في إحدى ضواحي العاصمة الغانية «أكرا»، وتحديدًا في بيت يقع على أطراف المدينة، يستيقظ «أسامواه» من نومه وبجانبه مجموعة من حبات الدواء المرمية على الأرض، ولا يتذكر أي شيء.

لا تسعفه ذاكرته سوى ببعض اللقطات المشوشة لحادث ألمَّ به وسط تجمع غفير، ويبدو عليهم جميعًا الخذلان، لا يدري بسببه أم بسبب من؟

يخرج أسامواه إلى الشارع، فيجد نور كاميرات هواتف المارة في الشارع موجهة صوبه، وكأنها أسلحة تُريد أن تفتك به، يزداد هلعه عندما يجد بعضهم يطارده، والبعض الآخر ينعته بالخيانة.

يحاول الفرار إلى أن يجد صورة تشبهه معلقة على إحدى الحانات القديمة، فيقرر الدخول؛ لعله يستطيع فهم أي شيء.

لماذا نحن هنا؟

في الحانة لم يختلف الوضع كثيرًا عما كان عليه في الشارع، الجميع يحملق فيه، لكن الفارق الوحيد أنهم ثمالى، فلا يستطيع أحد منهم أن ينبش بإصبعه، أو يحاول مضايقته.

يتلفت صاحبنا يمنة ويسرة، ولا يجد سوى مقعد شاغر بجانب أحدهم، فيقرر الجلوس بجانبه، يُلقي عليه التحية، فيجيبه: مرحبًا أسامواه.

هل تعرفني؟ يسأله أسامواه بشيء من الدهشة، فيجب ومن منا لا يعرفك، أنت أفضل ما في تاريخنا وأمر ما فيه، تُزيد الكلمات من دهشة أسامواه، ولا يعرف أيهذي هذا الرجل أم يعرفه حقًا؟ وإن كان ذاك حديثًا لرجل لعبت الخمر برأسه، فمن أين يعرف اسمه؟

يلتفت إليه أسامواه ويسأله، هل تعرفني حقًا؟ فيجيبه: أعرف عنك كل شيء منذ نعومة أظافرك إلى الآن، بل حتى أعرف تلك الخطيئة الشنيعة التي أوصلتك إلى هذه الحال، فيسأله أسامواه بشيء من اللهفة والاستعطاف؛ إذًا أخبرني بكل شيء؟

من أنا؟

يجيبه رجل الحانة بفتور تام: قبل أن أخبرك بخطيئتك الكبرى، يجب أن أُطلعك على الخطايا التي جابهتها بكل جسارة، قبل أن تسقط في فخ هذه الخطيئة، بل وعلمتنا كيف نجابهها أيضًا.

بدأت القصة في العاصمة الغانية أكرا عام 1985، لطفل وُلد لأسرةٍ فقيرة تسكن ضواحي المدينة، ابن «سيسيليا أمواكو»، «وبافور جيان»، لديك شقيقان، وأسرة تعيش على الفتات التي تكسبه من التجارة، لكنها تحمل مبدأً مفاده؛ أن التعليم هو الذي سينتشلهم من براثن الفقر.

حاول والداك بكل ما أوتيا من قوة أن يوفرا لك ولإخوتك كل ما تحتاجونه لإتمام تعليمكم، لكن كان لك رأي آخر، فقد ولدت وبين قدميك الكرة.

طفل يعمل بغير علم والديه في كل شيء، حتى يتسنى له توفير النفقات التي ستعينه على الانضمام إلى أحد الأندية التي قد تحقق له حلمه، هنا أنت واجهت خطيئة الفقر الذي نحياه جميعًا في هذا الجزء من العالم مضطرين، وبمنتهى الجسارة اخترت طريقًا غير السائد، أو لنكن أكثر دقة اخترت طريقًا يصعب على أمثالنا سلكه.

أفضل شيء في العالم أن تتخذ قرارًا مصيريًا في طفولتك عن شكل حياتك، ثم تحققه.
أسامواه جيان عن قرار ممارسته كرة القدم.

