كان القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) هو بامتياز قرن العلو السياسي لطائفة الشيعة الإسماعيلية في تاريخ الأمة الإسلامية. فقد نشطت تلك الدعوة بمختلف أطيافها بقوة منذ القرن السابق، الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، مستغلة اهتراء الخلافة العباسية، وشيوع الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى مثل ثورة الزنج العنيفة، ومستفيدة من الأثر العاطفي لتراكم المظالم ضد آل البيت ومن تشيَّع لهم من قبل السلطات العباسية ومن قبلها الأموية.

وهكذا بحلول منتصف القرن الرابع كانت قوتان بارزتان تعتنقان المذهب الإسماعيلي، تهيمنانِ على مساحةٍ كبيرة من الأقاليم الإسلامية، فأنشأ القرامطة دولتهم شرقيْ الجزيرة العربية وجنوبيّ العراق، والتي تمددت إلى بعض مناطق الشام أيضًا، وحاولت انتزاع مصر في قمة صعودها، أما القوة الثانية، فكانت هي الأبرز، وهي الخلافة الفاطمية التي بدأت كثورة شيعية تحت شعار نصرة آل البيت، ومبايعة إمام الزمان المنتسب إلى آل بيت الرسول (ص) من نسل فاطمة الزهراء، حتى هيمنت على معظم أجزاء المغرب الإسلامي، ثم انتزعت مصر عام 358 هـ = 969م، وظلت لأكثر من قرنيْن من الزمان تفرض نفسها كقوةٍ مؤثرة على خارطة الشرق الأوسط.

اقرأ: يوم سُرِق الحجر الأسود، واكتست الكعبة بالأحمر القاني

لكن لم ينتهِ ما في جعبة الشيعة الإسماعيليين عند هذا الحد، فقد شهد النصف الثاني من القرن التالي، وهو الخامس الهجري = الحادي عشر الميلادي، بزوغ نجم فصيلٍ جديدٍ من الشيعة الإسماعيلية، حظي بشهرةٍ غير اعتيادية، كفلها لقبهم الغريب؛ الحشاشون. والذين أنشأوا دولةً فريدة في بلاد فارس (إيران) وسيطروا على بعض النقاط الحيوية في الشام، ومثَّلوا تهديدًا لافتًا لكافة خصومهم على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، عبر أسلوب الاغتيال الانتحاري الذي برعوا فيه.

كانت المفارقة أن السياسة وتضارب المصالح وكذلك الخلافات المذهبية الدقيقة قادت القوى الإسماعيلية الثلاث للصدام، فدارت رحى حروبٍ طاحنة بين الفاطميين والقرامطة للاستيلاء على الشام ومصر، ثم اصطدم الحشاشون بالفاطميين في صدامٍ عَقَدي ودموي طاحن، كان أبرز ما أُريقَ خلاله من الدم، دماء الإمام الفاطمي نزار بن المستنصر، والذي أعطى فرقة الحشاشين اسمها الآخر الشهير، وهو فرقة الشيعة الإسماعيلية النزارية.

الحشاشون: دخول التاريخ من أضيق نوافذه

وصف «الحشاشون» على الرغم من اشتهاره، هو على الأرجح وصمٌ خطأ من المنظور التاريخي، روَّجت له بالأساس  المصادر الأوروبية المعاصرة لهم مثل الصليبيين، والتالية لزمنهم، والتي أشاعت  أن أفراد تلك الطائفة الشيعية الإسماعيلية كانوا يتعاطون جرعاتٍ كبيرة من مخدر الحشيش القوي، ليجعلهم أكثر جرأة في تحمل المخاطر ومواجهة الموت أثناء مهمات الاغتيال الانتحارية التي كان تصدر بأمر الأئمة، لا سيّما الإمام الكاريزميّ المؤسس للطائفة، الحسن الصباح.

