من تراث بوذية الزن، يُحكى أن معلمًا مرموقًا معروفًا بحكمته وعطفه سُئل من قبل حواري شاب: كيف لنا أن نجد السكينة والسلام وسط كل هذا الصخب حولنا؟

أجاب المعلم بأن الطريق إلى السكينة ليس بتجنب فوضى العالم، بل بتعلم العثور على السلام وسط ذلك الاضطراب. وأشار إلى بحيرة قريبة وأشاد بروعة المظهر. استكانت البحيرة فعكست السماء والأشجار من حولها. وهو ما نفتقده عندما يتوتر سطح البحيرة نفسها. وهكذا هي عقولنا عندما تُشوِّش عليها مجريات الحياة وعبثيتها، فلا تسمح لنا برؤية الجمال من حولنا.

يقوم فنانون ومُحبو الفن برحلات مماثلة لرحلة الحواري حتى اليوم، وذلك لزيارة ضريح خارج طوكيو يرقد به رائد سينمائي في القرن العشرين. لا توجد أي معلومات على ذلك الضريح ما عدا الحرف «مو»، الذي يعني باليابانية «العدم». يترك بعض الزوار زجاجات النبيذ والساكي لصاحب الشاهد، لأنه أحبهما وتناولهما حتى أثناء الكتابة.

عاش «ياسوجيرو أوزو» ستين عامًا بالضبط. توفي يوم ميلاده، بعد عامين من وفاة والدته التي عاش معها عمره كاملًا. لم يتزوج أو ينجب أي أبناء. لم يدرس في الجامعة أو يعمل بأي وظيفة غير السينما. وعلى الرغم من كل ما سبق، خُلِّد اسمه ووُصف بأنه أعظم المخرجين. بحث دومًا عن البساطة وما يشغل المتفرج العام. وظلَّ ثلاثين عامًا يصنع أفلامًا عن الأزواج والموظفين.

يمتلك أوزو تجربة مُلهمة في تطوير اللغة السينمائية وسرديات بديلة. والمدهش هو الحافز. كانت محاولات أوزو في التعبير الصادق والحياد هي المفتاح لشفرة تغيير السائد. ليصير الانغماس في التفاصيل تجريدًا، واقتصاد الأدوات ابتكارًا لأخريات. كون مشروعه السينمائي عالمًا شديد الخصوصية وحضورًا لأسلوبية طاغية. وفي الوقت نفسه بقي مرجعًا للجميع، ومرآة تسع كل من طفا فوق المحدود.

أثر الفراشة

استقر مشروع أوزو وأسلوبه في أربعينيات القرن الماضي. بعد الحرب العالمية الثانية. كان الزمن الذي دارت فيه أفلامه. وبقيا يتقدمان باتساق أغلب الطريق. نتحدث عن مجتمع يتعافى من خراب الهزيمة، ويتطلع لإصلاحات جذرية مُرحب ببعضها، وبعضها يقاوَم. وما التغيير إلا حركة التاريخ. الزمن يمضي دومًا إلى الأمام. وإن كان لمرور الأيام جانب حزين، ففي التصالح مع الجانب الجمالي كم من العزاء. ربما من هذا المنطق، جاورت حكاياته أمواج المحيط المتتالية أو قضبان تعبرها قطارات على مدى اليوم، أو كلاهما، وكوَّنت أسماء المواسم كثيرًا من عناوين أفلامه.

سلَّط أوزو نظرته على خلية مجتمعه وتأمل من خلالها جوانب أشمل. فكانت قراءته من الداخل إلى الخارج. رأى في الأسرة ومكونها ديناميكية تفاعل أعضائها، وتعاقب أجيالها، تفاعل مع المتغير الثقافي والاجتماعي. دارت معظم المشاهد في غرف المنزل. تخلَّلتها مشاهد في المطعم أو البار. أحيانًا نذهب إلى عرض كابوكي. أو نرى تجمعًا لبعض الشخصيات في مجلس يُتوِّجه غناء جماعي. اختيارات الأماكن لأوزو تُقرِّبه من همه الأساسي. تُركِّز على الداخل وأثر العوامل الخارجية عليه. وتُهيئ له أسلوبه السينمائي الذي يقوم على البناء الهيكلي.

