في 17 أغسطس/آب الماضي، اندلعت في محافظة السويداء في الجنوب السوري مظاهرات بدا وكأنها احتجاجات على غلاء المعيشة وتدهور الأحوال الاقتصادية الذي تفاقم نتيجة الوضع السياسي المتدهور في البلاد منذ الثورة السورية واندلاع الحرب الأهلية قي سوريا في أعقاب ثورات الربيع العربي.

وكانت الشرارة التي أطلقت تلك الاحتجاجات هي قرار رفع الدعم عن المحروقات في منتصف أغسطس/آب الماضي مما أدى إلى إضراب سائقي الشاحنات بسبب تضاعف أسعار الوقود مع وقفة احتجاجية في الساحة العامة في المدينة. ثم بدأت الاحتجاجات تتفاقم وتخرج عن كونها مجرد احتجاجات محلية ضد غلاء المعيشة إلى احتجاجات سياسية ذات مطالبات أكبر وأخطر تستهدف النظام بنفس شعارات الثورة السورية، لكن هذه المرة من معقل طائفة الدروز التي كانت تميل لتأييد النظام، وكانت السويداء من أكثر المدن تجنباً للصدامات المروعة في الحرب الأهلية السورية بين طوائفها وأحزابها المختلفة من محافظة السويداء وريفها وقراها.

من هم الدروز؟

الدروز أو الموحدون كما يحب أتباعهم أن يسموا أنفسهم، هم طائفة من طوائف الشيعة الإسماعيلية (نسبة إلى إمامهم إسماعيل بن جعفر الصادق الذي يفترقون عنده عن الموسوية أو الشيعة الإمامية الإثني عشرية)، ظهرت في القرن الحادي عشر الميلادي على يد حمزة بن علي الزوزني الذي كان داعية إسماعيلياً من خرسان وكان على اتصال بالحاكم بأمر الله، وقد ادعى فيه بعض العقائد تصل إلى حد التأليه إضافة إلى تناسخ الأرواح والحلول والاتحاد.

وبعد الوفاة الغامضة أو الاختفاء الذي كان للحاكم بأمر الله، لم تلقَ تلك الأفكار أي ترحيب من قبل الدولة الفاطمية، ففر أتباع تلك الطائفة الذين تعرضوا للتنكيل إلى الشام ولبنان وفلسطين حيث يعيش ما يقارب مليون شخص منهم الآن. وأصبح حمزة الزوزني هو آخر من حل فيه عقل الإله، كما أنه عند الدروز قائم الزمان والمؤسس لمعظم عقائد الدروز إلى اليوم. وتعد «رسائل الحكمة» هي النص الأساسي للعقيدة والإيمان الدرزي، ويحتوي على خليط من العقائد والفلسفات الغنوصية (التي تميل إلى المعرفة الروحانية لا العقلية) والأفلاطونية وديانات شرقية إضافة إلى الديانات الإبراهيمية والقرآن.

وقد جمعها الأمير عبد الله التنوخي، وهو ابن العائلة التنوخية صاحبة النفوذ، في منطقة الغرب في جبل لبنان سنة 1479 للميلاد، ويميل الدروز إلى فرض السرية المطلقة على معتقداتهم، حتى عن أبناء الطائفة أنفسهم باستثناء طبقة من رجال الدين يسمون العقلاء والرؤساء والأجاويد هم من يمكن لهم دراسة وقراءة كتب العقيدة الروحانية والاطلاع عليها، في مقابل الجهال أو الجسمانيين، الذين منهم الزعماء السياسيون. وقد أغلق باب التبشير في الطائفة الدرزية منذ عام 1143 للميلاد حينما أعلن المقتنى بهاء الدين إيقاف الدخول في الطائفة، وأن من يولد من أب وأم درزي فقط هو من ينتمي إلى الطائفة، ومنذ ذلك الحين أصبحت الطائفة كياناً مغلقاً تماماً ومنغلقاً على نفسه.

أما سبب التسمية فترجع إلى داعية يسمى محمد بن إسماعيل بن تشكين الدرزي، وهو داعية فارسي وفد إلى مصر في زمن الحاكم بأمر الله واعترف بدعوة حمزة الزوزني وعقائده في الحاكم بأمر الله، ثم ما لبس أن نال رضا الحاكم وأصبح داعية وجمع حوله العديد من الأتباع.

