على الرغم من تحريم الإسلام للتنجيم، ومحاولة التنبؤ بالغيب عن طريقه، فإن بعض الخلفاء والسلاطين لم يكونوا يبرمون أمرًا ولا يقدمون على اتخاذ القرارات المصيرية دون الرجوع لآراء المنجمين، لذا احتل عدد منهم مكانة ومنزلة داخل قصور الخلافة.

وتذكر الدكتورة عبير عبدالله العباسي في دراستها «الخليفة والمنجم: سياسات التنجيم الحكمي في بدايات العصر العباسي – الخليفة المنصور وتحفيز ثقافة التنبؤات»، أن ثقافة كشف الغيبيات سادت في جزيرة العرب في عصر ما قبل الإسلام، وكان التنجيم أحد أوجه الكهانة التي تبوأت مكانة رفيعة في ذلك المجتمع، لما أظهرته من قدرة على التنبؤ بالمستقبل، ومع ظهور الإسلام، أنكر الرسول وأتباعه جميع فروع المعرفة المتعلقة بالكهانة، ومنه التنجيم، باعتبار ما تحمله من دلالات تصب في معنى الشرك بالله.

وعلى الرغم من هذا التحريم لمثل هذه النوعية من الممارسات المتعلقة بالمعرفة الغيبية، فإن التنجيم استعاد مجده وبريقه كأحد فروع المعرفة الإنسانية، على يد أوائل الخلفاء العباسيين، نتيجة تبنيهم أيديولوجية حاكمة اعتمدت التنجيم كاستراتيجية أساسية في تثبيت دعائم حكمهم، بعد أن خبت – أي التنجيم – في العصرين النبوي والراشدي، وإلى حدٍّ ما في العصر الأموي.

لذا فُتحت ساحات بلاط السلطة العباسية لممارسة نشاطات التنجيم دون قيود ملزمة من سلطة دينية، وذلك بغرض تحقيق أهداف سياسية، لم تكن لتتحقق بغير عون من تلك المعارف التنجيمية، إذ اعتبر الخلفاء العباسيون التنجيم أداة لا غنى عنها في تأكيد سلطتهم المطلقة كحكام شرعيين.

بداية العلاقة بين الخلفاء العباسيين والمنجمين

عن ابتداء العلاقة بين الخليفة العباسي ومنجمه، يروي ابن كثير صاحب «البداية والنهاية»، أنها كانت في ذلك اللقاء الذي جمع الخليفة جعفر المنصور مع المنجم نُوبخت بن فروخان (59-160هـ) في أحد سجون بني أمية قبل قيام دولة بني عباس، وأن هذا الأخير توسّم في المنصور الرّياسة أول ما رآه، وقال له مستفسرًا: «ممن تكون؟»، فقال: «من بني العباس»، فلما عرف منه نسبه وكنيته، قال: «أنت الخليفة الذي تلي الأرض»، فرد المنصور متعجبًا «ويحك.. ماذا تقول؟»، فرد المنجم واثقًا من نبوءته: «هو ما أقول لك، فضع لي خطك (توقيعك) في هذه الرقعة أن تعطيني شيئًا إذا وُليت»، فكتب له المنصور، فلما ولي الخلافة أعطاه المنصور ما خطه في الرقعة من وعود، وأسلم نوبخت على يديه، وكان قبل ذلك مجوسيًا، ثم أصبح من أخص أصحاب المنصور.

وترى «العباسي»، أن هذه النوعية من الأخبار المنقولة عن الخليفة المنصور دعت بعض التراجم التاريخية الباحثة في سيرته إلى تصويره أنه كان مصدقًا في النبوءات التنجيمية، بل ومُسيّرًا لبعض شؤون مملكته على أساسها، لذا كان يصغي إلى أقوال المنجمين وينفق عليهم، بحسب ما ذكر محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي في كتابه «سير أعلام النبلاء».

وتثبت هذه النوعية من الأخبار أيضًا توافق طبيعة عمل المنجمين مع أيديولوجية الحكم العباسي الذي بنى سلطته على ادعاءات تعزز من صورة ملكه على أنها حتمية الوصول، وأنها مكتسبة قدريًا، لذا أصبح التنجيم الوسيلة المفضلة للحكام العباسيين من بين وسائلهم الأخرى المعتمدة على الغيبيات، في تعزيز مفهوم سلطتهم، ويوافق ما بين تصور العباسيين لأنفسهم بأنهم خلفاء الله في أرضه، بقدره واختياره، وتأكيد المنجمين لهذا التصور من خلال ربطه بأحكام النجوم.