في «صباح الخير»، يقوم طفلان بإضراب صامت اعتراضًا على خلو منزلهما من جهاز التليفزيون المستحدث. اختلقا أعذارًا في البداية لزيارة جارهما ومشاهدة مباريات السومو جماعيًّا. ثم تدخَّل الآباء للحد من تلك الزيارات. تتوتر العلاقات داخل الأسرة، وخارجها مع الجيران، حتى تستقر الأمور.

بشكل أكثر خفوتًا، وعلاقات أكثر تعقيدًا، نطَّلع على تحول نظرة جيلين إلى الزواج في «طعم الشاي الأخضر». يمثل زوجان مرَّ على زواجهما سنوات، الزواج التقليدي. ويُعبِّر عن الجيل الجديد، ابنة أخي الزوجة، حيث تمثل التمرد على ذلك السلوك، وتستمد حجتها من روح العصر وخبرات التقليديين المحبطة. ترى الشابة نموذجًا سيئًا في زواج عمتها التعيس، وتقاوم أي ترتيبات تُعرَض عليها حتى لا تكرر تلك المأساة. تتعرف خلال الأحداث على زميل شاب لزوج عمتها، ويتقاربان. يتعقد فتور الزوجين ويتباعدان. على الجانب الآخر يتدارك الشابان نقاط الاختلاف والتشابه بينهما. ينتبه الزوجان لما افتقداه في تلك السنوات ويبدآن تقاربًا حميميًّا متأخرًا. يتجلى في دخولهما المطبخ لأول مرة معًا لتحضير العشاء في غياب الخادمة. ويتحمل الشابان مسئولية تجربتهما المستقلة، متفائلين بما هو قادم.

 

لا مركزية السرد

حاول الأقارب والأصدقاء إقناع نوريكو في «ربيع متأخر» بزوج محتمل، فأخبروها بأنه يشبه الممثل الأمريكي، والنجم وقتها، جاري كوبر. مؤشر آخر لآثار التبدل الثقافي ليابان ما بعد الحرب. وحكاية من أوائل أعمال أوزو بعد تماهي أسلوبيته. يرأسها شخصيتان، نوريكو ووالدها الأرمل. تتولى أمور المنزل وترعاه. حياتهما مستقرة هادئة. تتبدل روح يومهم فقط عندما تستعد ابنة صديق للزواج، فينتبه الأب إلى وجوب دور ابنته التي تأخر سنها مقارنة بمن حولها. وهنا تبدأ محاولات الإقناع المختلفة.

هذا كان الحد الأدنى للشخصيات الأساسية في حكايات المخرج. على النقيض من السائد، لا يتبع أوزو شخصية رئيسية. يحافظ على مسافة بيننا وبين الشخصيات، فلا تأسرنا واحدة منهم. تعددت الشخصيات في «صيف مبكر». سكن منزل العائلة، الجد والجدة، الابن وزوجته وأبناؤه، وأخته. لكل منهم علاقة خاصة بالآخر. تُقدِّم لنا الشخصيات نمط يومهم من الصباح. نرى استعدادهم لزيارة العم. ليست بحبكة تقليدية، لكنه حدث يدفع باليوم ويكشف عمَّا يشغل أفراد العائلة. الجد وزوجته يبحثان عن السكينة ويعيشان ما تبقى لهم على مهل. الابن تشغله عنوسة أخته ويتسرع في الدفع بها نحو أقرب مقترح مناسب. زوجته تعاني من فتور بينهما. حتى الأبناء يريدون عربات قطار جديدة لماكيت السكة الحديد الخاص بهم. تتولى تلك الغايات أمر التطور السردي حتى تصل إلى الحل.

في الفيلمين، وبالإضافة إلى غيرهما، هناك حضور لشخصيات غائبة، أموات. مثل الأم في «ربيع متأخر» والابن ضحية الحرب في «صيف مبكر». شخصيتان غيابهما له دور مؤثر على من تُرك خلفهما. ويبقى لذلك وزن في تقاسم الأدوار ومقاومة التمركز السردي. ومن جهة أخرى، توازن بين المادي والمتجاوز، ومجال لأفق أبعد يفسح مجالًا للتأمل خارج ضجيج الواقع.