وتسبب هذه التسمية إشكالاً لدى الدروز لعدة أسباب، منها أن محمد الدرزي نفسه يعتبر زنديقاً عندهم حيث ما لبث أن حاول خلع حمزة والدعوة إلى نفسه إماماً حتى قتل عام 1018 للميلاد، ولكن هناك سبباً آخر له بعد سياسي وأيديولوجي في العصر الحديث، فالدروز يرون أن هذه التسمية الغرض منها عزلهم عن محيطهم العربي بتسميتهم بلقب فارسي (درزي تعني خياطاً بالفارسية) بخاصة بعد انتشار أفكار القومية العربية في الشام في بداية القرن العشرين ضد الوجود التركي والأجنبي حيث نشأت القومية العربية بحضور واسع من الدروز في الأحداث السياسية في الشام ولبنان وفلسطين.

الدروز والسياسة في القرن العشرين

يكاد لا يعرف كثيرون أن الفنان الكبير فريد الأطرش وأخته أسمهان هم من أبناء الطائفة الدرزية وينحدرون من عائلة الأطرش صاحبة الزعامة السياسية في جبل الدروز وعاصمته السويداء في الجنوب السوري.. وكان حضورهم إلى القاهرة مع أمهم الأميرة علياء المنذر هرباً من بطش الفرنسيين الذين كانوا قد أعلنوا الانتداب على سوريا مما فجر الثورة السورية الكبرى بقيادة جدهما سلطان باشا الأطرش أحد أبرز الزعامات السياسية الوطنية في سوريا وبلاد الشام في مطلع القرن العشرين.

وقد سبق وانضم سلطان باشا الأطرش إلى الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين ضد الأتراك، وكان أول من دخل دمشق سنة 1918 مبايعاً بعد ذلك الملك فيصل ملكاً على سوريا، ولكن ما لبث أن أعلن الثورة مرة أخرى ضد الاستعمار الفرنسي الذي حاول أن يرسي دويلة درزية في جبل حوران، بالإضافة لدويلة علوية أخرى في اللاذقية، وهو ما رفضه سلطان باشا الأطرش الذي أصبح قائداً عاماً لما يعرف تاريخياً بالثورة السورية الكبرى التي كان لها أثر كبير في زعزعة الاستعمار الفرنسي وتوحيد سوريا سياسياً والتمهيد لطرد الفرنسيين من سوريا 1945، كما دعا إلى جيش عربي موحد لتحرير فلسطين سنة 1948.

وكان الحضور الدرزي في هذه الثورة ما هو إلا إشارة بالغة لخروج الطائفة من عزلتها الاجتماعية والسياسية منذ القرن التاسع عشر وأصبح لدى الطائفة الدرزية حضور ثقافي وسياسي واجتماعي واسع في الشام على سبيل المثال كمال جنبلاط زعيم الدروز اللبنانيين ومؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي، والشاعر الفلسطيني سميح القاسم، وغيرهما من الأدباء والشعراء والمفكرين، بالإضافة للتاريخ النضالي لعائلة الأطرش كما ذكرنا، والتي سيكون ضريح زعيمها سلطان باشا الأطرش الذي توفى سنة 1982 في قرية القاريا المكان الذي سيرفرف فيه من جديد علم الثورة السورية في مظاهرات الجمعة الماضية، وأحد أهم مراكز الاحتجاجات في السويداء هذه الأيام.

ما الذي يحدث في السويداء؟

دخلت الأحداث في الجنوب السوري منعطفاً خطيراً منذ أن تصاعد الخطاب السياسي للمحتجين ضد نظام بشار فقد تحولت الاحتجاجات من مجرد مطالب اقتصادية وفئوية إلى مظاهرات ضد نظام بشار الأسد مع رفع شعارات الثورة السورية الأخيرة التي بدأ نشطاء السويداء في محاولة ربط حراكهم بها والتلويح والمطالبة بتطبيق القرار الأممي 2254 الذي يدعو لرحيل بشار وحكومة انتقالية في سوريا.