طائر على الطريق

في فريق «كولتس» أحد الفرق المحلية لمدينة أكرا، كانت بدايتك في كرة القدم، ومنها إلى فريق «ليبيرتي» في الدوري الغاني عام 2003، ومع تسجيلك 10 أهداف في 16 مباراة، اتجهت أنظار دول العالم الأول لك، كما يفعلون دائمًا مع كل ما تنتجه قارتنا.

كان ظهورك الدولي الأول في إحدى مباريات تصفيات كأس العالم ضد الصومال في نوفمبر 2003 علامة على ما سيحدث بعد ذلك، عندما سجلت هدفًا أتذكره إلى الآن بعد خمس دقائق من دخولك بديلًا في الدقيقة 77، ما جعلك أصغر هداف في تاريخ غانا، وما أوقعني في عشقك أيضًا.

في نفس العام، وفي «أودينزي» في إيطاليا الفريق الذي هبط لتوه لدوري الدرجة الثانية كانت الوجهة، حيث رفرف جناحاك.

وفي عام 2005 كانت البداية الحقيقية للفتى صاحب الـ20 عامًا، الذي سجل 8 أهداف، كانت كفيلة لوضع اسمه في قائمة منتخب غانا لكأس العالم 2006.

مشاركة أولى مونديالية جيدة لك في البطولة الأعرق، التي شهدت أول أهدافك أمام منتخب التشيك، عُد انتصارك انتصارًا لنا جميعًا، ووجدنا فيك وجهتنا التي ضللناها لسنوات.

كل ذلك وأسامواه يسمع من دون أن يُعقب، ويبدو على ملامحه الإعجاب بما يخبره رجل الحانة، وكذا الترقب لسماع الخطيئة التي محت كل ذلك.

أسامواه جيان أخبرني بأنه سيسجل في مرمى التشيك لذلك تسجيله للهدف لم يفاجئني

-دريك بواتنج لاعب المنتخب الغاني في كأس العالم 2006.

بطل شعبي يُشبهنا

جيان هو أحد أفضل المهاجمين الذين أنتجتهم أفريقيا وغانا.
جون بينتسيل الدولي الغاني السابق.

استمرت مسيرتك في النمو، وانتقلت للعب للدوري الإنجليزي، وتحديدًا إلى نادي سندرلاند، كما واصلت تألقك مع منتخب غانا.

تؤمن بما نؤمن به، ترتدي الرقم 3 في كل مسيرتك؛ لأن له دلالة دينية بالنسبة لك، تقص شعرك بطريقة تشبه العوام في ضواحي أكرا ومناطقها الشعبية، وتُصر على قصة الشعر تلك المسماة «الموهاك»، حتى وإن تسببت لك ببعض المشاكل مع جماهير من ثقافات مختلفة.

تعشق الموسيقى كما نعشقها جميعًا، لدرجة أنك أنشأت فرقة موسيقية تُدعى Baby Jet،  عندما التقيت صديقك كاسترو في إيطاليا عام 2005، وأحييت فيها تراثنا الغنائي الشهير -«Hiplife»-، حتى إن إحدى أغنياتك «Do The Dance» ، جابت العالم بأسره، رقصنا عليها هنا في هذه الحانة لليالٍ طويلة. كنت البطل الذي يشبهنا، البطل الذي يداعب المخيلة الشعبية لنا.

موسيقى «Baby Jet» أثرت على كثير من حياة الناس، وكان من الممكن أن يتبعها مزيد من النجاح، إنه لأمر رائع أن نرى شخصًا لديه موهبة كبيرة، أعتقد أنه حتى لو أعطيته سيناريوهات أفلام، فإن Baby Jet يمكنها أن تؤدي أداءً جيدًا للغاية، إنه مبارك، هذه الأشياء تأتي للأشخاص الذين يتمتعون بقلب طيب ونظيف وهو واحد منهم.
جون بينتسيل الدولي الغاني السابق عن صديقه أسامواه جيان.

