تتصاعد موجة العداء والاعتداء على المسلمين بالغرب في أعقاب كل اعتداء مسلح في إحدى المدن الأوروبية.

فمع استمرار الاحتجاج الألماني المعادي للمسلمين ضد ما يطلق عليه «أسلمة أوروبا»، جاء الاعتداء على جريدة شارلي إبدو الفرنسية ليزيد الاحتقان في أوروبا.

نحن أمام ثلاثة أطراف رئيسية، على الأقل، مسؤولة عن الأزمة وعن معالجة تداعياتها، طرفان عاجزان أو غير راغبين في معالجة الظاهرة، وهما الحكومات الغربية والأنظمة العربية، وطرف يمتلك مقومات المساهمة في تغيير المعادلة ويجب العمل معه، ويتمثل في القوى الحية في مجتمعاتنا العربية.


حكومات الغرب

تصر الحكومات الغربية على عدم الربط بين ظاهرة الإرهاب وبين السياسات والممارسات الفعلية لهذه الحكومات. في واقع الأمر هناك مساحات متعددة ذات صلة لا يجب أبدا تجاهلها، أولها المواقف المزدوجة للغرب من قضيتين رئيسيتين تهم كل شعوب المنطقة، هما مشكلة فلسطين ودعم السياسات العنصرية الإسرائيلية من جهة، ومشكلة الحريات والديمقراطية والتحالف مع الحكام المستبدين من جهة أخرى.

تصر الحكومات الغربية على عدم الربط بين ظاهرة الإرهاب وبين السياسات والممارسات الفعلية لهذه الحكومات

ولقد لخّص أستاذ علوم سياسية أمريكي، هو جايسون براونلي، هذا الأمر فيما يخص مصر، وذلك في دراسة مطولة، قائلا أن مصر صارت حليفا استراتيجيا لأمريكا منذ توقيع معاهدة السلام، وأن دعم أمريكا لحكام مصر تركز على ثلاثة مجالات أساسية، هي الدفاع الوطني، واستقرار الاقتصاد، والقمع الداخلي، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة قدمت مساعدات بنحو 60 مليار دولار لمصر، لهدف غير معلن هو تحقيق مصالح أمريكا بالمنطقة وهي الحفاظ على أمن «إسرائيل»، وتقوية العلاقات مع منتجي البترول بالخليج، ومكافحة «الإرهاب الإسلامي»، وعرقلة قيام الديمقراطية.ولأصحاب المصلحة في الإبقاء على سياسات الغرب التقليدية تكتيكات كثيرة، منها تكتيك «الحرب على الإرهاب»، وفيها يتم استغلال حوادث الارهاب بالغرب لإدخال المنطقة في صراعات ممتدة. فالمنطقة العربية عادة ما تدخل في «حرب على الإرهاب» بالتزامن مع ظهور مطالب شعبية لإحداث تغيير حقيقي في نمط السلطة القائمة. حدث هذا مرارا وكانت المرة الأخيرة هي الحرب الحالية التي ظهرت في أعقاب الثورات العربية الأخيرة.لكن ما لا تدركه الحكومات الغربية هو أن أي حرب على الإرهاب عادة ما ينتج عنها تصاعد الغضب الشعبي تجاه الدول الكبرى، بل وتفضيل الآلاف من الشباب الانضمام إلى الحركات المسلحة المناهضة للغرب. لتظل العلاقات الغربية/العربية تدور في دائرة مغلقة من الكراهية والعنف. هذا بجانب أن التاريخ يعلمنا أن هذه الصراعات وتفاعلاتها تعمل على المدى الطويل لصالح حركات التغيير الكبرى وخاصة لدى الأمم الكبرى.وهناك مساحة أخرى هي رفض دوائر صنع القرار في الغرب بذل أي جهد لتغيير الصورة النمطية عن المسلمين والإسلام في الصحافة والإعلام وبعض الدوائر البحثية بالغرب، ولهذا عندما أثيرت أزمة عرض الفيلم المسيء للرسول محمد عليه الصلاة والسلام بأمريكا، سمعنا تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة وغيرها من المسئولين عن عدم قدرتهم على منع عرض الفيلم المسيء.وهذا أمر غير صحيح، فالطبع لا يوجد قانون يمنح الحكومة سلطة المنع، لكن الواقع شيء مختلف. وفي المقابل، أليس المساس بإسرائيل وانتقاد ممارساتها أو التشكيك في الهولوكوست من المحرمات بقوة الواقع هناك وليس بالقانون؟ وهناك مساحة ثالثة لها علاقة بطبيعة المجتمعات الرأسمالية وتحكم الشركات الكبرى، الأمر الذي يحول دون معالجة مسألة أخرى تسهم في ظاهرة العداء تلك، وهي التداعيات السلبية للعولمة وطبيعة العلاقات غير العادلة بين الجنوب والشمال. وهذا أمر لا يخص الدول العربية فقط، وإنما جُل دول الجنوب في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.إن طبيعة النظام الدولي للتجارة والاستثمارات الدولية، والقائم على محاباة الدول القوية على حساب الدول الصغيرة، تؤدي على المدى الطويل إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية والسياسية والأمنية داخل دول الجنوب في مرحلة أولى، ثم امتداد آثار هذه المشكلات إلى الأنساق الإقليمية والدولية في مرحلة تالية.لابد دوما تذكير الغربيين بكل ما سبق، وان كنت أشعر أنه صار من العبث بعد أكثر من ستين عاما مطالبة الأمريكان والغربيين تعديل سياساتهم حتى تتم معالجة كافة الآثار السلبية لهذه السياسات علينا وعليهم . فهؤلاء أنفسهم غير قادرين على مواجهة مشكلاتهم هذه في ظل علاقات القوة الداخلية عندهم. ولهذا فالصحيح هو استخدام مواقف الغربيين المزدوجة لتعرية سياسات حكوماتهم، والعمل على التعامل معهم بمنطقهم وتغيير سياساتنا نحن تجاههم لدفعهم دفعا إلى تغيير مواقفهم.