وقد أدرك منجمو بلاط الحاكم العباسي جيدًا الدور المنوط بهم تأديته، وهو توظيف فهم التغيرات الكونية الحاصلة في عصرهم على أنها دلالات تشير إلى تغيرات حاصلة في عوالم البشر تظهر صعود العباسيين لا محالة إلى الحكم، وتثبت حصوله على أنه إرادة إلهية حتمية التحقق، عبرت عنها تغيرات النجوم ومواقعها الفلكية، ذكرت «العباسي».

بناء مدينة بغداد على حسابات تنجيمية

لم يقتصر استخدام العباسيين للنبوءات النجومية في تثبيت دعائم الحكم فقط، بل وجهوها أيضًا لتنفيذ أوامر ديوانية صادرة عن بلاط الخلافة، فعندما أراد المنصور تغيير مقر حكمه من الهاشمية إلى مدينة جديدة، لم يبتدئ بناء عاصمة دولته الجديدة «بغداد» إلا بعد استشارة منجميه لإرشاده إلى أفضل الأماكن وأنسب الأوقات لرمي أساسات مدينته، وفي ذلك يروي أبو الريحان البيروني في كتابه «الآثار الباقية عن القرون الخالية»، أن رئيس منجمي القصر حينها «نُوبخت» أمر أن يكون ابتداء البناء في الثالث والعشرين من تموز من سنة 1074 للإسكندر، وفقًا للتقويم الإغريقي، الموافق 26 من ربيع الثاني 145هـ، و23 يوليو من عام 762م.

وبعد الانتهاء من بناء بغداد، استرشد المنصور أيضًا بمنجميه في معرفة طالع المدينة، فأخبروه بظهور المشتري في برج القوس، ما يثبت «طول زمانها، وكثرة عمارتها، وانصباب الدنيا إليها»، ويزيد أحدهم بالقول «وأبشرك يا أمير المؤمنين – أكرمك الله – بخلة (صفة حسنة) أخرى من دلائل النجوم، لا يموت فيها خليفة من الخلفاء أبدًا»، فيبتسم الخليفة على هذه النبوءة الضامنة لثبات واستمرارية حكم العباسيين، ويرد بما يوحي أن هذه الدلالات النجومية هي تأييد رباني لملكهم «الحمد لله، ذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم»، بحسب ما نقلت الباحثة عن الحافظ أبي بكر البغدادي في كتابه «تاريخ بغداد».

ويروي أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه «تاريخ الرسل والملك»، أن المنصور عندما أراد أن يبني مدينة «الرافقة» بأرض الروم في عام 154هـ امتنع أهل الرقة وأرادوا محاربته، وقالوا «تُعطل علينا أسواقنا، وتُذهب بمعاشنا، وتُضيق منازلنا»، فهم بمحاربتهم، وبعث إلى راهب في صومعة، فقال: «هل عندك علم أنه يُبنى هَهنا مدينة؟»، فقال له «بلغني أن رجلًا يقال له مقلاص يبنيها»، فقال المنصور «أنا كنت أُدعى مقلاص في حداثتي»، فبناها على طراز مدينة بغداد سوى السور، وأبواب الحديد، وخندق منفرد، وهنا استخدم المنصور النبوءة لتحقيق هدف سياسي.

والغريب أن نفس الرواية سبق أوردها البغدادي عند الحديث عن بناء مدينة بغداد، ما يشير إلى أن المنصور اعتمد في تنفيذ مثل هذه الأمور السياسية على نبوءات راهبين، وعضد لها بحسابات المنجمين، ليلقى قراره قبولًا واستحسانًا من الناس الذين كانوا يعارضون بناء المدينتين، فعلى الرغم من أن تجارتهم ومساكنهم ومعيشتهم تضررت، فقد استطاعت تلك النبوءات امتصاص غضبهم، وإظهار الأمر على أنه تقدير رباني حتمي النفاذ حتى لو تعارض مع مصالح العامة، بحسب «العباسي».