يستمع أسامواه لكل ذلك بدهشة، إن كان كل شيء يبدو مثاليًا لهذه الدرجة، ما الذي أوصلنا لهنا إذًا؟ يتحدث أسامواه منفعلًا، يضرب بكفيه على المنضدة، فينظر له رجل الحانة بشفقة شديدة ويدعوه للهدوء والجلوس.

ليلة سقوط أكرا

كان كل شيء على ما يرام، حتى وطئت قدماك أرض البافنا بافنا، حيثُ المونديال الأفريقي الذي طال انتظاره، تأهل منتخبنا من دور المجموعات بأداء رائع بفوزين وهزيمة صعبة بهدف أمام ألمانيا، سجلت بنفسك هدفين من ركلتي جزاء في مرمى صربيا وأستراليا، وفي دور الـ16 استمر المنتخب في التألق وحقق الإنجاز، وفزنا على الولايات المتحدة الأمريكية بهدفين مقابل هدف واحد، سجلت أنت هدف الفوز في الدقيقة 93.

عشنا معك الحلم، كنت البطل الذي يعيش قمة نضجه الكروي، إلى أن أتت مباراة ربع النهائي أمام الأورغواي، هنا لم يتمالك رجل الحانة نفسه، ودخل في نوبة بكاء.

سجل سولي مونتاري الهدف الأول لغانا في الدقيقة الـ45 بتسديدة قوية من خارج منطقة الجزاء، لم يمض كثير حتى تعادل دييجو فورلان لأوروغواي في الدقيقة الـ55 من ركلة حرة مباشرة رائعة لتتجه المباراة للوقت الإضافي.

في الدقيقة الأخيرة من الشوط الإضافي الثاني، ومن ركلة حرة حدث ارتباك داخل منطقة جزاء أوروغواي ووضع ستيفان أبيا رأسية وسط الزحام تتجه إلى المرمى، لتكتب لأفريقيا نصف النهائي الأول في كأس العالم ولكن من العدم يظهر لويس سواريز ليحل محل فيرناندو موسليرا حارس المرمى الذي خرج من مرماه وينقذ الكرة بيده من على خط المرمى.

وقفت أنت على تنفيذ تلك الركلة، ومن غيرك يستحق لمثل هذه اللحظة، اللحظة التي سعت قارة بأكملها لها لأكثر من 80 عامًا، ثوانٍ بينك وبين أن تكون الرجل الأهم في العالم، خرجت الكرة من قدميك كالرصاصة، لكنها لم تسكن الشباك، بل اخترقت صدورنا، لم نعد أحياءً منذ هذه اللحظة.

ينفجر أسامواه في البكاء، يمر الشريط كاملًا أمام عينيه، الآن تذكر أنه مات حينها واقفًا.

معلقٌ أنا على مشانق الصباح

يحاول رجل الحانة تهدئته لكن من دون جدوى، بكى أسامواه الآن كما بكى ليلتها، يخبره رجل الحانة بأنه الهداف التاريخي لمنتخب غانا برصيد 51 هدفًا في 109 مباريات، وأنه الرجل الذي نال احترام جمهور 11 ناديًا لعب لهم خلال مسيرته، لكن أسامواه لم يعره أي اهتمام لذلك كله، بل كان سؤاله، ما الذي أوصلني إلى هذه الحال؟

يجيبه بشيء من الحسرة، علقت حذاءك منذ أيام قليلة، ولم تستطع أن تُنفذ وعدك بتعويض خيبتنا تلك؛ لذا استحققت العقوبة التي حكمت بها على نفسك، وهي أن تعيش لا تتذكر سوى تلك الخطيئة مدى الحياة، وتصير خطيئتك هي عقوبتك الأبدية، وتم تنفيذ ذلك عن طريق عقار صُنع خصيصًا لك.

شبح جزائية أوروغواي سيظل يطاردني طوال حياتي.
أسامواه جيان عن ركلة الجزاء المهدرة أمام منتخب أورغواي مونديال 2010.