.. واتفقت الأخبار الصادقة والكاذبة التي رويت عن الرجل على صفة واحدة فيه يُثبتُها الخبر الصحيح والخبر الكاذب على السواء، وهي الجنون بالسيطرة والغلبة، ونتعمد أن نسميها الجنون بالسيطرة ولا نسميها حبًّا للسيطرة ولا رغبة فيها؛ لأنه كان مغلوبًا لدفعه نفسه أو كان أول من غلبته تلك النزعة فمضى معها مسوقًا لها غير قادر على الوقوف بها ولا الراحة معها
عباس العقاد متحدثًا عن الحسن الصباح في كتابه: فاطمة الزهراء والفاطميون

أما في أكثرية المصادر العربية والإسلامية، فكان الوصفان الأكثر شيوعًا لتلك الطائفة، هما الباطنية، والفداوية. وهما وصفان أكثر دقة، فالباطنية معبّر من حالة الإبهام التي تحيط بتفاصيل عقيدتهم وأسرارهم المحجوبة عن عامة الناس والأتباع، إذ يستأثر بها كبار أئمتهم. أما الفداوية، فهو مُشتَقٌ من الفداء والتضحية، نظرًا لما اشتهر به معتنقوها من تضحياتٍ مُهلكة في سبيل تنفيذ مهمات اغتيال الخصوم والتي كانت تنتهي غالبًا بقتلهم بعد من قتلوه.

وتكثر الأساطير المنسوجة حول الحشاشين، ومؤسسهم الحسن الصباح، إلى الحد الذي يصعب معه تمييز الواقع من الخيال. فمثلًا تذكر إحدى الأساطير الرائجة أن الحسن كان يتلقى العلم في صباه في إحدى مدارس مدينة نيسابور- باكستان الحالية- وكان أبرز أصدقاء دراسته هو من سيكون في قابل أيامه أبرز وزراء دولة الأتراك السلاجقة السنية نظام المُلك الطوسي، والذي كان أول الضحايا البارزين لاغتيالات الفداوية بأمر رفيق دراسته، إذ تزعم الأسطورة أن الحسن قد حنق عليه لأنه خالف اتفاق الصبا بينهما أن من يترقى في مراتب السلطة، يرفع صديقه. ولذا فقبل توجهه من الشرق إلى القاهرة الفاطمية بحثًا عن فرصة الصعود، قرَّر أن يكون نظام الملك هو الهدف الأول لانتقامه المستقبلي الذي صدَّقتْه الأيام.

وكان الحسن قبل رحيله إلى القاهرة، قد اعتنق المذهب الإسماعيلي في سن السابعة عشرة من عمره، وتلقى علوم المذهب في مدينة الري- قرب طهران حاليًا- إحدى أبرز حواضر بلاد فارس، وأطلعه أستاذه ابن عطاش على كثير من الأسرار، وأعلمه أماكن العديد من الدعاة المستترين. وفي القاهرة التي وصلها عام 471 هـ (1078م)  بزغ نجم الحسن الصباح في الأوساط الفاطمية، وتقارب مع ولي العهد المنتظر نزار بن المستنصر، مما أحنق عليه رجل مصر القوي الوزير بدر الجمالي، والذي يخشى من صعود نجم ذلك الغريب الطموح، ومن تقويته للحزب الفاطمي المناوئ لهيمنته بزعامة نزار القوي. 

اضطر الحسن للرحيل من مصر بعد 3 أعوام، خوفًا من أن يتخلص منه بدر الجمالي بإحدى مكائده التي اشتهر بها. وبمجرد عودته إلى فارس، نشط في الدعوة السرية مستفيدًا من الكاريزما الشخصية اللافتة، واطلاعه الواسع على أسرار المذهب، فالتفَّ حوله المئات من الأتباع في سنواتٍ قليلة، رغم قمع دولة الأتراك السلاجقة المهيمنة آنذاك للشيعة الإسماعيليين، الذين مثلوا بالنسبة إليها عملاء لعدوها الأول، الدولة الفاطمية.

من أجل حماية دعوته الوليدة، قرَّر الحسن الاستيلاء على بعض المواقع الحصينة في بلاد فارس، لتكون مأوى له ولأنصاره، ومُنطَلقًا لدعوته وعملياته العسكرية. وكان أبرز تلك المواقع قلعة حصينة شاهقة الارتفاع، اخترقها أنصار الحسن تدريجيًا بشكلٍ خفي، حتى أصبحوا القوة الأبرز داخلها، ثم استولوْا عليها عام 483 هـ (1190م) فيما يشبه الانقلاب ضد حاكمها الذي فرَّ ناجيًا بحياته، كانت تلك هي قلعة ألاموت Alamut التي لم يغادرْها الحسن مطلقًا في 35 عامًا بقيت من عمره، حتى تُوفي خلف أسوارها الحصينة عام 518 هـ (1024م) بعد أن حوصِر داخلها أكثر من مرة من قِبل الجيوش السلجوقية التي لم تنجح في اختراق هذا الحصن المنيع، حتى اجتاحه القائد المغولي الشهير هولاكو بعد قرنٍ ونصف عام 656 هـ (1258م).