يُفضِّل أوزو تطور الحالة أو المزاج عن تطور الأحداث بالمسببات الدرامية. فنراه يتخلَّى عن كل حدث مؤهل لوصم مشهده بذروة. ففي «ربيع متأخر» لا نرى العريس المُرشح للابنة. ولا مراسم الفرح الاحتفالية. فقط نتابع العروس وهي تستعد في زيها التقليدي ووجهها يملؤه الحيرة. ويؤكد ذلك المنهج في مشهد متقدم رقد فيه الأب والابنة متجاورين استعدادًا للنوم. يتسامران وهما مستلقيان بعد يوم ممتع. يستغرق الأب في النوم فتسرح الابنة مبتسمة. ينتقل أوزو للقطة أخرى يُصوِّر بها مزهرية يتحرك خلفها ظل أغصان البامبو. ثم يرجع لوجه الابنة وقد تبدَّل مزاجها واختفت ابتسامتها. استوقفت لقطة المزهرية كثيرًا من الفنانين والنقاد. من بينهم المفكر «جيل دولوز» والمؤلف «بول شريدر». رأى الأول أنها دلالة على روح الزمن والشعور بمروره. وأكد الأخير أنها أسلوبية أوزو المتسامية في الانتقاص وتكليف خيال المشاهد بتكوين جزء من الحدث. لكليهما، بالإضافة إلى غيرهما من محللي المشهد، رأي مشروع.

 

ينطبق الشيء نفسه على اللحظات. فهو معروف بالابتعاد عن الأداء والتمسك بكشف شخصياته من خلال نمط حياتها ولغتها الجسدية وتفاعلها مع الآخر في أنشطة اليوم المعتادة كالأكل والأعمال المنزلية. وكلما اقتربت لحظة انفعالية انحرف عنها. فتظل الابنة في «ربيع متأخر» تقاوم مشاعرها المرتبكة تجاه تشجيع والدها وضغطه عليها للقبول بالزواج. وعند لحظة التداعي تغطي وجهها بيديها وتبكي. اكتفى أوزو في كثير من أفلامه بالأعين المغرورقة وحجب انسيالها. فيترك أوزو بذلك الأمر للخيال في تكوين ما قد تهيأ له.

وهكذا، يقتص أوزو أي نقاط بارزة. سواء كانت شخصيات، مراحل مفصلية في الحكي، أو حتى لحظات عاطفية تستدعي أداءً تعبيريًّا. ويستبدل بها ما هو متجاوز للمألوف والمعروض، بالمشاعر العامة لكل مرحلة والتي تعكسها لغته السينمائية.

هيكلية اللغة

يعتبر «كريستيان ميتز» من أوائل المُنظِّرين السينمائيين المعاصرين. وهو بداية تيار مغاير للتيار الكلاسيكي من المُنظِّرين. انتبه لمن سبقوه، وتحديدًا «كلوشوف» والمخرج «سيرجي أيزنشتين» وكتاباته حول الفن الوليد. وتعمق في تناول الفن السينمائي كفن يعمل بمنطق لغوي أكثر منه مسرحيًّا أو دراميًّا. في كتابه «لغة الفيلم: سيميوطيقية السينما»، تناول قراءة وتحليلًا للغة السينمائية من خلال هيكلية «فيرديناند دي سوسير» في اللغويات. وهو منهج يرى للغة نظام دلالات مستقلًّا تعرف مكوناته من خلال علاقاتها ببقيتها داخل المنظومة نفسها.

من هذا المبدأ كان رأي ميتز أن السينما لغة ولكنها ليست نظامًا لغويًّا. بمعنى أن العلاقة بين وحداتها ليست بتعقيد اللغة لسهولة استنباطها بصريًّا. ولأن اللقطة لا تقوم بفعل الكلمة بل الجملة. تعمل في إطار نسقي ويحقق معنى من خلال العلاقة بين الوحدة وما يسبقها وما يليها. وأوضح أن العلاقة بين الدال والمدلول في لغة السينما تحفيزية وليست حاكمة. الدال في اللغة هو اللفظ المسمي للمفهوم. والمدلول هو ذلك المفهوم الذي يستحضره اللفظ.