نبوءات الحرب

نبوءات المنجمين أثبتت فاعلية أيضًا في أوقات الحروب والمعارك في عهد الخليفة المنصور، يذكر علي أحمد بن يعقوب بن مسكويه في كتابه «تجارب الأمم وتعاقب الهمم» ما ينبه إلى أن من أسباب ثبات المنصور عند محاربة الطالبيين محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم، ابني عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ما أخبره به منجم يدعى «الحارصي»، عندما استشعر جزع المنصور من خروج الأخ الأكبر منهما (النفس الزكية): «يا أمير المؤمنين ما يجزعك منه؟ فوالله لو ملك الأرض ما لبث إلا تسعين يومًا».

وكان خروج النفس الزكية على المنصور في الأول من رجب لعام 145هـ/762م، ومقتله قبل عيد الفطر بثلاثة أيام من السنة نفسها، وبالتالي تكون جملة المدة ما بين خروج النفس الزكية على المنصور والظفر به، ثم مقتله، لا تتجاوز التسعين يومًا التي أخبر بها المنجم المنصور.

ويذكر ابن مسكويه أيضًا أن نُوبخت المنجم ثبته في قتال إبراهيم الأخ الأصغر للنفس الزكية، حينما هم بالعدول عن قتاله، بعد أن التحم الفريقان، فقال «يا أمير المؤمنين، الظفر وستقتل إبراهيم»، فيرفض المنصور ابتداءً تصديق الخبر، ويحاول المنجم جعل المنصور يصدقه، فيقول «احبسني عندك، فإن لم يكن الأمر كما قلت اقتلني».

وبينما الأمر كذلك جاءت الأخبار بهزيمة إبراهيم ومقتله، ثم يُقطع المنصور المنجم مزرعة بنهر حويزة بالعراق، وذلك لما ظهر منه من صدق نبوءته.

وبحسب «العباسي»، كان تداول مثل هذه الأخبار يضفي صلاحية للدور المنوط بالمنجمين لعبه في البلاط الملكي، فهم يطمئنون بتأكيد الدعم والتأييد الرباني له، وفي المقابل يربكون صفوف العدو، الذين صدّقوا هذه الأقاويل وتأثروا بها.

طوفان نوح ورياح عاد

سار خلفاء المنصور على نهجه في الاستعانة بالمنجمين، وتذكر الدكتورة نوال ناظم محمود في دراستها «دور المنجمين في حياة رجال الدولة عبر العصور 656هـ/1258م»، أن الخليفة المهدي (158-169هـ) كان له منجم رسمي يدعى ثيوفيلوس بن نوفا، وكان مسيحيًا، وتنبأ بأن موت سيده (أي المهدي) سيكون بعيد موته بقليل، فكان كما قال.

وعلى الرغم من أن عهد الخليفة المأمون (198-218هـ) ازدهر بالعلوم الطبيعية والفلسفية والدينية والفلكية، فإنه اهتم بالمنجمين كما كان سلفه السابقون، حيث استعان بعبدالله بن نوبخت في اختيار وقت البيعة التي عقدها لعلي الرضا (ت203هـ)، فاختار طالع السرطان وفيه المشتري.

وخلال العصر العباسي، أصبح المنجمون من الموظفين، وخُصصت لهم أرزاق في بلاط الخلفاء ودواوين الوزراء ومجالس الأغنياء، بحسب ما روت «ناظم».

ومع ذلك، لم يكن المنجمون دائمًا صائبين، حيث حذروا الخليفة المعتصم من فتح عمورية سنة 233هـ وأنذروه بالهزيمة أو المرض إن فعل ذلك، ونصحوه بأن يؤخر غزوها، لكنه خالفهم وفتح تلك البلدة وعاد سليمًا معافى.

واستمر الخلفاء العباسيون في الاهتمام بالمنجمين وتسيير حياتهم على أقوالهم، ففي عصر الخليفة المستظهر بالله (470-508هـ) اجتمع في سنة 489هـ ستة كواكب في برج الحوت، وهي الشمس والقمر والزهرة والمشتري والمريخ وعطارد، فحكم المنجمون بطوفان يقارب طوفان نوح، فأحضر الخليفة المنجم ابن عيسون، وسأله عن هذا الأمر فقال له «إنه في طوفان نوح اجتمعت الكواكب السبعة في برج الحوت، والآن اجتمعت ستة منها، وليس فيها زحل، فلو كان معها لكان مثل طوفان نوح»، وأخبره المنجم أيضًا أن بقعة ما من الأرض يُخشى عليها من الغرق، دون تحديدها، فخاف الناس على بغداد وحصونها، ولكن لم يحدث فيها أي شيء، وعندما نزل الحجاج في وادٍ أتاهم السيل فغرق عدد كبير منهم، بحسب ما نقلت «ناظم» عن عزالدين بن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ».

