتلك العلاقة.


علاقة الشباب المصري المسلم بالفن وفهمه لطبيعة العلاقة بين الفن والإسلام

كان لدى بعض الافتراضات قمت بوضعها قبل أن أقوم بوضع أسئلة استمارة الاستبيان التي قمت بتوزيعها على 50 مفردة من الشباب المصري المسلم بين 20-32 سنة عن طريق الفيس بوك، تلك الافتراضات يمكن تفنيدها كما يلي:

1. الشباب المصري المسلم لديه تناقض بين أفكاره نحو تلك العلاقة بين الإسلام والفن وتصرفاته المرتبطة باستهلاكه للمادة الفنية أو إنتاجه لها أو ممارسته إياها.

2. الشباب المصري يرى في الفن فائدة وإن لم يكن بالضرورة يدركها.

3. لا يؤمن الشباب المصري المسلم بالحرية المطلقة للفن.

4. الشباب المصري المسلم لا يمكنه تحديد العلاقة بين الإسلام والفن بوضوح.

في البداية حاولت أن أعرف إن كان للعينة محل الدراسة اختلاط بالفن أم لا، وأقصد هنا فيما يخص الممارسة أو الاستهلاك، وتبين من خلال الاستبيان أن 94% من العينة لهم اختلاط بالفن عن طريق المتابعة أو الاستهلاك أو الممارسة، وأن أكثر الفنون التي تتابعها العينة محل الدراسة هي الغناء والموسيقى تليها السينما، أما النسبة الباقية وهي نسبة 6% فقد أجابت أنها لا تختلط بالفن من حيث الممارسة أو الاستهلاك أو المتابعة.

وتنحصر الأسباب التي ذكرتها تلك النسبة المحدودة من الذين لا يمارسون الفن أو يستهلكون المواد الفنية أو يتعرضون لها في الآتي: أن الأهل لم يشجعوا على متابعة أي من أنواع الفنون، أو أن الشخص ذاته لا يرى أهمية للفن، أو ألا وقت لديه/لديها لمتابعة أي شكل من أشكال الفنون.

حول الفرضية الأولى التي وضعتها والتي تقول إن الشباب المصري المسلم لديه تناقض بين أفكاره نحو تلك العلاقة بين الإسلام والفن، وتصرفاته المرتبطة باستهلاكه للمادة الفنية أو إنتاجه لها أو ممارسته إياها، فلم أستطع نفيها أو إثباتها حيث جاءت الإجابات محيرة؛ فقد أجابت معظم العينة بـ«محايد» حول العبارة:

«أشعر أن الدين لا يؤيد الفنون بوجه عام لذلك أشعر بالذنب وعدم الراحة حين أنفق وقتي وأموالي للذهاب إلى حفلة موسيقية أو معرض فني أو فيلم سينمائي»، وأما فيما يخص العبارة: «أؤمن أن كل أنواع الفنون من رسم وتمثيل وخلافه حرام لكني ما زلت أتابع بعضها بحكم العادة أو مجاراة العصر»، فقد أجاب المعظم بـ«أرفض بشدة» يليها «أرفض»، ثم «محايد»، وذلك بنسب متقاربة.

أما بالنسبة للفرضية الثانية التي تقول أن الشباب المصري يرى في الفن فائدة حتى وإن لم يكن يعرف بالضرورة كيف يحددها، فيمكن القول بأن هذه الفرضية أثبتت صحتها حيث جاءت معظم الإجابات بـ«أرفض» حول العبارة: «الفن درب من دروب التسلية ولا يمكنني أن أفكر أو أصل إلى أي منفعة أخرى له».

وفيما يخص الحرية المطلقة للفن، فمن الواضح من خلال إجابات العينة أن الشباب المصري المسلم لا يؤمن بها، وذلك حيث أجابت معظم مفردات العينة بـ«أوافق» حول العبارة: «أرى أن بعض الفنون حلال وبعض الفنون حرام».