وقد يعتقد البعض أن الأحداث الأخيرة في السويداء وليدة اللحظة فلم يكن للمحافظة أي نشاط يذكر أثناء الثورة والحرب الأهلية السورية، ولكن في الحقيقة فإن السويداء تحديداً بدأت منذ 2021 تشهد احتقاناً غير مسبوق نتيجة عدة تفاعلات اقتصادية وسياسية وأمنية. فالمدينة تتمتع بهشاشة القبضة الأمنية للنظام فيها، وبدأت تخضع لإدارة شبه محلية مع وجود رمزي فقط للنظام الحاكم، وغياب فاعلية أمنية على الأرض مع انتشار المخدرات والعصابات وتفاقم الأزمة الاقتصادية في سوريا.

زعماء روحانيون وسياسيون أيضاً

كان ظهور أحد الزعماء الروحانيين في الأحداث الأخيرة وهو الشيخ حكمت الهجري، وهو واحد من ثلاثة عقلاء يتزعمون الدروز روحانياً في جبل لبنان، حدثاً مثيراً للاهتمام، بخاصة مع خطاب الرجل التصعيدي ضد النظام مباشرة وليس فقط مجرد تبني مطالب اقتصادية.

ولكن سريعاً ما تزول حالة الدهشة عندما نكتشف أن الرجل كان سبباً رئيسياً في أحداث يناير/كانون الثاني 2021، عندما تعرض للإهانة من قبل رئيس فرع الأمن العسكري في جنوب سوريا، العميد لؤي العلي، بعد اتصال هاتفي طالب فيه حكمت الهجري بالإفراج عن شاب يبلغ من العمر 17 عاماً، ويعتقد أنه تم خطفه من قبل الأمن العسكري بحسب ما ذكر ريان معروف، مدير تحرير موقع السويداء 24.

وما لبثت تلك الحادثة أن صارت سبباً في مظاهرات واحتقان شديد في الأوسط الدرزية حاول النظام احتواءها بإرسال وفود أمنية وحزبية للاعتذار للشيخ حكمت في ضيافته.

ولكن يبدو أن تلك الحادثة إضافة إلى التدهور الأمني والاقتصادي في المحافظة أدى إلى حدوث فجوة عميقة ونار تحت الرماد في مناطق الدروز التي كانت بعيدة نسبياً عن الأحداث في سوريا وخاضعة للنظام، ورغم تأييد الشيخ حكمت السابق لنظام الأسد.

ولكن في ديسمبر/كانون الأول 2022، أصدر الشيخ حكمت بياناً مطالباً فيه بالكشف عن مصير كافة المختفين قسرياً وتحميل الأجهزة الأمنية ما وصلت إليه سوريا من فوضى ودمار وختم بيانه بالترحم على كل شهداء الثورة السورية مهما كان انتماؤهم وكان هذا البيان نقطة تحول كبيرة في موقف كثير من دروز سوريا تجاه نظام الأسد.

ومع ذلك فليس الدروز كلهم على قلب رجل واحد ولا حتى هيئتهم الروحية فهناك اثنان من مشايخ العقل المعروف انتماؤهم وتأيديهم للنظام ومخالفتهم لموقف الشيخ حكمت أثناء أحداث 2021، وهم حمود الحناوي ويوسف الجربوع، اللذان أصدرا أيضاً بياناً مثيراً للجدل رغم تأييده لمطالب المحتجين، فإنه تحاشى أي مساس بشرعية حكم الأسد مما أثار حفيظة كثير من نشطاء الحراك في السويداء.

مخاوف النظام

رغم سيطرة النظام في الفترة الأخيرة على الأوضاع السياسية في كثير من مناطق سوريا بدعم روسي إيراني وتفاهمات مع التركي واستعادة الاعتراف الإقليمي بعودة سوريا الأسد للجامعة العربية واستقبال بشار في عدد من العواصم العربية فإن الأحداث الأخيرة فجرت لدى النظام مخاوف جديدة من موجة أخرى من الثورة في سوريا. فبعد السويداء، يبدو أن درعا أيضاً استعادت روح الانتفاضة مرة أخرى بعد معاهدة مع النظام في 2018 ودخلت على خط الأحداث.

ولكن أكثر ما يخشاه النظام السوري الآن أن تخرج تلك الاحتجاجات من مناطق الدروز إلى الساحل العلوي السوري الذي يعتبر معقل النظام الرئيسي وقاعدته الشعبية، حيث الوجود العلوي الذي تنتمي إليه عائلة الأسد. فقد تأتي رياح التغيير بما لا تشتهي ومن حيث لا تدري سفن الأنظمة المستبدة.