وفي حكم الخليفة الناصر لدين الله (575-622هـ) أجمع المنجمون على أن اجتماع الكواكب السبعة سنة 582هـ في برج الميزان، وهو هوائي، يدل على خراب العالم، وأن ريحًا من ريح قوم عاد ستهب عليهم، وعين المنجمون اجتماع الكواكب في ليلة النصف من شعبان، وجلسوا لدى الخليفة والشموع تتقد، فلم يتحرك منها وساد ركود في تلك الليلة، لكن بعد ذلك خرج التتار ووقع منهم فساد وعاثوا في البلاد وأفنوا في العباد وقتلوا الخليفة المستعصم بالله (640-656هـ)، روت «ناظم».

الفاطميون والتنجيم

وفي عصر الدولة الفاطمية في مصر، ظهر التنجيم واللجوء إليه بوضوح، ذلك أن الخلفاء الفاطميين كانوا يعشقون الخفاء والأساطير، لذا كان المنجمون جزءًا من بلاط الخلفاء، إذ لجأ السلاطين والقادة إليهم قبل الإقدام على إعلان حرب أو بناء مدن أو عقد الهدن والمعاهدات، بحسب ما ذكر الدكتور محمد عبدالسلام عباس في دراسته «التنجيم والتنبؤ بالغيب في مصر خلال العصر الفاطمي 358-567هـ/ 969-1171م».

وتوضح المصادر والمراجع المتداولة، أنه عند بناء مدينة القاهرة جمع القائد الفاطمي جوهر الصقلي المنجمين، وطلب منهم أن يختاروا طالعًا لحفر أساس المدينة، فجعلوا قوائم بين الأخشاب، وبين كل قائمة خشبية جعلوا حبلًا فيه أجراس، وأفهموا البنائين أن يرموا ما بأيديهم من الطوب اللبن والحجارة في الأساس عند تحريك الأجراس.

ووقف المنجمون لتحري هذه الساعة وأخذ الطالع، إلا أن غرابًا وقف على خشبة من هذه الأخشاب فتحركت الأجراس فرمى البناؤون الأساس، فصاح المنجمون «لا.. لا القاهر في الطالع»، وكان القاهر اسمًا للمريخ، ومن هنا سميت المدينة «القاهرة».

وكان الخليفة المعز لدين الله الفاطمي (362-365هـ(، مغرمًا بالتنجيم، وعاملًا بأقوال المنجمين، وتوضح الروايات أنه ذات يوم أخبره أحدهم بأن عليه قطعًا (أي أمر يجب تنفيذه وتشبه النذر) في وقت حدده له المنجم، وطلب منه ضرورة أن يختفي في سرداب حتى يمر ذلك الوقت.

وعلى الفور، نفذ المعز ما أشار به المنجم، وأحضر قواده قبل دخوله إلى ذلك السرداب، وقال لهم «إن بيني وبين الله عهدًا أنا ماض إليه، وقد استخلفت عليكم ابني نزار فاسمعوا له وأطيعوا».

واختفى المعز في السرداب مدة عام، ولما طالت غيبته على جنده ظنوا أنه رُفع إلى السماء، بحيث كان الفارس منهم إذا نظر إلى الغمام ينزل من حصانه ويلقي السلام عليه، ثم ظهر المعز بعد ذلك، وظل مدة حتى توفي عام 365هـ، وتولى مكانه ابنه العزيز بالله.

ادعاء الخلفاء معرفة الغيب

كما كان الخليفة العزيز بالله الفاطمي (365-386هـ) مهتمًا بالمنجمين، وكان من أشهرهم المنجم الإفريقي محمد بن عبدالله بن محمد العتقي، الذي وُصف بأنه رجل فاضل، له معرفة في عدة علوم وحظي بتكريم الخليفة المعز وابنه العزيز من بعده، إلا أن هذا الرجل صنّف كتابًا في تاريخ بني أمية وبني العباس، وذكر فيه شيئًا من محاسنهم وجميل أفعالهم، واطلع الوزير يعقوب بن كلس على بعض أجزاء هذا الكتاب فأخبر الخليفة العزيز بالله بذلك، ثم وبخ الخليفة المنجم العتقي على هذا الكتاب، وأخذ منه ضيعة كانت أُعطيت له، فلزم العتقي داره حتى توفي عام 385هـ.