على سبيل المثال، اللقطة الأولى لوجه خالٍ من التعبير والثانية لطبق أرز. في اللغة السينمائية يعمل الاستدلال كالتالي: «ما بال هذا الرجل (المرأة) يبدو (تبدو) جائعًا (ة)». في حين أن العلاقة تختلف في النظام اللغوي. فالكلمة تساوي مفهومًا. بمعنى أن اللقطة الأولى تساوي «رجلًل» أو «امرأة».

يستخدم أوزو أدوات محدودة، كالكاتب الذي يتخلَّى عن التنوع اللفظي. وبالنظرة الأولى، تبدو التشكيلات المكونة من تلك الوحدات عادية. حتى ينكشف للمشاهد الدلالة التنسيقية التي ينسجها أوزو بهدوء، وحينها تتسامى التجربة إلى ما وراء العادي والواقع.

لقطة أوزو ثابتة. نادرًا ما يُحرِّك الكاميرا، وإن تم ذلك يكون تحركها مُسيرًا بضع خطوات حفاظًا على التكوين المُصور. وعادة ما كان التكوين سيمتريًّا، يصور من مستوى الخصر. على النقيض من العرف في تصوير الشخص من مستوى الكتف. ويحد أطره جزء من السقف والأرض، فيعطى انطباعًا ثلاثي الأبعاد لعمق الصورة. حتى إن اقترب للقطة متوسطة للشخصية، تظل الكاميرا أقل من مستوى الكتف لتحافظ على نفس المنظور. هذا الاختيار في وضع الكاميرا سُمي لقطة الحصيرة، نسبة إلى قربه من الأرض كعين من يجلس على حصير المنزل الياباني. وهو أيضًا إيحاء بالتواضع ولا مركزية الأنا مقابل مركزة الشخصية بصورة أكثر وحدة مع محيطها.

ويبادل اللقطات أيضًا أثناء الحوارات. يستخدم لقطات تأسيسية، عادةً ما تكون جماعية، ولقطات فردية تبادلية داخلية للمتكلم. يتمسك بزاوية مواجهة للشخص مقابلة لعينيه. فنرى المتحدث ينظر تقريبًا إلى الكاميرا، مُوجهًا حديثه إلى المشاهد. يصير الحوار هنا أشبه بالمونولوج ويتخلى عن طابعه المسرحي. ويتورط المتفرج كطرف في المجلس. وفوق كل ذلك، ينقل أوزو لقطاته متجاوزًا قانون الخط الوهمي بأريحية مدهشة. يكسر قاعدته بأدنى مجهود، وهو الاستغناء عن حجتها.

يحافظ الخط الوهمي في تبادل تصوير اللقطات على إيهام المشاهد بالاستمرارية. فيبقى كل شيء في جهته وخط النظرات بين الممثلين مُوجهًا لمواقعهم في اللقطات السابقة. ما يفعله أوزو باختيار زاوية غير تقليدية لتصوير المتكلم يُغني عن ذلك. ويُتيح له مجالًا لا محدودًا بعد أن هيأ المشاهد لموقع الأشياء في المكان بأقل مجهود. يوجد مثال واضح في مشهد أولي في «ربيع متأخر» تنضم فيه الابنة إلى أبيها وضيفه. نراهم جميعًا يكونون خطًّا قطريًّا نحو اليسار. الأب في المقدمة بجانبه الضيف يجلسان، وبعدهما الابنة واقفة. يقطع أوزو إلى لقطة قريبة للابنة مُحافظًا على نظرتها في نفس الاتجاه. نتهيَّأ لزاوية عكسية من خلف الجالسين، سواء كانت خارجية لظهر أحدهما أو داخلية لوجهه. لكن أوزو يقطع للقطة من الجانب الآخر، مُواجهًا الضيف. فقام بتهيئة لخط وهمي ثم تجاوزه عندما اعتمد على المسافة بين الجالسين في اللقطة التأسيسية، ونظرة الضيف حينها نحو عمله. ثم بادلها بلقطة داخلية أخرى للأب. واختتم باللقطة الكاملة الأولى.