أما السؤال الذى وضعته كي يكشف لي عن مدى تعقد العلاقة بين الفن والإسلام وغموضها على أرض الواقع، فكان بسؤال العينة تحديد موقفهم من العبارة: «أؤمن أن الدين لا يحرم الفن لكنه في نفس الوقت لا يشجعه»، فقد جاءت النسبة الأكبر من الإجابات بـ«موافق» و«محايد» على حد سواء. مما يوضح لنا أنه إذا كان الفن حلالًا في الإسلام، فلماذا لا يشجعه؟

أو لماذا يؤمن أولئك الشباب أنه لا يشجعه ربما تكون الإجابة لأننا لا نرى شيوخًا تتبنى خطابًا في عالمنا العربي يشجع الفن أو يدعو إليه، لا نرى شيخًا يقوم بزيارة معارض فنية أو يحضر حفلات غنائية، وربما هذا ما أدركه الشباب المصري وينعكس ذلك الإدراك من خلال إجاباته عن هذا السؤال.

وللحصول على معلومات أكثر عمقًا من العينة، فقد تركت للمبحوثين فرصة التعبير دون قيد، بسؤال أخير مفتوح حول رؤيتهم لتلك العلاقة بين دين الإسلام والفن، وأمكنني من خلال هذا السؤال الوقوف على مدى صحة فرضيتي الأخيرة، وهي غموض العلاقة بين الإسلام والفن في أذهان الشباب المصري المسلم وعدم قدرته على تحديدها.

ويمكنني أن أستخلص من إجابات الـ49 شخصاً الذين أجابوا عن هذا السؤال المفتوح، أن معظم أفراد العينة يرون صعوبة في تحديد تلك العلاقة، أما النسبة التي تليها فهي من أولئك الذين يرون تكاملًا بين الإسلام والفن ويستشهدون بعبارة «إن الله جميل يحب الجمال»، لكن معظم من قال بوجود علاقة تكامل وتآلف بين الإسلام والفن، يرى أن تلك العلاقة كي تكون فعلًا متآلفة لابد أن تحكمها ضوابط تتمثل في أن يخضع العمل الفني للأوامر والنواهي الشرعية، وألا يكون فيه ما يثير الغرائز.

ودلل أحد أفراد العينة بفيلم «عمر المختار»، حيث قال: «من وجهة نظري أنه سلاح ذو حدين ممكن أن ينفع أو يضر، كما أنه ممكن أن يكون وسيلة جيدة للدين بما يتناسب مع الضوابط الدينية مثل فيلم عمر المختار».


حرية التعبير الفني والقيد الديني

بالطبع لا يمكنني تعميم ما توصلت إليه من نتائج من خلال الاستبيان الذي قمت به، لأن العينة صغيرة جدًا، إلا أنها تعطي مؤشرًا ولو بسيطاً، لغموض العلاقة بين الإسلام والفن في أذهان الشباب المصري المسلم، وسببه المنطقي غموض تلك العلاقة على أرض الواقع.

فالكثير من الأسر المصرية أسر محافظة ولا تقبل أو تحبذ أن يعمل أحد أبنائها في مجال الفن، كما ذكرنا سابقًا، وبخاضة فن التمثيل، لكنه أيضًا نفس المجتمع الذى يشاهد المسلسلات، ويبجل المغنيين والرسامين، ويصطف أمام صالات عرض الأفلام السينمائية كل عيد أضحى مبارك كي يشاهد أحدث الأفلام.

لكن الاستبيان يعطي مؤشرًا هامًا حول وعي الشباب المصري المسلم بالجدل القائم في العالم بشكل عام والمجتمعات المسلمة بشكل خاص، حول مدى حرية الفن في التجسيد، كمثل صور ورسوم الأجساد العارية، واللقطات الجنسية في المشاهد السينمائية، والغزل الصريح في الأغاني، ومدى قبول الدين لتلك الحرية حتى إن قال الدين الإسلامي بإباحة الفنون.

هل يجب أن يكون هناك رقيب في العالم الإسلامي يقوم بالتأكد من أن «الضوابط الشرعية» أو الدينية – كما يصفها بعض من الشباب الذي قام بالإجابة على الاستبيان- لم تُمَس ولم تهدم؟ وإذا وضعت حدود للتعبير الفني وضوابط له، فمن يضع تلك الضوابط ومن يراقبها؟ أم أن المشاهد هو من يقرر وهو من يعاقب بالإحجام عن تشجيع ما لا يناسب عقيدته؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، تقديم عبد الوهاب المسيري، دار الشروق، الطبعة السادسة، ص 152.
  2. محمد عمارة، الإسلام والفنون الجميلة، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1991.