وكان العزيز نفسه يدعي معرفته بعلم الغيب مما عرضه للتهكم، إذ قيل إنه صعد المنبر ذات يوم فرأى رقعة مكتوب فيها:

بالظلم والجور قد رضينا       وليس بالكفر والحماقة
إن كنت أُعطيت علم الغيب     فقل لنا كاتب البطاقة

ويقال إن العزيز بالله أقلع عن ادعائه بالغيب بعد تلك الواقعة، بحسب ما ذكر «عباس».

وعلى نفس النهج، كان الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي (386-411هـ) مغرمًا بالتنجيم، إذ اهتم برصد النجوم لمعرفة ما ورائها من الأحداث، وشجع المنجمين وأغدق عليهم المنح والعطايا، حتى سيطر المنجمون على عقول كثير من الناس في عهده.

وكثيرًا ما ادعى الحاكم بأمر الله معرفته بالغيب، فيخبر أمراءه ووزراءه بما قالوه أو فعلوه، وكان يحتال في ذلك عن طريق اتفاقه مع العجائز اللاتي يدخلن بيوت الأمراء أو الوزراء، فيتجسسن عليهم ويخبرنه بأقوالهم وأفعالهم.

وكان للحاكم بأمر الله منجمًا يسمى «العكبري»، وكان عظيم الشأن في التنجيم، فلما قامت انتفاضة مدينة صور ضد الخليفة الحاكم أمر بتجهيز الأسطول لإخماد تلك الانتفاضة، وطلب هذا المنجم من الخليفة أن يعهد إليه بقيادة هذا الأسطول ليخرج إلى صور في الوقت الذي يراه مناسبًا، واشترط «العكبري» على نفسه إن لم يستطع الانتصار كان من حق الخليفة أن يقتله، فوافقه الخليفة على ذلك، وقام المنجم بتعيين طالع لخروج الأسطول، واستطاع أن يظفر بثوار مدينة صور، وعاد بالأسطول سالمًا فزاد شأنه وعلا نجمه.

وبلغ من شأن «العكبري» أنه رأى ذات يوم في تنجميه أن في الموضع المعروف بـ«بركة رسيس» على ساحل البحر مسجدًا قديمًا رثًا، وطلب أن يُسمح له بهدمه لأن تحته كنزًا عظيمًا، واشترط على نفسه إن لم يجد الكنز أن يعيد بناء المسجد من جديد، فهدم المسجد ووجد الكنز وظلت البغال تنقل منه على القصر أيامًا، وكافأه الخليفة الحاكم على ذلك بمال جزيل، بحسب ما روى «عباس».

بيد أن هذا المنجم أسرف في التباهي بالتنجيم وأخذه الغرور، وكان يقول «يكون كذا يوم كذا»، ومن ثم تشوقت إليه قلوب الناس، وامتدت إليه عيونهم، وتناقلت الألسن الحديث عنه، فأمر الخليفة الحاكم بقتله، فقُتل وأُحرقت جثته.

ونتيجة لهذه الأمور، ولرغبة الخليفة الحاكم في إبعاد الشبهة عن علوم أهل البيت لما أذاعه الناس عنه وعن آبائه بادعائهم علم الغيب، فقد أمر في عام 404هـ بحظر التنجيم، بل وأمر بنفي المنجمين عن البلاد، فجمعهم واشترط عليهم التوبة، فعفى عنهم وألغى عقوبة النفي.

ومع ذلك ظل الخليفة الحاكم حريصًا على رصد النجوم، بل وحتى في قصة اختفائه ومقتله ما يفيد بتعلقه برصد النجوم وتصديقه بالتنجيم، حيث توضح الروايات المختلفة أنه خرج في الليلة التي قُتل فيها إلى جبل المقطم وفاءً لقطع رآه في التنجيم، ثم خرج من باب القاهرة متتبعًا كوكبًا في الماء، حتى اعترضه عبدان أرسلتهما أخته «ست الملك» وقتلاه، وبالتالي كانت قصة موته وانعدام أثره في ظروف غامضة عاملًا جديدًا أسهم في إذكاء شغف كثير من الخلفاء والرعية للتطلع إلى ما وراء الغيب.