 

يُخلِّص أوزو لزمن اللقطة. ويحافظ على توازن زمني بين لقطات المشهد الواحد. يتجلَّى ذلك التوازن في اللقطات التمهيدية والختامية التي يستخدمها كمتنفس بين بعض المشاهد. يحافظ بها على إيقاع وروح. ويفضل تتبع الممثل في عمق الإطار بين أطر متداخلة كونها ديكور المنزل الياباني التقليدي. وإن اجتمع عدد من الشخصيات في مجلس، كانت أطر الأبواب الخشبية المُسيرة، وتصميمها التكعيبي وما خلفها من عمق مجاور، ضمن أدواته في تبادل التركيز البصري والاهتمام المطلوب. ذلك إضافة إلى مسافتهم من الكاميرا وزاوية موقعهم.

كذلك الانتقال في «خسوف طوكيو» عندما علم الأب أن ابنته وزوجها يقتربان من الانفصال. ذهب لزيارة الأخير. وقرب نهاية المشهد بينهما انتبه الزوج إلى هبوط الثلج في الخارج. نلتفت بلقطة مقابلة يرى فيها الأب الثلج خلف النافذة. ثم ننتقل للقطة فاصلة لمكتب وفي الخلفية يستمر التساقط. وبعدها نرجع لمنزل الأب وفي المطبخ تقف ابنته وخلفها نافذة نرى من خلالها استمرار تساقط الثلج إلى أن تلتفت لعودة الأب.

 

يؤجل القطع من لقطة إلى أخرى إلى أن يضطر إلى اتباع الممثل في تغيير موقعه. إن كان واقفًا وقرَّر الجلوس، وكان في جلوسه اقتطاع له من التكوين أو اعتلال توازن الكتلة والمسافة. لحق به في لقطة وتكوين جديدين. الحالة الأكثر تداولًا هي عندما تتحرك الشخصيات بين الغرف. اتبعها بلقطات مختلفة. لقطة وتكوين لكل غرفة. لا يسرف في لقطات داخل الموقع الواحد. غالبًا ما استقر على زاوية واحدة. كانت تلك وسيلته في تدريج شعور المشاهد بالمكان والمساحات. كنوع من التشويق خفي المصدر، يتسلَّل إلى لا وعي المتفرج ولا ينتبه لأسبابه. لكن يملؤه إحساس بالإشباع مع انتهاء الفيلم، شبيه بذلك المصاحب بفك لغز أو تكوين بازل.

بشكل وقتي، تتبع الشخصية بلقطات أحادية بين الغرف، خصوصًا إن كان هناك ما ينتظرهم في تجولاتهم، يتركنا مع ما أو من ينتظر عودتهم للموقع القاعدة. في مقدمة فيلمه الأشهر «حكاية طوكيو»، تستعد زوجة الابن لاستقبال والديه من رحلتهما. تتجادل مع صغيرها حول مبيتهما. تتركه ونرجع لغرفة المعيشة ونستقبل الأبوين وابنهما الأكبر. يتم الترحيب بهما. ترجع الزوجة إلى المطبخ وتلحق بها أخت زوجها. تنتبه العمة إلى الصغار وتصطحبهما للترحيب بالجدين في غرفة المعيشة. ثم يصطحبهما الابن إلى غرفة النوم في الدور العلوي. يتركهما وينزل إلى المطبخ للحديث مع أخته وزوجته عن الطعام المناسب. تصل أرملة أخيهما المتوفى. يرحبون بها ويدلونها إلى الدور العلوي. تصعد وتنضم إلى الضيفين. هذا التقديم المتمهل يبني إحساسًا متصاعدًا بالمساحة والمكان على مدى المشهد والفيلم. إضافة إلى توق خافت للرجوع لكل نقطة لم تكتمل خلال سير المشهد.

 

يبني أوزو ذلك الهيكل بدون أن نلاحظ. باسترسال وانسيابية، تتداعى الجمل السينمائية البسيطة. يبدو ظاهرها رتيبًا مكررًا. وبتغير طفيف ندرك بلاغة اللغة وجمالياتها. يتخللنا ذلك الإشباع الغامض، ويترك أثرًا تأمليًّا يبعث سكينة كتلك التي استطاع معلم الزن استخلاصها وسط ضوضاء اليوم.