في السنوات القليلة التالية للسيطرة على ألاموت، ظهرت على خريطة بلاد فارس الدولة الإسماعيلية التي أسسها حسن الصباح، والتي تشكلت من سلسلة من الحصون المتباعدة جغرافيًا، وتربطها سلسلة معقدة وسرية من خطوط الاتصال، ويدعمها حاضنة شعبية مكونة من عشرات الآلاف من معتنقي المذهب القاطنين داخل حواضر بلاس فارس الكبرى مثل الري وأصفهان وسواهما. وكانت رسائل المباركة والتأييد تصل باستمرار إلى الحسن الصباح من الخليفة الفاطمي المستنصر، لا سيَّما من ذيوع أخبار عمليات الاغتيال الجريئة التي بثت الرعب في كافة أرجاء الدولة السلجوقية، وكان أبرزها اغتيال الوزير القوي نظام الملك عام 485 هـ (1192م).

لكن عام 487 هـ (1094م) تغيَّر كل شيء، عندما جاءت لحظة الحقيقة، وتوفي الخليفة المستنصر بعد 60 عامًا على عرش مصر.

مصرع نزار: الانفصام بلا عودة

توفى وزير مصر الفاطمية القوي بدر الجَمالي عام 487 هـ (1094م)، والذي كان لما يُقارب العقديْن من الزمن، ركز القوة والسلطة الحقيقي فيها، لدوره في انتشال مصر من الأزمة السياسية التي سببت انهيار البلاد إبان المجاعة الشهيرة المعروفة بالشدة المستنصرية. وقد ورث مكانه ومكانته ابنُه الأفضل شاهنشاه، والذي كان كأبيه يحظى بطموحٍ سياسيٍّ لافت، ويتصف بالمكر والدهاء. وبعد أشهر قليلة من وفاة الجمالي، لحق به المستنصر، خلفية الفاطميين وإمام المذهب الشيعي الإسماعيلي.

ورث الأفضل من أبيه أيضًا الخشية من قوة شخصية ونفوذ أبناء المستنصر الفاطمي الكبار، لا سيَّما نزار، الذي كان على خصومةٍ شخصية كبيرة مع الأفضل، وكان متأفِّفًا من هيمنة الوزير وأبيه من قبله على مقاليد الأمور. قرّر الأفضل أن يفرض في منصب الخلافة أصغر أبناء الخليفة الراحل وهو أحمد المُلقّب بالمستعلي، والذي كان زوجًا لأخت الأفضل، كما لم يكن قد أتمَّ عامه العشرين بعده، ولم يكُن له خبرة سياسية، مما سيُسهل للأفضل مهمة الاستئثار دونَهُ بالسلطة، وضمن ولاء  معظم قادة الجيش ودعمهم لتلك الخطوة. لم يتردَّد الأفضل في ضرب عنق كبير الدعاة الإسماعيليين في مصر، وبعض الدعاة والقضاة ورجال الدولة، عندما رفضوا بيعة المستعلي.

لم يرضخ نزار وهو أكبر أبناء المستنصر سنًا ومقامًا، وتسلَّل من القاهرة إلى الإسكندرية، وهناك أعلن نفسه خليفة، وبايعه أهل الإسكندرية، وبعض القبائل العربية، وكذلك عدد من قادة الجيش والأمراء من خصوم الأفضل، فاحتشد له الآلاف من المقاتلين، فقرَّر الزحف بهم إلى القاهرة على الفور، فقابلته جيوش الوزير الأفضل غير بعيد عن الإسكندرية، لكن نجح جيش نزار في الانتصار، واستولى على مناطق عديدة من الوجه البحري، واستمرّ في الزحف إلى القاهرة.

في العام التالي 488هـ (1095م)، نجح الأفضل في رشوة العديد من رؤساء القبائل العربية فانصرفوا عن نزار، وزحف بجيشٍ جرار لحصار الإسكندرية التي تحصَّن بها نزار بعد أن تفرقت قواته، واستمر الحصار وقصف المجانيق أشهرًا حتى استُنزفت المدينة، وفرَّ المزيد من حلفاء نزار، الذي اضطر للاستسلام آخر المطاف، مقابل الأمان، فقبل الأفضل، ثم غدر بنزار، فتتبع أنصاره في الثغر، وقتلهم دون رحمه،  ثم قتل نزار في القاهرة بعد أسابيع قليلة، بأن بنى حوله جدارًا حتى يموت دون إراقة دمه، إذ لا يجوز إسالة دماء نسل الأئمة!