القوى الحية في المجتمعات العربية

الصحيح هو استخدام مواقف الغربيين المزدوجة لتعرية سياسات حكوماتهم، والعمل على التعامل معهم بمنطقهم وتغيير سياساتنا نحن تجاههم لدفعهم دفعا إلى تغيير مواقفهم

كان الأمل معقودا، في أعقاب ثورات العرب، أن تظهر حكومات عربية وطنية تقوم بمعالجة تداعيات تلك السياسات والظواهر، إلا أن موجة الثورات المرتدة والحروب الأهلية أخرت إلى حين هذا الأمر. ومن هنا يأتي دور القوى الحية في المجتمعات العربية من حركات شبابية ومجتمع مدني ومنظمات حقوقية ومجموعات ومنتديات ثقافية وغيرها.إن حركة العداء للمسلمين لابد أن تستغل، لا بإعطاء أي شرعية لأعمال العنف، أو بالتظاهر وإحراق الأعلام واقتحام السفارات في المدن العربية كما حدث في السابق، فهذه الأفعال لن تعالج قضايانا العادلة، والعالم يستهجنها، بل ويتم استغلالها من قبل البعض لإظهار العرب والمسلمين كمناصرين للعنف وأعداء للحرية.إن المطلوب هو إدانة كل أعمال العنف والارهاب أولا، ثم العمل على ترجمة الغضب من سياسات الغرب المزدوجة وتجاوزات الحمقى بالصحف الغربية إلى عمل منظم يستهدف المساهمة في التعبير بشكل حقيقي عن مصالحنا وقيمنا وتعرية الممارسات الغربية وإجبار الحكومات هناك على تعديل مواقفها واحترام مصالحنا. فالقوة لا توقفها الا القوة.

المطلوب هو إدانة كل أعمال العنف، ثم العمل على ترجمة الغضب من سياسات الغرب إلى عمل منظم يستهدف التعبير بشكل حقيقي عن مصالحنا وقيمنا وتعرية الممارسات الغربية

ويحتاج هذا الجهد الى مشروع مقاومة شامل تقوده حكومات وشعوب، إلا أنه يمكن التمهيد له، بل ويجب التمهيد له، بعمل شعبي متعدد الأبعاد، وعلى مستويات أو جبهات ثلاث رئيسية على الأقل.فهناك أولا الجبهة السياسية الداخلية، وهي الاستمرار في مقاومة الثورات المضادة وتعبئة الجماهير للقيام بموجات ثورية جديدة حتى تؤسس حكومات وطنية حقيقية تعرف كيف تتعامل مع مصالح شعوبها وتقف لسياسات الهيمنة.وهناك جبهة خارجية لابد من التواصل فيها مع كل القوى والحكومات الحية والمنظمات الإقليمية والدولية في جميع أنحاء العالم وكافة المتضررين من السياسات الغربية، وذلك للتنسيق والتضامن في كافة المواقف المناهضة للعولمة والهيمنة، ومواجهة الحكام الفاسدين والحكومات العسكرية ومنتهكي حقوق الانسان، والضغط من أجل سن قوانين محلية وتوقيع اتفاقيات دولية تحد من سياسات الاستغلال وتمنع الإساءة إلى الأديان والرموز الدينية. وربما يحتاج هذا الأمر إلى منتدى دولي شعبي يجمع كافة القوى الحية في العالم، المناهضة لكل صور التعدي على حقوق الإنسان من فساد واستبداد وهيمنة.وهناك جبهة تتصل بالعمل الثقافي والإعلامي في الداخل والخارج لإظهار عدالة قضايانا الوطنية وكسب التعاطف الدولي معها. وثمة قضيتان عادلتان لابد أن تكونا في الصدارة. الأولى تتصل بإظهار الوجه الحقيقي للإسلام وبالطريقة التي يفهمها الغربيون من جهة، والعمل على نصرة الاسلام ورموزه بالبدء من الداخل والتمسك بكل السلوكيات التي دعانا إليها الرسول الكريم، والتقيد بأبجديات الاسلام في الحرام والحلال، وقيادة الأمة نحو امتلاك أدوات القوة في هذا العصر كالتسلح بالعلم والمعرفة والتمسك بالحقوق والحريات والعمل على تأسيس دولة المؤسسات والقانون ومعارضة الفساد والاستبداد والإقصاء.أما القضية العادلة الثانية فهي قضية فسطين، التي لابد أن تعود كما كانت دوما قضية مصرية محلية، وقضية محلية في كل قطر عربي. ولن يتم هذا إلا بإعادة تعريف الصراع في فلسطين والمنطقة كلها، وتشكيل فرق عمل حقوقية واعلامية وتوعوية لفضح ممارسات قوات الاحتلال وأساطيره ومخططات التطهير العرقي والعزل العنصري أمام كافة شعوب الأرض من جهة، ومعالجة الآثار السلبية المترتبة على تجاهل أنظمتنا السياسية والتعليمية والإعلامية أبجديات هذا الصراع وطرق معالجته حضاريا ونفسيا واعلاميا وعسكريا وذلك من جهة اخرى.تمكين الشعوب وتقويتها وتعزيز سبل التواصل بينها كفيل بتمهيد الأرض للتغيير وقيام حكومات وطنية ومسؤولة أمام شعوبها، والتصدي لكل صور الكراهية والإقصاء والهيمنة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.