في «خسوف طوكيو» نرى ممرًّا لا يميزه شيء في منزل الأب. منزل يسكنه الأب والابنة الصغرى. أما الابنة الكبرى فهي ضيفة هي وطفلتها الرضيعة بسبب توتر العلاقة مع زوجها. الأم لم تسكن هذا المنزل. فقد هجرت الأسرة حينما كانت ابنتها الصغرى رضيعة، وتولى الأب مسئولية البنتين. تتورط الابنة الصغرى مع شاب يتهرَّب منها. تلجأ لعملية إجهاض بدون علم أهلها. ترجع إلى المنزل منهكة. تجلس في الممر نفسه. تنتبه لابنة أختها تلعب بجانبها. تتحفَّز وتنفجر باكية مخفية وجهها خلف كفيها. كأنها رأت الجنين المجهض وحزنت عليه، وانكشفت مرآة لها كطفلة تخلَّت عنها أمها وتحسرت لحالها. في النهاية، نرى الممر مرة أخيرة وقد خلا من الجميع. كان مكانًا للألم والأمل. ثم ينتبه الأب في غرفة المعيشة إلى لعبة تخص الرضيعة. يلتقطها. يهزها ويبتسم، مُتفائلًا مُتمنيًا مُستقبلًا أفضل لها بين والديها، بعد أن قررت أمها الرجوع إلى منزلها حفاظًا على أسرتها.

 
 

تتبلور هيكلية لغة أوزو في «حكاية طوكيو». الفيلم رحلة زوجين مُسنين من مدينتهما إلى طوكيو، حيث يعيش أبنائهما. يمران بابن لهما في مدينة أقرب ثم يكملان نحو وجهتهما. تختلف انطباعات أفراد عائلتهما حول استقبالهما. ونتابعهما في محطات متنوعة. يبدو لهما المعتاد لأهل المدينة مثيرًا، كأطفال في مغامرة استكشافية. تصير المدينة مُصغَّر الحياة، يزحمها قادمون ومغادرون. كلٌّ يبحث عن مكان ملائم له.

الفيلم يبدأ في غرفة المعيشة بمنزل الكبيرين، في مدينتهما. وينتهي في البقعة نفسها. في كل محطة لهما اجتمعا بشخصية، أو أكثر. وفي عودتهما نعيد المرور على نفس الأماكن بشخصيات مختلفة. تجتمع العائلة بمنزل الأب والأم في النهاية. ويعي المشاهد الحكاية من خلال لقطات عُرضت في النصف الأول من الفيلم، ومع النصف الثاني يُعيد عرضها بتغير الحضور بها. يخاطبنا أوزو بلغة شديدة البساطة. بإيقاع هادئ يخلق مناخًا آمنًا للتلقي، ومكافأة مؤجلة لا تُخيِّب ظن الصبور.

بين الواقعي والشكلي

«ليندساي أندرسون»، أحد مخرجي تيار الواقعية البريطانية، كتب مقالًا بعنوان «بوصتان فوق الأرض»، عندما شاهد «حكاية طوكيو» للمرة الأولى. استشهد فيه بحوار للكاتب «آلان واتس» مع المفكر البوذي «دايستسو سوزوكي»، عندما سأله عن حالة الصحوة، الزن. فأجابه: «تمامًا مثل التجربة اليومية العادية، لكن بوصتان فوق الأرض».

رأى أندرسون نفس التجربة مع أوزو. أفلامه شديدة البساطة. تُسجِّل اليومي والعادي. تبدو محلية للبعض، لكنها لا تشيخ ولا يستغربها أجنبي. ينطبق عليها تنظير الواقعيين أمثال «سيجفريد كراكور». تكشف التلقائي الذي عادة لا يرى في الواقع. تعثر على الاستثنائي في العادي. تُعيد تقديم الواقع بصورة مختلفة. لكن أفلام أوزو لا تخضع لانتقاد الشكليين، الذين يرون أن محاولات تصوير الحقيقة لا يكفي لتعريف السينما كفن. فأسلوبيته خلقت جديدًا. لم تكتفِ بإعادة إنتاج. بل طورت تجربة متجاوزة. وانتقلت بكل مهتم إلى مكان مغاير، تملؤه السكينة، حتى إن ظل في قلب الرتيب والمألوف.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.