ما إن بلغت تلك الأنباء الصادمة الحسن الصباح، حتى ناصبَ الأفضل والفاطميين من أنصار المستعلي العداء، وكفَّرهم، ذاكرًا أن الإمام وهو المستنصر الفاطمي كان قد أوصاه بمبايعة نزار إمامًا من بعده، ومنذ ذلك الحين عُرف أنصار الحسن بالشيعة الإسماعيلية النزارية، وتمزق الإسماعيليون إلى يومنا هذا. جديرٌ بالذكر، أنه في العصر الحالي، يعتنق بضعة ملايين من البشر المذهب الإسماعيلي النزاري، وزعيمهم الأغاخان من أغنى أغنياء العالم، ويتوزعون في مناطق عدة حول العالم لا سيَّما في آسيا والولايات المتحدة وأوروبا. 

اغتيالات في القاهرة 

.. تواترت الأخبار بتخويف الآمر من اغتيال النزارية له؛ وإعلامه بأنه قد خرج منهم قوم من المشرق يريدون قتله؛ فتحرَّز احترازًا كبيرًا، بحيث إنه كان لا يصل أحد من قطر من الأقطار، إلا ويفتش ويُستَقْصَى عنه. وأقام عدةً من ثقاته يتلقَّون القوافل ليتعرفوا أحوال الواصلين، ويكشفوا عنهم كشفًا جليًا..
تقي الدين المقريزي في أحداث عام 524 هـ من كتابه: اتعاظ الحُنفا بذكر الأئمة الفاطميين الخُلفا

وقد شهدت الأروقة الفاطمية في العقود التالية العديد من عمليات الاغتيال على الطريقة الفداوية، بعضها كان متأثرًا بزخم أفعال الحشاشين وانتحاريتهم، وبعضها كان من ارتكاب النزارية أنفسهم، كاغتيال الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله عام 524 هـ (1130م) والذي كمن له تسعة من النزارية المتسللين من بلاد فارس، ووثبوا عليه بالسكاكين في جزءٍ من الثانية غفل فيه عنه حرسه الخاص أثناء رسوه على إحدى جزر النيل كانت مخصصة للاحتفال، وبالطبع كالعادة قُتلت فرقة الاغتيال عن بكرة أبيها في الدقيقة التالية لتلك العملية الانتحارية.

كانت المفارقة، أنه قبل 9 أعوام، قُتِل الوزير الأفضل بن بدر الجمالي قاتل نزار، بأسلوبٍ شبيه بأساليب النزارية، ولكن كان هذا بأمر الخليفة الآمر بأحكام الله، والذي كان ابن المستعلي الذي أقامه الأفضل بدلًا من نزار. انقضّ على الأفضل 4 من المهاجمين في وضح النهار في آخر أيام رمضان من عام 515 هـ، مستغلين غفلة خاطفة من حرسه أثناء انشغال موكبه بتوزيع الصدقات، واعتوروه بالسكاكين، قبل أن يفيق الحرس ويفتكوا بثلاثة منهم ويفر الرابع. 

وكان الاغتيال في وضح النهار أيضًا مصير الوزير أحمد بن الأفضل- كان يلقب بـكُتيفات- عام 526 هـ (1132م) والذي كان شيعيًا إماميًا يكره الإسماعيلية، فانقض عليه 10 من حرسه الخاص، واغتاله في ساحة سباق الخيل في قلب القاهرة، لكنهم نجوا جميعًا، لأنه كان مكروها لأسبابٍ سياسية ومذهبية، ولأنه سجن الخليفة الفاطمي الحافظ بن الآمر.

ولم يكد هذا الخليفة الحافظ الفاطمي يستقر في ملكه، حتى جاءته الأنباء بأن الحُسين بن نزار، يحشد جيشًا كبيرًا في المغرب، ويجهز للانتقام لأبيه الذي قُتِل قبل 38 عامًا، ولانتزاع حكم مصر. وجد الحافظ أنه لا قبل له بحرب جيش الحسين، فأغرى بعض أفراد جيشه بالمال، فاغتالوه، وتفرق جمعه.